سلسلة الأربعون الرمضانية – المقالة الحادية والثلاثون| الشيخ د. محمود مصري

بسم الله الرحمن الرحيم

الباب السادس: من أحكام الصيام

 لا حرج على المسافر

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: “غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسِتَّ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ”. متفق عليه.

يدلُّ الحديث الشريف دلالة واضحةً على رخصة الإفطار في رمضان حال السفر من جهة، وعلى عدم كراهة الصيام في السفر من جهة ثانية، أي على جواز الحالتين في السفر. ووجه الدلالة في قول الراوي من الصحابة، وهو أبو سعيد الخُدري رضي الله عنه: (فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ).

يقول ابن الأثير رحمه الله: في هذا الحديث: بيان التساوي بين الصوم والفطر في السفر، لقوله: فمنا الصائم ومنا المفطر.. وإنما قدم الصائم على المفطر؛ لأن الأصل في رمضان الصوم والفطر طارئ عليه بالسفر، فلذلك قال: فمنا الصائم ومنا المفطر، وقال أيضًا: فلم يعب الصائم على المفطر، ولا الفطر على الصائم. ومساق الحديث هو أن الصوم والفطر في السفر جائزان، ولذلك قال: لم يعب أحد الفريقين على الآخر.

وقد اتفق العلماء على هذا الحكم في جواز الأمرين في السفر، وخالف في ذلك داود الظاهري، حيث حرَّم الصوم في السفر. قال صاحب التوضيح: “وهو حجَّة على من زعم أن الصائم في السفر لا يجزئه صومه؛ لأنَّ تركهم لإنكار الصوم والفطر يدلُّ أن ذَلِكَ عندهم من المتعارف المشهور الذي تجب الحجَّة به، ولا حجَّة لأحد مع خلاف السنة الثابتة، وقد ثبت أنه ﷺ صام ولم يعب على من صام ولا على من أفطر، فوجب التسليم له.

وهل يترجَّح الصيام أو الفطر؟

ساوى بعضهم بين الأمرين، وهو مذهب ابن عباس باعتبار الحديث السابق، وذهب جماعة إلى أن الإفطار أولى، وبه قال الأوزاعي وأحمد ويروى ذلك عن ابن عمر. وذهب آخرون إلى أن الصوم أولى؛ لتبرئة الذمَّة، وهو قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب أبي حنيفة رحمهم الله، وهم الأكثرون، لقوله تعالى: ﴿وأن تَصوموا خَيْرٌ لكم﴾ ]البقرة: 184[. هذا إذا أطاق الصوم؛ فأما من يجهده الصوم فالأولى له الإفطار، وفي مثله قال ﷺ: (ليس من البرِّ الصيام في السفر)، وما روي أنه بلغه أن بعض الناس قد صام، فقال ﷺ: (أولئك العصاة)، فقد حمله الشافعي على من يصوم ردًّا للرخصة ولا يرى الفطر مباحًا. وقالت طائفة: أفضل الأمرين أيسرهما عليه، لقوله تعالى: ﴿يُريدُ اللهُ بكُمُ اليُسْرَ﴾ ]البقرة: 185[. وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وقتادة ومجاهد.

قلت: ويشهد للقول الثالث ما جاء في بعض الروايات للحديث من زيادة: (يَرَون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويَرون أن من وجد ضعفًا فافطر فإن ذلك حسن). وكان ذلك في غزوة الفتح، فقد كانت في ذلك الوقت من الشهر.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَهُوَ نَصٌّ رَافِعٌ لِلنِّزَاعِ.

وقد ورد في جامع ابن وهب عن حمزة بن عمرو الأسلمي قال: بعثني رسول الله ﷺ في رمضان، فقلت: كيف لي بالصيام؟ فقال: (اتبع أيسر ذلك عليك).

وثمَّة مسألة فرعية أنه إذا نوى الصيام وهو مقيم، ثم سافر في أثناء النهار، فذهب الجمهور إلى أنه ليس له أن يفطر، وأجازه أحمد وإسحاق وغيرهما.

المصادر والمراجع

  • البدرُ التمام شرح بلوغ المرام، للحسين بن محمد بن سعيد اللاعيّ، المعروف بالمَغرِبي، ت علي بن عبد الله الزبن، دار هجر، ط1، 1414هـ/ 1994م.
  • التوضيح لشرح الجامع الصحيح، لابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي، ت دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، دار النوادر، دمشق، سوريا، ط1، 1429هـ/ 2008م.
  • الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه (صحيح البخاري)، لمحمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، ت محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية)، ط1/ 1422هـ.
  • الجامع لأبي محمد عبد الله بن وهب بن مسلم المصري القرشي، رفعت فوزي عبد المطلب وعلي عبد الباسط مزيد، دار الوفاء، ط1، 1425هـ/ 2005م.
  • الشَّافِي فيْ شَرْح مُسْنَد الشَّافِعي لابْنِ الأثِيرْ، أبي السعادات المبارك بن محمد بن محمد الجزري، ت أحمد بن سليمان وأبي تميم يَاسر بن إبراهيم، مَكتَبةَ الرُّشْدِ، الرياض، ط1، 1426/ 2005م.
  • شرحُ مُسْنَد الشَّافِعيِّ، لعبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم، أبو القاسم الرافعي القزويني، ت أبي بكر وائل محمَّد بكر زهران، وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية إدارة الشؤون الإِسلامية، قطر، ط1، 1428هـ/ 2007م.
  • فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة، بيروت، 1379م.
  • الكاشف عن حقائق السنن (شرح الطيبي على مشكاة المصابيح)، لشرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي، عبد الحميد هنداوي، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة – الرياض، ط1، 1417هـ/ 1997م.
  • المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (صحيح مسلم)، لمسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
  • المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني، ت محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1417هـ/ 1996م.

________________________________________

[1]  البخاري من طريق أنس في الصوم (بَابٌ لَمْ يَعِبْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الصَّوْمِ وَالإِفْطَارِ) 3/ 34، ومسلم في الصيام (بَابُ جَوَازِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ إِذَا كَانَ سَفَرُهُ مَرْحَلَتَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ لِمَنْ أَطَاقَهُ بِلَا ضَرَرٍ أَنْ يَصُومَ، وَلِمَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ) 2/ 786.

[2]  الشافي في شرح مسند الشافعي 3/ 211.

[3]  التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقِّن 13/ 345.

[4]  انظر: شرح مسند الشافعي 2/ 200، والكاشف عن حقائق السنن للطيبي 5/ 1597، وإكمال المعلم بفوائد مسلم 4/ 70.

[5]  المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم، 3/ 197.

[6]  فتح الباري 4/ 186.

[7]  الجامع لابن وهب 1/ 165.

[8]  البدر التمام شرح بلوغ المرام للمغربي 5/ 67.