سلسلة إرشاد الشباب | الموسم الأول “الشباب والدين” |المقالة السابعة | لا تكن إمعة | الشيخ عبد السميع ياقتي

لا تكن إمعة

الحمد لله مثبت المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، و الصلاة و السلام على من جاء بالنور و الهداية للقلوب و العقول الحائرة، سيدنا محمد و على آله و صحبه و العترة الطاهرة ، و بعد :

(التثبت و الثبات على المبادئ) هومن أهم القضايا و الصفات التي يحتاجها شبابنا اليوم، في ظل كثرة المتغيرات من حولهم و كثرة الفتن و الشبهات التي تعصف بهم ..

فكيف يكتسب شبابنا هذه الصفات و كيف يمارسونها و يعلمونها لغيرهم؟؟ هذا ما سنتعلمه في هذه المقالة المميزة و التي هي بعنوان ” لا تكن إمعة” ضمن سلسلة إرشاد الشباب في موسمه الأول الذي يناقش قضايا الشباب و الدين

فكما مر معنا في المقالة السابقة قول سيدنا عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه : اغْدُ عالِمًا، أو مُتعلِّمًا، ولا تَغْدُ إمَّعةً فيما بيْنَ ذلك. (تخريج مشكل الآثار للطحاوي:ص 407)

فما معنى “الإمعة”، و لماذا ينبغي علينا اجتناب هذا الوصف، و تحذير شبابنا من الاتصاف به؟

يقول سيدنا عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي لله عنه : قال كنّا في الجاهليةِ نُسَمِّي الإمَّعَةَ الذي يأتي الطعامَ ولم يُدْعَ إليه إلّا أنّ الإمَّعَةَ فيكم المُحْقِبُ دينَه.(الهيثمي ، مجمع الزوائد 4\59) أي : الّذي يتبع كلّ أحد على دينه..

و قال أيضاً: ألا لا يقلّدنّ أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنّه لا أسوة في الشّرّ.” (الشاطبي ، كتاب الاعتصام 2\359).

و كما يروي لنا سيدنا حذيفة بن اليمان ضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال:” لا تَكونوا إمَّعةً ، تَقولونَ: إن أحسنَ النَّاسُ أحسنَّا ، وإن ظلَموا ظلَمنا ، ولَكِن وطِّنوا أنفُسَكُم ، إن أحسنَ النَّاسُ أن تُحسِنوا ، وإن أساءوا فلا تظلِموا.” (رواه الترمذي)

فهذا هو المعنى الاصطلاحي، وأما المعنى اللغوي: فالإمّعة هو الرجل الضّعيف الرّأي القائل لكلّ أحد أنا معك. (لسان العرب ٨/ ٣- ٤)

يقول ابن الأثير: الإمّعة الّذي لا رأي له، فهو يتابع كلّ أحد على رأيه، وقيل: هو الّذي يقول لكلّ أحد أنا معك.  (النهاية لابن الأثير ١/ ٦٧).

وعن الفضيل بن عياض- رحمه الله- قال:” اتّبع طريق الهدى، ولا يضرُّك قلّةُ السّالكين، وإيّاك وطرق الضّلالة ولا تغترّ بكثرة الهالكين” (لسان العرب ٨/ ٩٨)

وعن سيدنا علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: إنّ هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير، والنّاس ثلاثة: فعالم ربّانيّ، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق.” (الشاطبي ، كتاب الاعتصام 2\358).

فمن منا يرضى أن يكون كذلك …!!؟

لذلك فقد ورد النهي – كما مر معنا في الأحاديث – عن الاتصاف بهذا الوصف بكل معانيه اللغوية أو الشرعية فهو مذموم في كل حال

و الآن بعد أن عرفنا معنى الإمعية و أدركنا حقيقتها المذمومة المنهي عن الاتصاف بها

فكيف نحصن شبابنا و نقوي فيهم صفة الثبات على المبادئ في زمن المحن و المتغيرات ؟ أو ما هي الخطوات العملية في تربية شبابنا على الثبات و تسليحهم به ؟

أولاً – التأسيس الصحيح والتحصين يؤدي إلى الثبات:

و هناك فرق بين التأسيس أو التربية وبين التعليم ، فالتأسيس و التربية قبل التعليم

فمشكلة شبابنا الأساسية اليوم ليست في كون الكثير منهم لا يعلمون أحكام الإسلام أو قراءة القرآن فحسب …. بل مشكلتهم تكمن أولاً في الضعف الداخلي و بالانبهار و الاغترار بما يرونه أمامهم ليلاً و نهار، عبر وسائل التواصل ، و ما يسرب إلى نفوسهم من تثبيط و تخاذل ،و ما يُساقون إليه من حوارات و مناقشات قائمة على المراء و التجادل ، بغير علمٍ و لا هدى و لا كتاب منير

لذلك أقول يجب علينا أولاً تحصين شبابنا و تأسيسهم، تأسيساً نفسياً و تأسيساً دينياً و أخلاقياً

و هناك مبادئ و قواعد في هذا المجال، فعلى سبيل المثال:

تحديد الهوية الشخصية و استقلالها و الاعتزاز بها

و التي من أهم صفاتها الأساسية التي يجب أن يتمتع بها صاحب هذه الشخصية :

– أن يكون صاحب عقل إيجابي ناقد ببصيرة و علم .. لا يتقبل كل ما يقال أو يسمع أو يفعل بل يجب عليه اتباع منهج التثبت و الاختبار و الاختيار..( فليس كل ما يقال يسمع و لا كل ما يسمع يقال و لا كل ما يرسل  في وسائل التواصل ينشر و لا كل ما ينشر يرسل …)

– أن يخضع الأمور لميزان النفع و الضر ، الخير و الشر ، الحسنات و السيئات .

– أن يكون إنسانا مؤثرا غير متأثر إلا بما هو خير بعد أن تتضح عنده الرؤية، فيتأثر بها و يؤثر بعد ذلك في غيره .

ثانياً- الثبات هو ثمرة منهج و تعليم إيماني صحيح :

وهذه القاعدة مكملة للتي قبلها و مرتبطة بها ؛ فغرس مبادئ العقيدة الصحيحة و التنشئة الأخلاقية و النفسية السليمة في الصغر؛ تورث الثبات عند الكبر و عند المحن . و هذا ما لمسناه في حديث سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه، كما مر معنا في المقالة الأولى كيف أكون مؤمناً حقاً .

ثالثاً – الثبات هو ثمرة عدم التعرض للفتن و المقدمات :

و قد عبر القرآن عن هذا المنهج بكلمات ” ولا تقربوا الزنى” و ” فاجتنبوه” .

فترك مقدمات المحرمات و غض البصر و ترك الاختلاط المحرم و رفقاء السوء و مواقع السوء و وسائل و تطبيقات السوء .. يؤدي إلى مرحلة ترك الشبهات ..

وعندها يكون هذا الشاب قد استبرأ لدينه و عرضه كما قال عليه الصلاة و السلام :” فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه و عرضه و من وقع في الشبهات و قع في الحرام.” (متفق عليه)

رابعاً – التثبت يورث الثبات :

فمن ليس له منهجية في التثبت في كل شأن، لن يكون قادراً على مواجهة المحن و الفتن ..

و هذا التثبت يكون على حسب أنواع المحن :

فالمحن الكبرى (الفكرية و العقدية) : كما في حيث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :” تكون بين يدي الساعةِ فِتَنٌ كقِطَعِ الَّليلِ المظلِمِ، يُصبِحُ الرجلُ فيها مؤمنًا، و يُمسي كافرًا، و يمسي مؤمنًا و يصبِحُ كافرًا، يبيع أقوامٌ دِينَهم بعَرَضِ الدنيا.” (أخرجه الترمذي و الحاكم)

فهذه تحتاج إلى تثبت من المعلومات و فهمها و نقلها و أخذها عن أهلها.

والمحن والفتن الأخلاقية والمشاكل المجتمعية: فهذه تحتاج إلى تثبت في اختبار الأخبار و نقلها، وفي اختيار الصحبة الصالحة و نصحها، و التثبت في غرس القيم الأخلاقية وتربية النفس و تزكيتها. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (٦) (سورة الحجرات 6) ،و في قراءة ( فتثبتوا)

و أما الابتلاءات و المصائب الدنيوية : فهذه تحتاج إلى تثبيت العقيدة الإيمانية و خاصة الإيمان بالقضاء و القدر ،و ترسيخ مبدأ ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (سورة التوبة 51)

خامساً – الثبات يكون بتهيئة الشباب وتربيتهم على القيام بالمهمات وقت المحن والأزمات:

و هذه نماذج من ثبات الشباب وقت الأزمات :

– حال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليلة الهجرة، كيف نام في فراش النبي صلى الله عليه و سلم، ثم خلفه في رد الأمانات إلى قريش

– وكذلك تكليف سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه بجمع القرآن ،و قد هيَّئَهُ صلى الله عليه و سلم لذلك، فهو من كتاب الوحي، و هو من أكثر الصحابة حفظاً وعلماً بالقراءة و الكتابة و اللغات.

فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه ،أنه قال: ” أرسَلَ إليَّ أبو بكرٍ رضي الله عنه مَقتَلَ أهلِ اليَمامةِ، فقال: يا زَيدُ، إنّكَ غُلامٌ شابٌّ عاقلٌ، لا نَتَّهِمُكَ، قد كنتَ تَكتُبُ الوَحيَ لرسولِ اللهِ ﷺ، فتَتَبَّعِ القُرآنَ فاجْمَعْهُ. قال زيدٌ: فواللهِ لو كلَّفُوني نقلَ جبلٍ مِن الجبالِ ما كان بأثقَلَ عليَّ ممّا أمَرَني به مِن جمعِ القُرآنِ.” (أخرجه البخاري ٤٦٧٩، والترمذي ٣١٠٣، والنسائي في «السنن الكبرى» ٧٩٩٥ ، وأحمد ٢١٦٤٤)

سادساً – الثبات يكون بالدعاء و الالتجاء إلى الله تعالى:

و قد جعلت هذه الخطوة آخراً؛ لأن كل الخطوات السابقة إنما هي أسباب ظاهرية، و كلها ترجع في حقيقة الأمر إلى الدعاء و تتوقف عنده.

فالرجوع إلى الله وحده، و الالتجاء إليه في الشدة و الرخاء بالدعاء، هو السبب الحقيقي في الثبات، فهو سبحانه الذي بيده الأمر، و هو الذي قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء كما أخبرنا صلى الله عليه و سلم و كما قال الله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا و في الآخرة.) (سورة إبراهيم ٢٧) و هذا هو الثبات أو التثبيت اللدني

و يقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى في كتابه القيم ” الحكم العطائية “

من علامات النُجح في النهايات ، الرجوع إلى الله في البدايات.

و في الختام هذه رسائل موجهة إلى :

1- الشباب: 

– ضرورة التوجه إلى أهل العلم والاختصاص الموثوقين في التعلم والبحث والسؤال والفهم

-و عدم التعرض لأسباب الفتن و مقدماتها و مواطنها

2-الأهل و المعلمين و المسؤولين عن تربية الشباب و تعليمهم:

-عدم إهمال التأسيس و التحصين منذ الصغر

-عدم غلق باب الحوار و المناقشة مع الشباب ،و الإجابة على أسئلتهم مهما كانت، و الاستعانة بأهل الخبرة في ذلك عند العجز أو عدم المعرفة.

-عدم اليأس من الشباب وعدم التعامل معهم على هذا الأساس، فيؤدي إلى التثبيط بدلاً من التثبيت

3-المجتمع عامة: من الجهات الرسمية وغير الرسمية، والإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، و منصات التعليم و غيرها

و ذلك عن طريق دعم وتهيئة وسائل الثبات عند الشباب بإتاحة فرص التعلم والتعليم، وعقد دورات ومؤتمرات للشباب ، لمناقشة قضاياهم و مشاكلهم ،و إشغالهم و استثمار طاقاتهم بما ينفعهم و ينفع أمتهم و دينهم ،و هذا جزء مما تقوم به مؤسسة سيكرز جايدنس العالمية للعلوم الشرعية

فنسأل الله تعالى لهم التوفيق و القبول و السداد و الثبات في خدمة الدين و إرشاد المسلمين حول العالم فجزاهم الله كل خير

اللَّهُمَّ وَفِّقْنا إلى ما تحبُّ وترضَى، وخُذْ بِنَواصِينا إلى التقوى، واجْعلْنَا من عبادِكَ الصادقينَ الثابتين على الهدى و الحق العالمين العاملين المتقينَ الفائزينَ بجناتِ النعيمِ يا ربَّ العالمين.

و الحمد لله رب العالمين

و صلى الله و سلم على سيدنا محمد و على آله و أصحابه أجمعين