سلسلة من أدبه قبل علمه | الموسم الثاني | مظاهر أدب النبي ﷺ مع ربه سبحانه | المقالة الثالثة | الشيخ أنس الموسى

مظاهر أدب النبي ﷺ مع ربه سبحانه

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيِّدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا.

وبعد: فهذا هو اللقاء الخامس عشر وما يزال الحديث عن الآداب متجددًا وقد ذكرنا في اللقاءين الماضيين صورًا من مظاهر أدب سيدنا ونبينا محمدٍ ﷺ مع رب العزة والجلال واليوم بمشيئة الله تعالى سنتابع الحديث في نفس المحور فنذكر المزيد من مظاهر أدب نبينا محمد ﷺ مع ربه سبحانه.

أيها الأحبة: المتأمل في سيرة المصطفى ﷺ وأوصافه ودلائل نبوته؛ سيرى اتصافه بحسن الخلق واضحًا، وما طبع عليه من كمال الأدب ماثلًا، وهو أمر شهد له به القرآن بقول الله تعالى: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ كما شهد له به أصحابه رضوان الله عنهم، بل وكما شهد له به أعداؤه والفضل – كما يقولون – ما شهدت به الأعداء، بل وما عرفه الناس به قبل البعثة وبعدها، فكان ﷺ يخالط الناس ويواجههم، ويستقبل الوفود ويستضيفهم، ويزدحم الناس عليه في المواسم والمواقف، وربما آذوه بالإلحاح في الطلب؛ فما حفظت عنه كلمةٌ تُعاب، ولا نُقِل عنه فِعل يُنتقد، بل كان يقابل جهل الجاهلين بالحلم والعفو والإحسان.

وإذا كانت هذه بعض مظاهر أدب المصطفى ﷺ مع الخلق – وما أكثرها – فكيف هي مظاهر أدبه مع الخالق سبحانه وتعالى؟

 الحقيقة أيها الإخوة إن أدب المصطفى مع الخلق هو فرع أدبه مع خالقه جل وعز، بل أثرٌ من آثار خشيته لله وتعظيمه له، وفَرْط حبِّه لذاته، وخضوعه لجلاله، فكان أدبه بعيدًا عن التكلُّف والتصنُّع، موسومًا بالعطف على الناس، بعيدًا عن الزِّراية بهم أوالنِّقمة عليهم، فلم يَدْعُ يومًا على قومه بالهلاك والاستئصال، بل كان يطلب لهم الهداية والمغفرة، قائلاً – في أشد المواقف إمعانًا في إيذائه والكفر به -: ” اللهمَّ اهْدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون”.

حتى دعائه صلى الله عليه وسلم على بعض الأشخاص في بعض المواقف، فكان من القليل النادر الذي خرج عن ذلك الأصل العام؛ وهو إنما كان في حق بعض أعداء الدين الذين أثخنوا في المسلمين الجراح، واستطالوا في ظلمهم وطغيانهم، واستبدوا على الضعفاء لردعهم عن توحيدهم وإيمانهم، ففي هذه الحالة استعمل النبي صلى الله عليه سلاح الدعاء، والدعاء أيها الأحبة هو في حقيقته تبرؤ من الحول والقوة والاستنصار بالله جل وعز، وتوجه إليه تعالى أن يكفي المسلمين المستضعفين شر هؤلاء الظالمين المعتدين، الذين أسرفوا في الطغيان.

 لقد كان الغالب الأعم، من هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو الدعاء للناس بالخير والهداية، وتغليب العفو والصفح والمسامحة، رجاء أن يكتب الله عز وجل للمخطئ المغفرة، وللضالّ الهداية، وللمبتلى العفو والعافية؛ ولهذا لا يُحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم قط أنه دعا على مسلم في حياته، إلاّ مرات يسيرة معدودة ، في مقامات خاصة فلم يكن ﷺ لعانًا ولا سبَّابًا لأحد رغم المواقف الشديدة التي واجهها في حياته بسبب بعض المعاندين والمستكبرين وقد قيل له: ” يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَال  إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً” (صحيح مسلم: باب النهي عن لعن الدواب وغيرها 4/2006 ح 2599) كيف لا ورسول الله ﷺ هو الذي قال: “إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ، وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.” (صحيح مسلم: باب النهي عن لعن الدواب وغيرها 4/2006 ح 2598)

ولنترك سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه يروي لنا أحداث هذه القصة التي تبين رحمة النبي ﷺ وما حباه الله به من كمال الخُلق، وبلوغ الغاية في ذلك، وأن دعائه على أحد بحكم الجبلة البشرية، وما يعتريها من الغضب إنما هو في حقيقته أن يجعل الله ذلك الدعاء كفارة لمن نزلت به دعوته ولم يكن أهلا لها، قال: كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ، وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ، فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَتِيمَةَ، فَقَالَ: ” آنْتِ هِيَهْ؟ لَقَدْ كَبِرْتِ، لَا كَبِرَ سِنُّكِ” فَرَجَعَتِ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: مَا لَكِ يَا بُنَيَّةُ؟ قَالَتِ الْجَارِيَةُ: دَعَا عَلَيَّ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنِّي، فَالْآنَ لَا يَكْبَرُ سِنِّي أَبَدًا، أَوْ قَالَتْ قَرْنِي، فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا، حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَدَعَوْتَ عَلَى يَتِيمَتِي قَالَ: ” وَمَا ذَاكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟” قَالَتْ: زَعَمَتْ أَنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنُّهَا، وَلَا يَكْبَرَ قَرْنُهَا، قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: ” يَا أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ شَرْطِي عَلَى رَبِّي، أَنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ، مِنْ أُمَّتِي، بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.” (صحيح مسلم: باب من لعنه النبي ﷺ 4/2009 ح 2603)

أما دعائه ﷺ على الذي أبى ألا يأكل إلا بشماله فقد أجاب عن هذا العلماء بأجوبة كثيرة توجد في مظانِّها ولا يحتملها هذا الوجيز، فإن الأصل العام لهدي النبي صلى الله عليه وسلم هو الرفق في الأمر كله، بل مدحه ربه جل وعلا بذلك، فقال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة 128]. وقال سبحانه أيضًا: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران159].

أيها الأحبة: لقد كان من بالِغ أدبه ﷺ أنه كان يشعر أن فضائله إنّما هي قَبَسٌ من فضل الله عليه، فكان إذا صبَر على بلاءٍ، يشكر ربه على توفيقه ومعونته، بل كان يستغفره في اليوم أكثر من سبعين مرةً؛ خوفًا من تَبِعة التقصير.

تذكر لنا كتب السيرة أن رسول الله ﷺ ذهب يومًا إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الإسلام، فردُّوه، وأغروا به سُفهاءَهم وعبيدهم، يَعفِرونه بالتراب، ويَحصِبونه بالحجارة، وهو يستقبل شدة المحنة صابرًا محتسبًا يبتغي رضا ربه، وألا يكون الذي نزل به صلى الله عليه وسلم بسبب سخط من الله تعالى، فما هو إلا أن جلَس إلى ظلِّ شجرة يَستعيذ بالله من غضبه ويتضرع إليه، قائلاً: ” اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلّة حيلتي وهَواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكنَّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصَلَح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنزل بي غضبَك، أو تُحِلَّ عليَّ سخطَك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك”.

وهذا مظهر فريد آخر من مظاهر أدب المصطفى مع رب العزة والجلال فقد كان ﷺ في أدبه مع ربه مثلاً بليغًا في الرضا بقضائه، والشكر على نَعمائه، والصبر على بلائه، والتسبيح بحمده والإخلاص في دعائه، والصدق في العبودية له، والحياء من جلاله؛ حتى استحقَّ من ربه مقامًا محمودًا، وثناءً كريمًا، فهذا إبراهيم ابن المصطفى ﷺ وفلذة كبده يجود بنفسه، كما يروي أنس رضي الله عنه قال: “فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِالصَّبِيِّ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَكِيدُ بِنَفْسِهِ، قَالَ: فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَاللهِ إِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَصحيح البخاري: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ».” (2/83 ح 1303، مسند أحمد 20/316 ح 13014 واللفظ له).

ولسائل أن يسأل: هل يشتكي النبي ﷺ لفقد ولده؟ وهل دعاء النبي وشكواه تحمل معنى التضجر والاعتراض مما نزل به من تكذيب القوم في الطائف بعد طول محاولته التي لم تثمر نتيجة خلا الإيذاء والتكذيب؟

الجواب على هذا السؤال أيها الأحبة أن الدعاء والضراعة لله تعالى والتذلل على بابه صنف من أصناف العبودية والطاعة، بل إن الدعاء والإلحاح على الله تعالى به هو عين العبودية لله عز وجل، هذا شيء، والشعور بالألم والبكاء من النوازل المؤلمة التي تنزل بالإنسان شيء آخر؛ لأن الإنسان مهما علا شأنه، وسما قدرُه لا يخرج عن طور البشرية، فقلبه يحزن وعينه تدمع لأنهما منفعلان، لا فاعلان، فالله هو الذي أضحك وأبكى، وقلوب بني آدم كلُّها بين إصبَعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يُصرِّفه حيث يشاء، فالقلب منفعل، والعين منفعلة، ولكن اللسان هو الفاعل، فإن قال العبد بلسانه عند نزول الكُرب والشدائد: ﴿إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون﴾ فهو العبد الراضي عن أقدار ربه  الصابر على أحكامه ، وإن دمعت عينه وحَزِن قلبه؛ فمِن حِكم نزول المحن والمصائب والشدائد إظهارُ العبودية لله تعالى، وتمييزُ الخبيث من الطيب، وتكفير السيئات، ورفع الدرجات، وإيقاف العبد على باب مولاه خاضعًا ذليلاً، وهذا منتهى الأدب مع رب العزة والجلال ، فليس بين الصبر على المكاره، والشكوى إلى الله تعالى أي تعارض فرسول الله ﷺ كان راض عن الله تعالى مهما كان الثمن ” إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي”. وصدق الله إذ يقول: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت 2-3]

أيها الإخوة: من صور أدب المصطفى مع رب العزة والجلال حاله يومَ بدر، وهو حالٌ يشبه إلى حد قريب حالَ المصطفى يوم الطائف، وهو حالُ التذلل والافتقار بين يدي مالك الملك، وهو عين الأدب أيضًا فقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم يطمئِنُ أصحابه الكرام بتأييد الله تعالى له ونصره، وأن الله لا يُخلف وعده بنصر المؤمنين عندما قال: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس 103] ومع يقين المصطفى بوعد ربه وموعوده راح يدعوه ويجأر إليه بالدعاء يقول: ” اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فأحنهم الغداة”.

فها هو رسول الله ﷺ يبسط كفيه ويناشد ربه عز وجل أن يؤتيه نصره الذي وعده منطرحًا في أعتابه ذليلاً منكسرًا خاضعًا حتى سقط رداؤه عن كتفه، فأشفق عليه الصديق رضي الله عنه، مع أنه صلى الله عليه وسلم مطمئن لوعد الله عز وجل إلى درجة أنه قال: ” لكأني أنظر إلى مصارع القوم” بل لقد حدد أماكن مصارعهم فقال هنا مصرع فلان وهنا مصرع فلان فلم يتزحزح أحد عن المكان الذي حدده له رسول الله ﷺ لكنه منطق العبودية، والأدب مع الله تعالى، فإن وُعدت بشيء منه تعالى فلا تقف عاجزًا عن الشكر – على أقل تقدير – بل قف على باب الكريم بالذل والانكسار ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم 7].

أيها الأحبة: إن التأمل في مشاهد أدب المصطفى في يوم بدر والطائف ليقودنا إلى التأمل في أدبه ﷺ يوم خصَّ بعض حديثي العهد بالإسلام بمزيد من الغنائم والأعطيات يتألف بها قلوبهم على الإسلام، فوجد بعضُ الأنصار في نفوسهم شيئاً من ذلك، وقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشاً وسيوفنا تقطُر من دمائهم؟ فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، ولم يدعُ معهم أحداً غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبهم فقال: ” يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألَّفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟” كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنُّ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟” فقالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك؟ المن لله ولرسوله، فقال: ” أما والله لو شئتم لقلتم فصدَقتم وصُدِّقتم: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فأمناك، ومخذولاً فنصرناك”، فقالوا: المن لله ولرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليُسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فو الذي نفسي بيده، لو أن الناس سلكوا شِعباً وسلكت الأنصار شِعباً، لسلكت شِعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار”، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا بالله ورسوله قِسماً، ثم انصرف وتفرقوا”.

أيها الإخوة: تمثَّل أدب المصطفى ﷺ مع ربه جل وعز، حين ألغى نفسه ووجوده أمام فضل الله وجوده فلم ينسب إلى نفسه شيئاً، فقال للأنصار: ” ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله؟”. فتبرأ من حوله وقوته ونسب الفضل لصاحب الفضل جل وعز، وكيف لا يقول رسول الله ﷺ هذا وهو الذي قال: ” المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ.” (صحيح البخاري: باب المُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يَنَلْ، وَمَا يُنْهَى مِنَ افْتِخَارِ الضَّرَّةِ 7/35 ح 5219)

ألا ما أجمل هذا الأدب منه ﷺ مع ربه سبحانه وتعالى حيث تبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته، فلم ينسب لنفسه شيئاً، بل نسبه لله تعالى.

نسأل الله تعالى أن يكرمنا بالأدب معه، فلا نلتفت لغيره، وأن يكرمنا بالشكر عند الرخاء، وبالصبر عند البلاء، وألا نغادر العكوف على باب العبودية، وألا نغتر بما آتانا، وأن نتبرأ من حولنا وقوتنا إلى حوله تعالى وقوته. آمين آمين.

وأخيرًا وليس آخرًا: رحم الله سفيان الثوري الذي قال: ” حسن الأدب يطفيء غضب الرب عز وجل “.

نقف عند هذا الحد فإلى لقاءٍ آخر بمشيئة الله تعالى نكمل فيه الحديث عن الأدب فإلى ذلكم اليوم اللهم اهدنا لمحاسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنَّا سيءَ الأخلاق لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

 

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.