سلسلة الأربعون الرمضانية – المقالة الثامنة | الشيخ د. محمود مصري
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الثاني: خصوصيات الصيام
خصوصية عبادة الصوم
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم: (قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ). متفق عليه. ١
يعدُّ هذا الحديث الشريف القدسيِّ الذي يرويه النبي ﷺ عن ربِّه؛ من أهمِّ الأحاديث التي تبيِّن خصوصيَّات الصيام. وإنَّ حصر الصوم أنه لله تعالى في الحديث، وأنه هو الذي يجزي به، مع أن كلَّ الأعمال له وهو يجزي بها؛ هو من وجوه:٢
الأول: أنه لا يُتَعَبَّد به أحدٌ غيره، بخلاف الصلاة والصدقة والطواف ونحو ذلك.
الثاني: هو لله لأنه سرٌّ بينه وبين عبده، لا يطَّلع عليه أحد، فلا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره؛ لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله؛ وإنما هو شيء في القلب. يقول الشاعر:
إن الصيام عبادةٌ سريَّة والسرُّ أوسعُ ما يكون مجالًا
“الصومُ لي وأنا الذي أجزي به” صدَق الحديثُ وصحَّ عنه تعالى
الثالث: هو لله من جهة كونه تشبُّها بصفة من صفات الحقِّ التي هي (الصمدانية)، فهو يتدرَّب على أن يستغني عن الأسباب، ولو لحين، وذلك أن الصمد هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كلُّ من عداه.
قال القرطبي: معناه أن أعمال العباد مناسبةٌ لأحوالهم؛ إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفات الحقِّ، كأنه يقول: إن الصائم يتقَرَّب إليَّ بأمرٍ هو مُتَعَلِّق بصفة من صفاتي. قال ابن دقيق العيد: “فهذا عندي من المجاز، ولكن يحتاج إلى بيان نوعه من أنواع المجاز، ووجه العلاقة. فنقول: هذا يجري مجرى قول الإنسان لمن ذُكر له فعلٌ عن غيره: هذا له؛ بمعنى: أنه مناسب ولائق بأحواله وأفعاله..”٤
الرابع: هو لله بمعنى أنه هو أحبُّ العبادات لله، والمقدَّم عنده من بينها.
الخامس: سبب كونه لله أنه يترك شهوته لأجل الله. قال القاضي: إن جميع الحسنات راجعةٌ إلى صرف المال فيما فيه رضاه، والصوم يتضمَّن كسرَ النفس وتعريض البدن للنقص والتحوُّل، مع ما فيه من الصبر على مضض الجوع وحرقة العطش، فبينه وبينهما أمدٌ بعيد لخلوصه لله، أو بتوفيق الله له.٥
السادس: أن جميع العبادات تُوَفَّى منها مظالم العباد إلا الصيام.
السابع: أنه متروك جزاؤه لله، فهو يجزي به فيضاعفه بلا حصر ولا عدد، بخلاف باقي الطاعات. فالله تعالى ينفرد بعلمِ مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس. فقد ورد في رواية لمسلم: (كُلُ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَوم، فَإِنهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي). ٦
قَالَ القرطبي: معناه أن الأعمال قد كُشِفَت مقادير ثوابها للناس، وأنها تُضَاعَف من عشرة إلى سبعمائة إلى مَا شاء الله، إلا الصيام فإِنَّ الله يُثِيبُ عليه بغير تقدير٧. وذلك مشروطٌ بالإخلاص، لذلك قال: (يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي). فلو كان ترك المذكورات لغرض آخر كالتخمة لا يحصل للصائم الفضل المذكور.
٩والجُنَّة: الوقاية والستر. قال صاحب النهاية: معنى كونه جُنَّة أي يقي صاحبه مَا يؤذيه من الشهوات٨. وقال عياض في “الإكمال”: معناه ستره من الآثام أو من النَّار أو من جميع ذلك.
وقال القرطبي: جنَّة أي سترة، يعني بحسب مشروعيته، فينبغي للصائم أن يصونه مما يفسده وينقص ثوابه، ويصحُّ أن يُراد أنه سُترة بحسب فائدته، وهو إضعاف شهوات النفس، ويصحُّ أن يُراد أنه سُترة بحسب ما يحصل من الثواب وتضعيف الحسنات١٠. وروى الإمام ابن ماجة رحمه الله من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سَمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الصيام جنَّة من النار، كجنَّة أحدكم من القتال).١١
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا(.
والمراد بالرَّفث هنا الكلام الفاحش، وهو يُطلق على هذا، وعلى الجماع وعلى مقدِّماته وعلى ذكره مع النساء أو مطلقًا، ويحتمَل أن يكون لما هو أعمُّ منها. وقوله: (ولا يجهل) أي لا يفعل شيئا من أفعال أهل الجهل كالصياح والسفه ونحو ذلك. وقَالَ القرطبي: لا يُفهَم من هذا أن غير الصَّوْم يُباح فيه مَا ذُكِر، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكَّد بالصوم.
فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقُل: إنِّي امرُؤٌ صائم. المراد من الحديث أنه لا يعامله بمثل عمله؛ بل يقتصر على قوله: إني صائم. ونقل الزركشي: إن المراد بقوله: “فليقل إني صائم مرتين”: يقوله مرة بقلبه ومرة بلسانه، فيستفيد بقوله بقلبه كفَّ لسانه عن خصمه، وبقوله بلسانه كفَّ خصمه عنه.
ثم أقسم بقوله: (والذي نفسي بيده) للتأكيد، فقال: (لخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك). وخلوفه يعني تغيُّر رائحة فم الصائم بسبب الصيام. والله سبحانه وتعالى مُنَزَّه عن استطابة الروائح، فالمعنى أنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم، أي يقرُب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم. وفي تعليق القاضي: إن للأعمال ريحًا تفوح يوم القيامة، فريح الصَّوْم منها كالمسك.
أما الفرحتان: فالأولى بإتمام صومه وسلامته من المفسدات لخروجه عن عهدة المأمور، أو بالأكل والشرب بعد الجوع، أو بما يعتقده من وجود الثواب، أو بما ورد في خبر (إن للصائم عند فطره دعوة لا تُرَدُّ).
والثانية: إذا لقي ربَّه فرح بصومه، أي بنيل الثواب وإعظام المنزلة، أو بالنظر إلى وجه ربه وهو فرح الخواص.
عن أبي أُمامة أن النبي ﷺ قال: (لله عند كل فطر عتقاء).
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عتقاء هذا الشهر الكريم، وأن يتقبَّل منَّا على ما مِنَّا، إنه سميع قريب مجيب.
المصادر والمراجع
- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، لعبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله، زكي الدين المنذري، ت إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1417م.
- الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه (صحيح البخاري)، لمحمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، ت محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية)، ط1، 1422هـ.
- سنن ابن ماجه، لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، فيصل عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
- شرح الإلمام بأحاديث الأحكام، لتقي الدين أبو الفتح محمد بن علي القشيري، المعروف بابن دقيق العيد، ت محمد خلوف العبد الله، دار النوادر، سوريا، ط2، 1430هـ/ 2009م.
- شَرْحُ صَحِيح مُسْلِمِ لِلقَاضِى عِيَاض المُسَمَّى إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، لعياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي السبتي، ت يحْيَى إِسْمَاعِيل، دار الوفاء، مصر، ط1، 1419 هـ/ 1998م.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة، بيروت، 1379م.
- فيض القدير شرح الجامع الصغير، لزين الدين محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي المناوي، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط1، 1356م.
- المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (صحيح مسلم)، لمسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- النهاية في غريب الحديث والأثر، لمجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير، ت طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي المكتبة العلمية، بيروت، 1399هـ/ 1979م.