شرح رسالة <آداب سلوك المريد> للحبيب أبو بكر المشهور

يقدم الحبيب أبو بكر المشهور تلخيصاً وشرحاً ودراسة تحليلية لرسالة العلامة الإمام السيد عبد الله بن علوي الحداد، وهي “رسالة آداب سلوك المريد”، مع بيان السياق الذي نشرت فيه الرسالة، وأسلوب المؤلف وأهدافه وأهم الأفكار والمفاهيم والإرشادات التي اشتملت عليها الرسالة.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المقدمة
الحمد لله الذي أودع في تراث الأولياء عِبْرة وعِظَة تربط بين العصور وبين ما جاء به النبي المبرور في نص الكتاب وجليل الحديث النبي المشهور، فأفاد كل ذي علم ومعرفة أهل عصره بضوابط العلم الواجب وقواعد السلوك، وقرر لمن بعده نموذجاً يكشف حال العصر وأسلوب التربية فيه، والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا الرسول الأمي سيد المعرفة والتوجيه محمد بن عبد الله المبعوث بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ولُطْف التنبيه، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار.
وبعد: فإن من واجبنا اللازم علينا في هذا العصر المشحون بالثقافات والمعارف ونتاج الحضارات واختلاط الأمم وسائلها على ساحة الإعلام ووسائل الحلال والحرام أن نقف وقفة جادة على مفترق الطرق لنمحِّص ونبيِّن ولا نكون كالأمعة الذي يقول: ((إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت))، فالناس وهواياتهم وغواياتهم ليست قاعدة تشريع، وما تأتي به الرياح المتلاحقة من مشرق الأرض ومغربها ليس حُجَّة على أحد في قبول التطويع والتطبيع، بل حجتنا أمام العالم كله منهج الإسلام الصحيح، وما تفرَّع عنه من نشاط المدارس الإسلامية العريقة ذات الصلة زماناً ومكاناً وسنداً ورجالاً بالإسلام ذاته، هذه بغيتنا وحجتنا في هذا الركام المتلاحق.
ولأجل هذا المطلب تقف أربطة التربية الإسلامية في هذا الجزء من الوطن العربي والإسلامي لتقدم فروض البر والصلة لشيوخ الإسلام السابقين إلى العلم والعمل والتربية، وتتخذ من ذكرياتهم مناسبة لإعادة أصالة منهجهم العلمي والعملي في الحياة، وترفع الغشاوة المقصودة والتعتيم المبرمج الذي فرضته وسائل المدرسة الحديثة على شخصيات الإسلام الصحيح، كل ذلك محاولة جادة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في حركة التحولات وتجديد لصرخة الحق في دوامات أعاصير الباطل.
ومن هذا المبدأ وضعنا مؤلفات الإمام الحداد تحت المجهر التعليلي التحليلي ليقرأها جيل المعاصرة بأسلوب المؤلف المعاصر وأهداف المؤلف الغابر، ومن مؤلفاته (رسالة المريد) الرسالة التي تغنينا في هذا البحث المتواضع، وبالله التوفيق.

نبذة عن الإمام الحداد
وُلِدَ عام 1044هـ بقرية (السبير) – إحدى ضواحي تريم – وكف بصره بإصابة من الجدري وهو ابن أربع سنوات، فأدرك بحواسه الأخرى ما فاته من حاسة البصر، وفاق بإدراكاته النيرة وبصيرته النافذة ما لم يدركه المبصرون بأبصارهم، ومنذ الطفولة وجهه والده إلى التعليم والتربية في الكُتَّاب والمساجد، فحفِظَ القرآن وجملة من متون الفقه والعقائد والنحو والسير والأشعار والحِكَم، ثم حفِظَ الأرشاد ونبغ فيه، وساعده المحيط العلمي الذي نشأ فيه على التوغل في صنوف العلم والمعرفة، وكان لأمِّه دور كبير في تهذيبه وتوجيهه وكمال استعداداته.
وكان من جملة شيوخه السيد العلامة عبد الله بن أحمد بلفقيه [1]، والسيد علي سهل بن أحمد باحسن الهديلي، والداعية السيد عمر بن عبد الرحمن العطاس، والسيد الوجيه عبد الرحمن بن شيخ مولى عيديد، وغيرهم.
ومن شيوخه بالمكاتبة السيد العلامة محمد بن علوي السقاف العلوي نزيل مكة وغيرهم.
برز الإمام الحداد مبكراً في مظهر العلم والتقوى والدعوة إلى الله والفتوى، وكانت مجالسة عامرة بالقراءة في كتب العلم والأدب والشعر إلى جانب التصوف والذوق والدقائق وانتفع بمجالسته العشرات وبتصانيفه الآلاف بعد المئات.

نبذة عن تصانيفه
انتشرت كتب الإمام الحداد في أفجاج العالم انتشاراً غريباً، وطُبِعَت رسائله المرات تلوا لمرات، وكانت مزيجاً من الفقه والتوحيد والتهذيب والتاريخ والحِكَم، ومن أبرزها: النصائح الدينية، والدعوة التامة، ورسالة المعاونة، والفصول العلمية، وإتحاف السائل.
كما طُبِعَت أوراده وراتبه وانتشرت في الأقطار الإسلامية، وله ديوان شعري مشهور، ومكاتبات حاوية على جملة من الحِكَم والمسائل النافعة.
وله مواقف واعية مع كافة رجال عصره سواء حكام الدول أو مناصب المقامات أو العلماء أو مع عموم الناس، وكان ينتقد الظلم ويأبى التغني بأمجاد السلف دون اتباع، وفي هذا يخاطب آل البيت ويقول:

ثم لا تغتر بالنسب   لا ولا تقنع بكان أبي

واتبع في الهدي خير نبي    أحمد الهادي إلى السنن

كما ينتقد الإفراط المشين عند بعض الصوفية الغُلاة، وينهى مريديه وتلاميذه عن مطالعة كتبهم، كما كانت له عناية خاصة بأعمال الزراعة ويشجِّع عليها ويفرح بالمزارعين المخلصين في خدمة الأرض ويقدِّم لهم النصائح العامة، وشجَّع بعض أهله وذويه على ممارسة التجارة الحلال رغبة في إيجاد الكسب الذي يعود عليه وعلى الفقراء بالنفع.
وكانت له صدقات وإحسان للفقراء والأرامل والأيتام ويكفل بعض الأيتام ويعلمهم وينفق عليهم.
وبالعموم كان الإمام الحداد مدرسة مستقلة جامعة لأصناف المعارف والمواقف، ويشهد بذلك تراثه وتلاميذه وآثاره الواسعة في كل مكان.
توفي رحمه الله قد ناهز التسعين عام 1132هـ ودُفِنَ بتريم في مقبرة (زنبل)، وبموته فقد العالم الإسلامي وحضرموت رجلاً من رجال الفضل والتقوى لم يستطع غيره أن يملأ فراغه الذي تركه من بعده، وقد ترجم له بعض تلاميذه مثل كتاب (غاية القصد والمراد) للسيد محمد بن زين بن سميط، و(الفوائد السنية) لحفيده أحمد بن حسن بن عبد الله الحداد، وغيرها كثير.

مؤلفات الإمام الحداد
1- رسالة المعاونة؛ ألفها وهو ابن سبع عشرة سنة.
2- النصائح الدينية.
3- الدعوة التامة.
4- اتخاف السائل.
5- الفصول العلمية.
6- رسالة المذاكرة.
7- سبيل الادكار.
8- المسائل العلوية.
9- رسالة المريد.
10- الحِكَم.
11- ديوان الدر المنظوم.
كما جمع تلميذه الشيخ أحمد الحساوى جملة من فوائده وكلامه في كتاب سماه (تثبيت الفؤاد)، وجمعت أيضاً مكاتباته في مجلدين، وله جملة من الأوراد كـ(وسيلة العباد)، و(الورد اللطيف) و(الراتب) وغيرها.
وترجم له العديد من علماء الإسلام تراجم منفردة وبعضها تراجم ضمن المؤلفات التاريخية كما هو في (أدوار التاريخ) للشاطري، و(تاريخ حضرموت) للسيد صالح الحامد، وبعضها تراجم منفردة كترجمة تلميذه السيد محمد بن زين بن سميط في (غاية القصد والمراد) وغيره.

نبذة عن رسالة المريد (موضوع البحث)
رسالة (آداب سلوك المريد) انعكاس حقيقي لمنهاج التربية الأبوية السائد في كثير من بلاد العالم الإسلامي والعربي آنذاك، وهذه التربية ذات ارتباط وثيق بعلم النفس التربوي الإسلامي الذي كان أصلاً من أصول التنشئة الاجتماعية في العالمين والإسلام يحث عليه ويدعو له، وكان صلى الله عليه وسلم يضعه في مقدمة مهمات البناء الاجتماعي للأمة ويضع معادلاً له … قضية التعليم.
فقد ورد قوله صلى الله عليه وآله وسلم حول مبدأ التربية: ((إنما بُعِثْت لأتمِّم مكارم الأخلاق))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم حول مبدأ التعليم: ((إنما بُعِثْت معلماً)) .
وكان العالم الإسلامي يطبِّق المبدأين معاً في الحياة العامة والخاصة، ويعتني بهما معاً عبر القرون، وزاد أمر الاهتمام بالتربية الروحية والبناء الخلقي مع ظهور المدرسة الصوفية في العالم، المدرسة التي كثر اللغط حولها أخيراً بحق وبغير حق.
وعند التمحيص العادل نجد أنَّ المتناولين لهذه المدرسة لا يملكون البدائل السليمة فضلاً عن معرفتهم لطرفي الإفراط والتفريط في المدارس التقليدية ومنها مدرسة التصوف، والإمام الحداد أحد الأئمة الأفذاذ الذين قرروا مبدأ التوسط في الأخذ بمبدأ التصوف وتركيزه في مهمته التي وضعها الإسلام نصاً وهي مرتبة الإحسان: ((… أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
ونحن اليوم في عالمنا الإسلامي والعربي في أمس الحاجة لمبدأ الاعتدال والأخذ بمبدأ الوسطية (لا إفراط ولا تفريط) سواء كان في المنهج الذوقي الصوفي أو في غيره من مذاهب الإسلام وجماعاته، لأنَّ حاجة الأمة للاجتماع على قواسم دينها المشتركة خير لها من تجديد عوامل الصراع المساعد على توسيع رقعة الخلاف وتمزيق الجسر المتداعي.
وقد أدرك هذا المبدأ أمامنا الحداد وكرَّسه في مصنفاته حاملاً لواء عالمية الدعوة ودعوة المسلمين إلى البناء الروحي الخالص والاعتناء به في مراحل التعليم والتنشئة.
ونعتقد أنَّ كافة مصنفاته تزخر بهذا المبدأ، ولكن رسالة (آداب سلوك المريد) أكثرها عمقاً في شأن التربية ومبادئها المتماسكة، ويجب أن نتعرف على عصر الرسالة وظروف الحياة الاجتماعية والسياسية التي عاصرها المؤلف لنقرأ الرسالة من واقع المرحلة ومن منظور المؤلف الاجتماعي وما يحيط بها من واقع محلي وعالمي.

عصر المؤلف وظروف المرحلة
كان عصر الإمام الحداد عصراً زاخراً بالاهتمامات العلمية والبناء الروحي الصوفي على غرار مدرسة السلف، وقد انتشر أثر هذه المدرسة محلياً وعالمياً، وعرفت الأمة عشرات النماذج في حضرموت والحجاز وشرق إفريقيا وجزر إندونيسيا وغيرها، وهي مرحلة بلغ شأن مدرسة حضرموت الذروة في الانتشار العلمي والعملي، وفيها وفد إلى عواصم العلم في حضرموت عشرات، بل مئات الطلاب من داخل بلاد اليمن وحضرموت ومن خارجها.
وكان الإمام الحداد ذاته يستقبل في الحوطة الحاوي قوافل الطلاب والمحبين والمتعلقين القادمين من بلاد العوالق وحبان وما تسمى سابقاً (أرض القبلة)، ومنهم المشايخ آل بانافع، وآل السليماني، وآل بابكر، وآل بلجفار.
ووفد إليه آخرون من المهرة والإحساء والقطيف، ومنهم الشيخ المحب أحمد الحساوى الشجار، صاحب كاب (تثبيت الفؤاد).
ومن هذا المنطلق كان الإمام الحداد في عصره قدوة المقتدين وعلماً للمهتدين وداعية إلى حقائق الدين وحُسن الاتباع لمنهج سيد المرسلين، ولهذا رسم المنهج العادل في أعماله الكتابية، وحدَّد لمريديه وتلامذته وظائف الأوقات ليشتغلوا – ظاهراً وباطناً – بما يثبت مبادئ المعرفة الدينية والدنيوية، كما هو في رسالة (آداب سلوك المريد).

رسالة آداب سلوك المريد
يقول المؤلف؛ رحمة الله عليه: ((تمَّت هذه الرسالة: وهي إرشاد للمريد، الممنوح من ربه الحميد المجيد، التثبيت والتأييد والتسديد، وكان بحمد الله أملاؤها في سبع ليال أو ثمان من شهر رمضان أحد شهور عام 1071هـ على صاحبها أفضل الصلاة والسلام)) .

طباعة الرسالة
كتب في آخر الطبعة الثالثة سنة 1396هـ – 1976م بالقاهرة مطبعة المدني 68 شارع العباسية، تحت إشراف الشيخ حسنين محمد مخلوف؛ مفتي الديار المصرية سابقاً، وعضو جماعة كبار العلماء.
تم طبعها للقاهرة للمرة الأولى في ربيع الآخر سنة 1378هـ – 8 نوفمبر سنة 1958م من نسخة خطية بقلم عبد الرحمن بن أحمد السقاف ببلدة بوقور بجاوة[2] .
وطبعت للمرة الثانية في شوال سنة 1378هـ إبريل سنة 1959م.
وطبعت للمرة الثالثة في جمادي الآخرة سنة 1396 يوليو سنة 1976م.
كما طبعت هذه الرسالة طباعة فاخرة 1414هـ-1994م ضمن سلسلة كتب الإمام الحداد برقم (7)، قام بطبعها دار الحاوي للطباعة والتوزيع والنشر في 66 صفحة افتتحت بترجمة موجزة للإمام الحداد، وتتميز هذه الطبعة بالخط الجميل الذي تشرَّف بكتابته محمد صفوان محمود صافي.

باعث تأليف الرسالة
يفيد الإمام الحداد – في أخريات مقدمة رسالة آداب سلوك المريد – فيقول: ((اعلم أيها الطالب المريد، والمتوجه الراغب أنك حين سألتني أن أبعث إليك شيء من الكلام المنسوب إلي لَمْ يحضرني منه ما أراه مناسباً لما أنت بسبيله، وقد رأيت أن أقيد فصولاً وجيزة تشتمل على شيء من آداب الإرادة بعبارة سلسله، والله أسأل أن ينفعني وإياك وسائر الإخوان بما يورده علي من ذلك ويوصله إلي مما هنالك فهو حسبي ونعم الوكيل)) .

فصول الرسالة
اشتملت الرسالة على تسعة عشر فصلاً، كل فصل يحمل موضوعاً خاصاً من مواضع الإرادة مدللة بحجتها من الكتاب العزيز والسنة الشريف، وتتمة وخاتمة، وقد اشتملت الفصول على ثلاثة عشر آية قرآنية، وثمانية أحاديث نبوية، و أثراً من آثار السلف موزعة حسب مضانها من فصول الرسالة المباركة

بحث موضوع المقدمة
اشتملت براعة الاستهلال على الحمد لله، والتصلية، وعرض موضوع الرسالة بعد (أما بعد …)، وأول ما طرقته المقدمة من صلب الموضوع علاقة المريد بالحياة الدنيا والزهد فيها بقوله:
((والعاجلة هي الدنيا، فإذا كان المريد لها فضلاً عن الساعي لطلبها مصيره إلى النار مع اللوم والصغار، فما أجدر العاقل بالإعراض عنها والاحتراس منها)) .
الموضوع الثاني في المقدمة: علاقة المريد بالحياة الآخرة والعمل لها … فيقول:
((والآخرة هي الجنة، ولا يكفي في حصول الفوز بها الإرادة فقط، بل هي مع الإيمان والعمل الصالح المشار إليه بقوله تعالى: (وسعى لها سعيها وهو مؤمن) والسعي المشكور هو العمل المقبول المستوجب صاحبه المدح والثناء والثواب العظيم الذي لا ينقضي ولا يفنى بفضل الله ورحمته)) .

الموضوع الأول في المقدمة:
من هو الخاسر من كل وجه، فقال: ((والخاسر من كل وجه من المريدين للدنيا الذي يتحقق في حقه الوعيد المذكور في الآية هو الذي يريد الدنيا إرادة ينسى في جنبها الآخرة فلا يؤمن بها أو يؤمن ولا يعمل لها، فالأول كافر خالد في النار، والثاني فاسق موسوم بالخسار)) .
الموضوع الثاني في المقدمة:
النية الصالحة والنية السيئة، وأورد حديث ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى…)) الخ، وقال: ((فمن حسنت نيته حسن عمله لا محالة، ومن خبثت نيته خبث عمله لا محالة، وإن كان في الصورة طيباً)) .
الموضوع الرابع في المقدمة
الهجرة وما فيها من المعاني، فقال: ((وخص الهجرة عليه الصلاة والسلام من بين سائر الأعمال تنبيها على الكل بالبعض لأن من المعلوم عند أولي الأفهام أنَّ الإخبار ليس خاصاً بالهجرة بل هو عام في جميع شرائع الإسلام)) .
الموضوع الخامس في المقدمة
عرض للسبب الباعث على تأليف الرسالة، وختمها بالدعاء له وللمتسبب ولبقية الإخوان في الله.

******

الفصل الأول

1- تحديد أوليات الوجهة إلى الله وبواعثها:
((اعلم أنَّ أول الطريق باعث قوي يقذف في قلب العبد يزعجه ويقلقه ويحثه على الإقبال على الله والدار الآخرة، وعلى الإعراض عن الدنيا وعما الخلق مشغولون به من عمارتها وجمعها والتمتع بشهواتها والاغترار بزخارفها)) .
2- ما هو الباعث؟:
((وهذا الباعث من جنود الله الباطنة، وهو من نفحات العناية وأعلام الهداية)) .
3- كيف يأتي الباعث؟:
((وكثيراً ما يفتح الله به على العبد عند التخويف والترغيب والتشويق وعند النظر إلى أهل الله تعالى والنظر منهم، وقد يقع بدون سبب)) .
4- حال من أكرمه الله بهذا الباعث:
((ومن أكرمه الله بهذا الباعث الشريف فليعرف قدره المنيف شكرها فليبالغ في شكر الله تعالى على ما منحه وأولاه وخصه من بين أشكاله وأقرانه، فكم من مسلم بلغ عمره ثمانين سنة وأكثر لم يجد هذا الباعث ولم يطرقه يوماً من الدهر)) .
5- كيف يتقوى هذا الباعث:
((وعلى المريد أن يجتهد في تقويته وحفظه وإجابته، فتقويته:
أ) بالذِّكر لله، والفكر فيما عند الله.
ب) المجالسة لأهل الله، والبعد عن مجالسة المحجوبين والإعراض عن وسوسة الشياطين.
ج) وإجابته أن يبادر بالإنابة إلى الله تعالى ويصدق في الإقبال عليه ولا يتوانى ولا يسوِّف ولا يتباطأ ولا يؤخر.
د) وليحذر من غد بعد غد، فإنَّ ذلك من عمل الشيطان.
هـ) ولا يتعلل بعدم الفراغ وعدم الصلاحية.

استدلالات الفصل الأول
الحديث: ((إنَّ لربكم في أيام دهركم نفحات، إلا فتعرضوا لها)) .
الآثار: قال أبو الربيع: ((سيروا إلى الله عرجاً ومكاسير، ولا تنتظروا الصحة، فإنَّ انتظار الصحة بطالة …))، وقال ابن عطاء في الحِكَم: ((إحالتك العمل على وجود الفراغ من رعونات النفس)) اهـ.

الفصل الثاني
(شروط الإرادة)

أول شيء يبدأ (تصحيح التوبة) وتفصيلها ما يلي:
1- التوبة إلى الله من جميع الذنوب.
2- إن كان عليه شيء من المظالم لأحد من الخلق فليردها إلى أربابها، أو أن يطلب الإجلال منهم.
3- صدق الندم على الذنوب مع صحة العزم على ترك العود إليها.
4- أن يكون على غاية من الاعتراف بالتقصير عن القيام بما يجب عليه من حق ربه.
5- الاحتراز من صغير الذنوب فضلاً عن أكبرها أشد من احترازه من تناول السم القاتل.

استدلالات الفصل الثاني
الحديث: ((إن عند المنكسرة قلوبهم من أجلي [3] …)) .

الفصل الثالث
(حفظ القلب أساس الفتح ومحور التلقي)

ما يجب على المريد في هذا الجانب:
1- أن يجتهد في حفظ قلبه من الوساوس والآفات والخواطر الردِّية.
2- أن يقيم على باب قلبه حاجزاً من المراقبة يمنعها من الدخول إليه.
3- أن يبالغ في تنقية قلبه – الذي هو موضع نظر ربِّه – من الميل إلى الشهوات.
4- أن ينقيه من الحقد، والغل، والغش لأحد من المسلمين، ومن الظن السوء بأحد منهم.
5- أن يكون ناصحاً للمسلمين، رحيماً بهم، مشفقاً عليهم، معتقد الخير فيهم، يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير ويكره لهم ما يكره لنفسه من الشر.

معاصي القلب وأثرها على المريد:
1- من أفحشها الكِبَر، والرياء، والحسد.
2- وأم الجميع وأصلها ومغرسها حُبُّ الدنيا … ((حُبُّ الدنيا رأس كل خطيئة [4] )).

الفصل الرابع
(حفظ الجوارح عن المعاصي)

وما يجب على المريد في ذلك:
1- أن يجتهد في كف جوارحه عن المعاصي والآثام.
2- لا يحرك شيئاً فيها إلا في طاعة، ولا يعمل بها إلا شيئاً يعود عليه نفعه في الآخرة.
3- أن يبالغ في حفظ اللسان عن الغيبة والكذب وسائر الكلام المحضور والكلام الفاحش والخوض فيما لا يعني.
4- أن لا يحرك لسانه إلا بتلاوة أو ذكر أو نصح لمسلم أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو شيء من حاجات دنياه التي يستعين بها على أُخراه.

وظيفة السمع والبصر وخطر إهمالها:
اعلم أنَّ السمع والبصر بابان مفتوحان إلى القلب وليكن المريد حريصاً على حفظ سمعه وبصره، وليحذر من النظر إلى الدنيا بعين الاستحسان فإنَّ ظاهرها فتنة وباطنها عبرة.
وإذا نظرت إلى الموجودات فانظر إليها نظر المستدل بها على كمال قدرة موجده ومبدئها سبحانه اهـ.

استدلالات الفصل الرابع
الحديث: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا ذكر الله، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر [5])) .

الفصل الخامس
(المداومة على الطهارة وإيثار الجوع على الشبع)

من شروط المريد أن:
1- لا يزال على طهارة كلما أحدث توضأ وصلى ركعتين.
2- إن كان متأهلاً وأتى أهله فليبادر بالاغتسال.
3- يستعين على دوام الطهارة بقلة الأكل.
4- أن لا يأكل إلا عن فاقة، ولا ينام إلا عن غلبة، ولا يتكلم إلا في حاجة.
5- أن لا يخالط أحداً من الخلق إلا ذو فائدة له.

استدلالات الفصل الخامس
الحديث: ((ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، حسب ابن لآدم لقيمات يقمْنَ صلبه، فإن كان لا محالة فثُلُث لطعامه، وثُلُث لشرابه، وثُلُث لنَفَسِه [6] )) .

الفصل السادس
(الإقبال على الله والتفرغ لعبادته)

ومن شروط الإرادة عند المريد أن يكون:
1- أبعد الناس عن المعاصي والمحضورات.
2- أحفظهم للفرائض والمأمورات.
3- أحرصهم على القربات وأسرعهم إلى الخيرات.
4- شحيحاً على أنفاسه، بخيلاً بأوقاته، لا يصرفها إلا فيما يقربه إلى الله.
5- أن يكون له وِرْد في كل نوع من العبادات يواظب عليها.
6- أن يكثر من تلاوة القرآن مع تدبُّر معانيه وترتيل ألفاظه ممتلئاً بعظمة الحق سبحانه عند تلاوة كتابه.
7- أن يكون له حظ من التهجد من الليل فيناجي ربه … التضرع والاستغفار والذلة.

استدلالات الفصل السادس
أثر: ((كل علم لا يعود عليك نفعه فالجهل أعود عليك منه)) .

الفصل السابع
(وجوب إقامة الصلاة والحضور فيها)

من شروط الإرادة عند المريد:
1- الاعتناء بإقامة الصلوات الخمس بإتمام قيامهن، وقراءتهن، وخشوعهن، وركوعهن، وسجودهن، وسائر أركانهن، وسُنَنِهِنَّ.
2- استشعار عظمة من تريد الوقوف بين يديه متجنباً الاسترسال في أودية الغفلة والوسواس والخواطر والأفكار الدنيوية، فإنها موجبة للمقت من الله والطرد عن باب الله.

استدلالات الفصل السابع
حديث: ((إذا قام العبد إلى الصلاة أقبل الله عليه فوجهه، فإذا التفت إلى ورائه يقول الله تعالى: ابن آدم التفتَ إلى من هو خير له مني.. فإن التفت الثانية قال مثل ذلك، فإن التفت الثالثة أعرض الله عنه [7])) اهـ.

الفصل الثامن
(التحذير وترك الجمعة والجماعات والحث على أداء الرواتب)

ومن شروط الإرادة عند المريد السالك:
1- أن يحذر من ترك الجمعة والجماعات.
2- أن يحافظ على الرواتب المشروعات.
3- أن يواظب على الوتر والضحى ما بين العشائين.
4- أن يكون شديد الحرص على عمارة ما بين صلاة الصبح إلى الطلوع وما بعد صلاة العصر إلى الغروب.

استدلالات الفصل الثامن
حديث: ((إنَّ الذي يقعد في مصلاه يذكر الله بعد صلاة الصبح أسرع في تحصيل الرزق من الذي يضرب في الآفاق)) .

الفصل التاسع
(في ملازمة الذكر والتفكُّر)

ومن شروط المريد السالك بعد فعل الأوامر واجتناب المحارم:
1- ملازمة الذكر لله في كل حال وفي كل وقت وفي كل مكان بالقلب واللسان.
2- وأفضل الذكر الجامع معاني الأذكار وثمراتها الباطنة والظاهرة هو قول (لا إله إلا الله)، وهو الذي يؤمر بملازمته أهل البداية ويرجع إليه أهل النهاية.
3- أن يعكف على الذِّكر بقلب حاضر وأدب وافر وإقبال صدق وتوجيه خارق.
4- أن يكثر من التفكر وهو على ثلاثة أقسام:
أ) تفكُّر في عجائب القدرة وبدائع المملكة السماوية والأرضية؛ ثمرته المعرفة بالله.
ب) تفكر في الآلاء والنعم؛ ونتيجته المحبة لله.
ج) تفكر في الدنيا والآخرة وأحوال الخلق فيهما؛ وفائدته الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة.

الفصل العاشر
(زجر النفس عن التكاسل عن الطاعات وعن الميل إلى المخالفات)

ومن شروط المريد السالك أن يرعى نفسه ويقودها إلى الخير كلما ثقلت عن فعله بزمام الرجاء وهو:
– أن تُذكِّر لها ما وعد الله به العاملين من الفوز العظيم والنعيم القيم والرحمة والرضوان والخلود في فسيح الجنان والعز والرفعة والشرف والمكانة عنده سبحانه وتعالى وعند عباده.
أما إذا أحس من نفسه الميل إلى المخالفات والالتفات للسيئات فيردها سوط (الخوف) وهو:
– أن تذكِّرها وتعِظها بما توعَّد الله به من عصاه من الهوان والوبال والخزي والنكال والطرد والحرمان والصِغار والخسران.
وليحذر المريد من الوقوع في الشطحات والاستهانة بشأن الجنة والنار، ويجب تعظيم ما عظَّم الله ورسوله؛ وأسأله رضاه والجنة، وأستعيذ به من سخطه والنار بفضله ورحمته.

الفصل الحادي عشر
(أهوال النفس ولزوم الصبر)

ومن شروط المريد السالك أن يعلم:
1- إنَّ أول الطريق صبر، وآخره شُكر، وأولها عناء، وآخرها هناء، وأولها تعب ونصب، وآخرها فتح وكشف ووصول إلى نهاية الأدب؛ وهو معرفة الله والوصول إليه والأنس به.
2- أن يعلم أنَّ النفس في أول أمرها تكون أمارة تأمر بالشر وتنهي عن الخير، فإن جاهدها وصبر على مخالفة هواها صارت … لها وجه إلى المطمئنة ووجه إلى الأمارة، فإن رفق بها يقودها … الرغبة فيما عند الله صارت مطمئنة تأمر بالخير وتستلذه، وتنهى عن الشر وتفر منه.
3- صاحب النفس المطمئنة يعظُم تعجبه من إعراض الناس عن الطاعات وإقبالهم على المعاصي والشهوات، ثم يتذكر حاله من قبل فيعلم أنه لم يصل إلى ما هو فيه إلا بمجاهدة طويلة وعناية من الله عظيمة.
4- أن يعلم أنَّ الصبر عن المعاصي والشهوات وعلى ملازمة الطاعات هو الموصل إلى كل خير والمبلغ إلى كل مقام شريف وحال منيف.

استدلالات الفصل الحادي عشر
القرآن الكريم:
1- (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابوا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) .
2- (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) .
3- (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) .

الحديث الشريف:
1- ((من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمته الصبر، ومن أوتي حظه منهما فلا يبالي بما فاته من قيام الليل وصيام النهار [8])) .

الفصل الثاني عشر
(الاعتبار بالصابرين وأن الرزق مقسوم)

ومن شروط المريد السالك أن يعلم:
1- أنه قد يُبتَلَى المريد بالفقر والفاقة وضيق المعيشة، فينبغي له أن يشكر الله على ذلك، ويعدّه من أعظم النعم.
2- أن يعلم أن الدنيا عدوَّة، والله يقبل بها على أعدائه ويصرفها عن أوليائه؛ فليحمد الله أن شبَّهه بأنبيائه وأوليائه.
3- أن يعلم أنَّ خير الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يربط الحجر على بطنه من الجوع، وقد يمر شهران أو أكثر ما توقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار لطعام ولا لغيره، إنما كان طعامهم التمر والماء، ونزل به ضيف فأرسل إلى أبياته التسعة فلم يجد فيها ما يُطعم الضيف، ومات يوم مات ودرعه مرهونة عند يهودي في صوع من شعير.
4- ليكن قصدك أيها المريد همتك من الدنيا خرقة تستر بها عورتك، ولقمة تسد بها جوعك من الحلال فقط.
5- إياك والسُّم القاتل، وهو الاشتياق إلى التنعم بالدنيا أو تغبط المتنعمين بها من الناس، فسوف يُسألون عن قيمتها ويحاسبون على ما أصابوا من شهواتها.
6- اعلم أنَّ الله سبحانه وتعالى منذ خَلَق الدنيا ما نظر إليها، وأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال عنها: ((الدنيا سجن المؤمن وجنَّة الكافر، ولو كانت الدنيا تَزِن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) .
7- واعلم أنَّ الرزق مقدِّر ومقسوم، فإن كنت من المقتر عليهم فعليك بالصبر والرضا والقناعة، وإن كنت من الموسع عليهم فأصب كفايتك وخذ حاجتك مما في يدك واصرف ما بقي في وجوه الخير وسبل البر [9] .
8- واعلم أنه لا يلزم على من أراد الدخول في الطريق أن يخرج من ماله إن كان له مال، أو يترك حرفته وتجاربته إن كان محترفاً أو تاجراً، بل الذي يتعين عليه تقوى الله ولا … في الطلب بحيث لا يترك فريضة ولا نافلة ولا يقع في محرم ولا فضول (اهـ).
9- إنْ عَلِمَ المريد من نفسه أنه لا يستقيم قلبه ولا يسلم إلا بالتجرد عن المال والأسباب لزمه ذلك.
10- واعلم أيها المريد أنك لا تقدر على ملازمة الطاعات واجتناب الشهوات والإعراض عن الدنيا إلا بأمور منها:
أ) أن تستحوذ في نفسك أنَّ مدة بقائك في الدنيا قليلة، وأنك عما قريب تموت فتنصِّب أجلك بين عينيك.
ب) إياك وطول الأمل فإنه يميل بك إلى محبة الدنيا ويثقل عليك ملازمة الطاعات والإقبال على العبادات.

استدلالات الفصل الثاني عشر
القرآن: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين).
الحديث: ((الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، ولو كانت الدنيا تَزِن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافر منه شربة ماء [10] )).

الفصل الثالث عشر
(في الصبر على أذى الناس والحذر من فتنتهم)

ومن شروط المريد السالك أن يعلم:
1- أنه بما تسلط بعض الخلق على بعض المريدين بالإيذاء والجفاء والذم فإن بليت بشيء من ذلك فعليك بالصبر، وترك المكافأة مع نظافة القلب عن الحقد وإضمار الشر، واحذر الدعاء على من آذاك، ولا تقل إذا أصابته مصيبة: ((هذا بسبب أذاه لي)).
2- أفضل من الصبر على الأذى العفو والدعاء له، وذلك من أخلاق الصديقين.
3- عد إعراض الخلق عنك نعمة من ربك، فإنهم لو أقبلوا عليك ربما شغلوك عن طاعته.
4- إن ابتليت بإقبالهم وتعظيمهم وثنائهم وترددهم فاحذر من فتنتهم واشكر الله الذي ستر مساويك عنهم.
5- إن خشيت على نفسك التصنع والتزين لهم والاشتغال عن الله بمخالطتهم فاعتزلهم وأغلق بابك عنهم أو غادر الموضع الذي أنت فيه إلى موضع لا تُعرف فيه.
6- كن مؤثر للخمول فاراً من الشهرة والظهور، فإنَّ فيه الفتنة والمحنة.

استدلالات الفصل الثالث عشر
أثر: ((والله ما صدق الله عبد إلا أحب أن لا يشعر بمكانه))، وقال آخر: ((ما أعرف رجلاً أحب أن يعرفه الناس إلا ذهب دينه وافتضح)) اهـ.

الفصل الرابع عشر
(في إطراح مراقبة الخلق)

من شروط المريد السالك:
1- أن يجتهد وينفر به القلب من الخوف من الخلق أو الطمع فيهم، فإنَّ ذلك يحمل على السكوت على الباطل وعلى المداهنة في الدين وعلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- إن وصلك أحد من إخوانك المسلمين بمعروف فخذه إن كنت محتاجاً إليه، واشكر الله فهو المعطي في الحقيقة، واشكر من وصله إليك، وإن لم تكن لك حاجة إليه فانظر الأصلح لقلبك، فإن الأخذ أخذت، وإن كان الرد رددت برفق بحيث لا ينكسر قلب المعطي.
3- وإياك والرد للشهرة والأخذ بالشهوة، فلأن تأخذ بالشهوة خير لك من أن ترده للشهرة بالزهد والإعراض عن الدنيا.
4- الصادق لا يلتبس عليه أمر، ولابد أن يجعل الله في قلبه تغير وما يراد منه.

الفصل الخامس عشر
(في الزجر عن طلب المكاشفات والكرامات)

وعلى المريد السالك أن يعلم:
1- أنَّ من أضر شيء على المريد طلبه للمكاشفات واشتياقه إلى الكرامات والخوارق، وهي لا تظهر له مادام مشتهياً لها لأنها لا تظهر إلا على يد من يكرهها ولا يريدها غالباً.
2- قد تقع الخوارق لطائفة من المقرونين استدراجاً لهم وابتلاءً، وهي في حقهم إهانات وليست كرامات.
3- لا تكون الكرمات كرامة إلا إذا ظهرت على أهل الاستقامة، ومتى ظهرت يجب كتمها على الناس وإن لم تظهر فلا تتمنى ولا تأسف على فقد ذلك.
4- اعلم أنَّ الكرامة الجامعة لجميع أنواع الكرامات الحقيقيات والصوريات هي الاستقامة المعبر عنها بامتثال للأوامر واجتناب النواهي ظاهراً وباطناً فعليك بتصحيحها وإحكامها.

الفصل السادس عشر
(حسن الظن بالله في طلب الرزق مع السعي إليه)

ومن شروط السالك:
1- حسن الظن بالله تعالى أن يعينك ويكفيك ويحفظك ويقيك ولا يكلك إلى نفسك ولا إلى أحد من الخلق.
2- اخرج من قلبك خوف الفقر وتوقع الحاجة إلى الناس.
3- احذر كل الحذر من الاهتمام بأمر الرزق، وكن واثقاً بوعد ربك وتكفله بك حيث يقول (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) .
4- اشتغل بما طُلِب منك من العمل عما ضمن لك من الرزق فإن مولاك لا ينساك.
5- اعلم أنه لا جرح عليك في طلب الرزق بالحركات الظاهرة على الوجه المأذون شرعاً وإنما الحجر في عدم سكون القلب واهتمامه واضطرابه ومتابعة لأوهامه.
6- مما يدل على خراب القلب اهتمام الإنسان بما يحتاج إليه في اليوم المقبل والشهر الآتي.
7- التجرد عن الأسباب والدخول فيها مقامان يقيم الله فيهما من يشاء من عباده، فمن أقيم في التجرد فعليه بقوة اليقين وسعة الصدر وملازمة العبادة.
8- ومن أقيم في الأسباب فعليه بتقوى الله في سببه والاعتماد على الله.
9- قد ترد على المريد خواطر في طلب الرزق وفي مراءاة الخلق وليس ملوماً ولا مأثوماً عليها إن كان كارهاً لها ومجتهداً في نفيها عن قلبه (اهـ).

استدلالات الفصل السادس عشر
القرآن الكريم:
1- (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) .
2- (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له) .

الفصل السابع عشر
(في صحبة الأخيار وآداب المريد مع الشيخ وأوصاف الشيخ الكامل)

ومن شروط المريد السالك:
1- أن تكون لك عناية تامة بصحبة الأخيار ومجالسة الصالحين الأبرار.
2- كن حريصاً على طلب شيخ صالح، مرشد، ناصح، عارف بالشريعة، سالك للطريق، ذائق للحقيقة، كامل العقل، واسع الصدر، حسن السياسة، عارف بطبقات الناس مميز بين غرائزهم وفطرهم وأحوالهم.
3- إذا ظفرت به فألق عليه نفسك وحكِّمه في جميع أمورك وارجع إلى رأية ومشورته في كل شأنك واقتد به في جميع أفعاله وأقواله.
4- لا تقتدي به فيما يكون خاصاً بمرتبة المشيخة كمخالطة الناس ومداراتهم ودعوة القريب والبعيد [11] .
5- لا تعترض عليه في شيء من أحواله لا ظاهراً ولا باطناً.
6- إذا وقع في قلبك شيء فاجتهد في نفيه، وإلا فحدث به الشيخ ليعرِّفك وجه الخلاص منه.
7- أن تخبره بكل ما يقع لك خصوصاً في سيرك إلى الله.
8- أحذر أن تطيعه في العلانية وتعصيه في السر فتقع في الهلاك.
9- لا تجتمع بأحد من المشايخ المسلكين إلا عن إذنه، فإن أذِنَ لك فاحفظ قلبك واجتمع بمن أردت، وإن لم يأذن لك فمصلحتك في اختياره ولا تتهمه بالغيرة أو الحسد.
10- احذر من مطالبة الشيخ بالكرامات والمكاشفة بخواطرك فإن الغيب لا يعلمه إلا الله.
11- غاية الولي أن يطلعه الله على بعض الغيوب في بعض الأحيان [12] .
12- الشيخ الكامل هو الذي يقيدك بهمته وفعله وقوله، وإن كنت بعيداً عنه.
13- أضر شيء على المريد تغير قلب الشيخ عليه، ولو اجتمع على صلاحه بعد ذلك مشايخ الشرق والغرب.
14- كما يجب على الشيخ أن يقبل المريد في الطريق حتى يختبر صدقه في طلبه وشدة تعطشه إلى من يدله على ربه.
15- إن لم يجد المريد شيء فعليه بملازمة الجد والاجتهاد (في الطاعة والعبادة)، مع كمال الصدق والالتجاء إلى الله حتى يقيض الله من يرشده ويسوق إليه من يأخذ بيده.

الفصل الثامن عشر
(تتمَّة في آداب المريد مع الشيخ)

من شروط المريد السالك:
1- إن أردت من شيخك أمراً أو بدا لك أن تسأله عن شيء فلا يمنعك إجلاله والتأدب معه عن طلبه وسؤاله المرة والمرتين والثلاث، إلا إن أشار عليك بالسكوت أو أمرك بترك السؤال.
2- إن منعك الشيخ من أمر أو قدم عليك أحد فإياك أن تتهمه، ولتكن معتقداً أن ما فعلَ إلا ما هو أنفع وأحسن لك.
3- إذا وقع منك ذنب ووجد عليك شيخك بسبب ذلك فاعتذر له وبادر في ذلك.
4- إذا أنكرت قلب شيخك عليك أو فقدت منه بِشراً كنت تألفه أو نحو ذلك فحدثه بما وقع لك، ليكشف لك السبب إن كان هناك سبب، أو أن يذهب عنك توهم الشيطان الذي أراد أن يسوءك.
5- إذا امتلأ المريد بشيخه تعظيماً وإجلالاً واجتمع عليه بظاهره وباطنه وأمثل أوامره وتأدب بآدابه لابد أن يرث سره أو شيئاً منه إن بقي بعده.

الفصل التاسع عشر
(الخاتمة: أوصاف المريد الصادق، وما يجب أن يكون عليه)
قال بعض العارفين رضي الله عنهم ونفعنا بهم أجمعين:
1ـ لا يكون المريد مريدا حتى يجد في القرآن كل ما يريد ويعرف النقصان من المزيد ويستغني بالمولى عن العبيد ويستوي عنده الذهب والصعيد.
2ـ المريد من حفظ الحدود ووفّى بالعهود ورضي بالموجود وصبر على المفقود.
3ـ المريد من شكر على النعماء وصبر على البلاء ورضي مر القضاء وحمد ربه في السراء والضراء وأخلص له في السر والنجواء.
4ـ المريد من لا تسترقه الأغيار، ولا تستعبده الآثار، ولا تغلبه الشهوات، ولا تحكم عليه العادات كلامه ذكر وحكمة وصمته فكرة وعبرة يسبق قوله فعله ويصدق علمه عمله شعاره الخشوع والوقار ودثاره التواضع والانكسار يتبع الحق ويؤثره ويرفض الباطل وينكره يحب الأخيار ويواليهم ويبغض الأشرار ويعاديهم خُبْره أحسن من خبَره ومعاشرته اطيب من ذكره كثير المعونة خفيف المؤونة بعيد عن الرعونة أمين ومامون لا يكذب ولا يخون ولا بخيلا ولا جبانا ولا سبابا ولا لعانا ولا يشتغل عن بُدِّه و لا يشح بما في يده طيب الطوية حسن النية ساحته من كل شر نقية وهمته فيما يقربه من ربه عليّة ونفسه على الدنيا أبية لا يصر على الهفوة ولا يحجم بمقتضى الشهوة قرين الوفاء والفتوة حليف الحياء والمروة ينصف كل أحد من نفسه ولا ينتصف لها من أحد إن أعطي شكر وإن منع صبر وإن ظلم تاب واستغفر وإن ظلم عفا وغفر يحب الخمول والاستتار ويكره الظهور والاشتهار لسانه عن كل مالا يعنيه مخزون وقلبه على تقصيره في طاعة ربه محزون لا يداهن في الدين ولا يرضي المخلوقين بسخط رب العالمين يأنس بالوحدة والإنفراد ويستوحش من مخالطة العباد ولا تلقاه إلا على خير يعمله أو علم يعلّمه يُرجى خيرُه ولا يُخشى شرُّه ولا يؤذي من آذاه ولا يجفي من جفاه كالنخلة تُرمَى بالحجر فترمي بالرُّطَب وكالأرض يُطرَح عليها كلُّ قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح تلوح أنوار صدقه على ظاهره ويكاد يفصح ما يرى على وجهه عما يضمر في سرائره سعيه وهمته في رضاء مولاه وحرصه ونهمته في متابعة رسوله وحبيبه ومصطفاه يتأسى به في جميع أحواله ويقتدي به في أخلاقه وأفعاله وأقواله ممتثلا لأمر ربه العظيم في كتابه الكريم حيث يقول: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) (ومن يطع الله ورسوله فقد أطاع الله) (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) فتراه في غاية الحرص في متابعة نبيه ممتثلا لأمر ربه وراغبا في الوعد الكريم وهاربا من الوعيد الأليم الواردين في الآيات التي اوردناها وفيما لو نورده فيما هو في معناها المشتملة على البشارة بغاية الفوز والفلاح للمتبعين للرسول، وعلى النذارة بغاية الخزي والهوان للمخالفين له.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السماوات والأرض ياذا الجلال والإكرام أن ترزقنا كمال المتابعة لعبدك ورسولك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وأعماله وأقواله ظاهرا وباطنا وتحيينا وتميتنا على ذلك برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك .
(سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) .
مستجدات آداب سلوك المريد في المرحلة المعاصرة:
سبقت الإشارة إلى مسألة (التعليم الأبوي) الذي كان سائداً في العالمين العربي والإسلامي منذ فجر الرسالة وحتى مرحلة الاستعمار، وتقييم العالم الإسلامي، وإعادة النظر في التعليم والتربية.
وهذه المرحلة المشار إليها بالإستعمار ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (بالغثاء) في الحديث الصحيح.
ومرحلة الغثاء يقدرها علماء الإسلام منذ سقوط قرار دولة الإسلام بانهيار الخلافة العثمانية وبدء مرحلة التحولات السياسية والاجتماعية والتربوية خلال القرن التاسع عشر الميلادي.
وقد مرت بلاد المسلمين أبان هذه المرحلة بدورين خطيرين:
الأول: مرحلة ضعف دولة الخلافة وانعكاس ذلك على العالمين الإسلامي والعربي وعلى دولة الخلافة ذاتها.
الثاني: مرحلة الدور القبلي الذي استثمرته القوى الاستعمارية ووقعت فيه معاهدات الحماية والمساعدة للدويلات والسلطنات والمشيخات والإمارات.
وخلال هاتين المرحلتين بدأ التعليم يخرج عن طوره الإسلامي المتوارث كما خرجت التربية ذاتها في كثير من البلاد.
أما في حضرموت بالخصوص فقد حافظت عواصم العلم الشهيرة إلى حدٍ ما على هذا المنهج الأبوي مدة أطول، واستطاعت أن توزع أسلوب مدرستها الأبوية على بعض بقاع اليمن وبقاع العالم لما تملكه المدرسة من ثوابت العلم والعمل والورع والإخلاص والخوف من الله عند مخاطبة الشعوب، ورفضها منازعة الحاكم في حكمه وإنما مناصحته، وخاصة أن حكام المراحل السابقة كانوا من داخل الواقع المحلي أو العربي أو الإسلامي حسب تقلبات الأزمنة والظروف من عصر خلافة إسلامي عامة إلى عصر إمامة الزيدية، أو دويلات إسلامية متناثرة، إلى عصر حكام وسلاطين محليين.
وقد انقطع هذا النسق السياسي مع مرحلة الغثاء – مرحلة الاستعمار العالمي – كما انقطع النسق التربوي والتعليمي بهذه المرحلة، ودخل العالم الإسلامي في العموم والعالم العربي بخصوصه منذ ذلك الحين مرحلة جديدة في السياسة، والاقتصاد، والعلوم الاجتماعية، والتربية، والتعليم، وحدود الأرض، وأسلوب الفكر، والتدين المذهبي، والتشكيلات الاجتماعية، وانقطع الأمل في الأساليب التقليدية بشروطها الإسلامية الكاملة.
وتخرَّج من مدارس الغثاء وكلياته ومعاهده (المسلم الجديد) وبقي من التعليم الأبوي التقليدي آثار محدودة جداً وخاصة في حضرموت، حيث استطاعت قواعد السلف التربوية والتعليمية أن تكافح أعاصير التحولات وتصمد خلال التقلبات بنسبة معينة أسهمت في إبقاء العديد من آثار المنهج التربوي الأبوي رغم ما تعرض له رجال هذا المنهج من الحرب الإعلامية والقتل والسحل والأذى والضغوط الداخلية والخارجية.
ولم يسلم هذا المنهج الأبوي أيضا من الضعف والتخلخل والانحسار جيلاً بعد جيل وخاصة بعد أن حمل العديد من أحفاد (المهاجر والمحضار والسقاف والحداد) الأفكار والرؤى المعاصرة، وذاب آخرون في مشاتل المجتمعات المتحولة داخلاً وخارجاً، وتكاثر الأبناء المنقطعون عن التعليم والتربية الأبوية ماعدا الانتماء العرقي أو الانتماء بالطريقة مع ضعف في العلم والمواقف.
ولمَّا دخل المسلمون مرحلة الاستثمار لسابق الأطروحات الفكرية العالمية والمسماة بـ(مرحلة الصحوة) ظنَّ الكثير من مسلمي التحولات أنَّ هذه المرحلة هي مرحلة العودة إلى الإسلام في كل صوره، والحقيقة أنها عودة على ثلاثة أقسام:
1- عودة المحبطين والغافلين من أتباع المدرسة التقليدية إلى إعادة بناء مدارسهم التقليدية وترتيب ثوابتها العلمية والعملية بعد محاربة الاستعمار والاستهتار والاستثمار لها ولرجالها مع جهل مطبق بسياسة المراحل وتقلباتها.
2- إعادة التشكيلات الاجتماعية والدينية في الواقع الإسلامي بنقض عرى الحكم والسياسة، وتسليط الفئات بعضها على بعض تحت مسميات السلفية، والحزبية، والتيارية لتقوم ضد المذهبية التقليدية، وآل البيت، والمنهج الصوفي المتنوع.
3- بناء جبهات إسلامية متطرفة ذات علاقة بالتحولات الاقتصادية والسياسية العالمية لإكمال المشروع الاستسلامي والتجزئة السياسية والفكرية والاجتماعية في العالمين العربي والإسلامي باسم الصحوة.
ومن هذه المواقف المتحولة والمتغيرة صار لازماً على أتْبَاع مدرسة حضرموت في المرحلة المعاصرة أن يدركوا كغيرهم مستجدات هذه التحولات وأثرها على الواقع وعلى التربية الأبوية والتركيبات الاجتماعية، وأنَّ إعادتنا لقواعد السلف التربوية والتعليمية لا يقتصر على مجرد القراءة والاطلاع والتقرير لما كانوا عليه معتقدين أن مدلول الطريق قائم على قدم وساق. بل يلزمنا معالجة ما أحدثته المراحل من جهة، ورفع مستوى المريدين والأتباع إلى المادة العلمية العملية، المناسبة للزمان والأحوال مستصبحين بآراء وتعليمات السلف أمثال الإمام الحداد.
وتكوين جيل العصر الجديد المتوازن مع مستجدات المرحلة وتقلباتها مع حفظ ثوابت السلوك والطريقة وتجديد وسائلها وعناصر تطبيقها ويتم ذلك بما يلي:
1- فهم معنى الطريق كطريقة ومدلول سير المريد فيها.
2- فهم معنى المدرسة كمدرسة ومدلول شمول معناها وثوابتها.
3- فهم معنى آل البيت كعائلة ومحدودية آثار ذلك في الواقع المعاصر.
4- فهم معنى آل البيت كمدرسة وشمولية آثار ذلك وفائدته.
5- فهم معنى التعليم والتربية الأبوية وأساس مناهجها.
6- فهم معنى التعليم المسيس وأساس منهجيته.
7- فهم مدلول التحولات في العالمين العربي والإسلامي وربطه بمدلول الغثائية المعبر عنها في الصحيح.
8- فهم تقلبات الأمة الإسلامية ومدارسها التقليدية خلال مراحل الاستعمار، الاستهتار، الاستثمار، وآثار كل مرحلة على المنهج وامتداده.
9- فهم ما يحاك في الخفاء أو العلن لحرب ومنع ما بقي من آثار التعليم الأبوي وإرباك رجاله وجرهم إلى أتون الصراع المفتعل وكيفية التخلص من هذه …
10- تجديد مسائل الطريق والنظر في قواعد السلوك لتلائم – إلى حدٍ ما – مستجدات التحولات الجديدة كرافد هام لاستمرار أثر المدرسة التقليدية في المرحلة المعاصرة ولو بنسبة معينة.
11- العمل على إعادة طرفي التربية والتعليم ومزجهما في بوتقة واحدة على أساس جديد ومتطور يتلاءم مع مستجدات ومنجزات العلم والحضارة المعاصرة على غير إفراط ولا تفريط.
إنَّ تطبيق آداب سلوك المريد بحذافيره مسألة فيها نظر، ولن يستطيع امرؤ مهما أتى من الإخلاص والهمة والإرادة أن يعيد هذه المفاهيم والثوابت للواقع العملي اليومي كما هي في عصر الإمام الحداد، لأنَّ هذه الثوابت كانت حينها من مستجدات ذلك العصر وتحولاته، ولم يكن بعضها معروف من قبل بكافة أنواعه ونماذجه.
ومن فقه رجال الطريق كالإمام الحداد استفادوا من تحولات المراحل وتقلبات الأزمان فرسموا لمريديهم وأهل عصرهم ثوابت الطريق على أساس فهم المرحلة.
أما حقيقة التربية الأبوية التي كانت قبل الإمام الحداد فهي مشروحة في بقية كتبه وأشعاره، وهي التي يبكي عليها ويتأسف لفقدها وذهابها مع التحولات فها هو يقول:
مضى الصدق وأهل الصدق يا سعد قد مضوا مضوا
فلا تطلبن الصدق من أهل ذا الزمن

فليس لهم صدق ولا يعرفونه
قد ارتبكوا في لجة المين والدرن[13]

مقارنة بين العهد الأبوي والعهد المعاصر
العهد الأبوي                                                                      العهد المعاصر
• الرزق القوام الحلال                                                   الرزق المشبوه والحرام
• العزلة أو الخلوة                                                        الاختلاط بين الأضداد
• المجاهدة في الله                                                        الإحباط والتكاسل
• قلة الطعام والكلام                                                      كثرة الطعام والكلام
• مجانبة الأضداد                                                         امتزاج الأجناس
• انعدام تأثير الإعلام                                                    الإعلام الرخيص مسلم وكافر
• الشيخ المربي والمسلك                                                المدرس
• المنهاج الأبوي للتربية                                               المنهج المسيس (عزل الابن عن الأب)
• المنهاج الأبوي للتعليم                                               المنهج المسيس (تسييس التعليم)
• حجز المرأة بالآداب                                                   حرية المرأة وحقوقها المزيفة
• تباعد المناطق                                                          تقارب البلاد بالوسائل
• عهود إسلامية متعاقبة                                               عصر استعماري واشتراكي واستثمار
• جهاد في سبيل الله                                                     جهاد في سبيل الدنيا والحال
• قرار إسلامي موحد                                                   قرار كافر موحد
• تسليك وتأديب وربط بالإسلام                                     تفكك وجرأة على الآداب وربط بعجلة الغرب والشرق.
• زجر العلماء لأهل الانحراف والبدع                             سيطرة الأهل والانحراف والبدع وتسييس الدين
• ظهور آل البيت والمذهبية والصوفية                             تقليد المسلمين للكفار في مظاهر الحياة الاجتماعية

إعادة ترتيب مفهوم السلوك على ضوء رسالة آداب سلوك المريد
مما لاشك فيه أنَّ فرص التطبيق السليم لآداب سلوك المريد الإرادة كانت لدى رجال التربية والتسليك الأوائل أنفع وأجدى منها في عصرنا وزماننا لما ذكرنا من الأسباب والعوامل.
ونعتقد أنَّ مرحلتنا المعاصرة الآن وقد تهيأت فيها أسباب وعوامل الإعادة والاستعادة لبعض ضوابط التربية والتعليم الأبوي وخاصة في الأربطة الإسلامية ودُور العلم الشرعي ذات الارتباط بالمنهج الأبوي الإسلامي المسند، وكان من فوائدها أيضاً إقامة الحوليات والذكريات لرجال التربية الأبويه أمثال إمامنا الحداد رحمه الله، فالمتحتّم علينا أن نجتهد في إنشاء جيل التربية الإسلامية المتسلح بالعلم والتقوى بصورة ملائمة لمستجدات الزمان وعلومه وتحولاته.
حيث أنَّ الانحصار في الأساليب القديمة وإن كان مجدية ونافعة بلا شك إلا أنَّ الوعاء التطبيقي لها قد تحول عن سابق وضعه حتى بالنسبة لواقع المدرسة ذاتها.
والأساليب هي (الوسائل) فقط، أما الثوابت والأصول فكما ذكرنا سلفاً لا بديل عنها ولا تحول عن تطبيقها في الحياة.
فعلى سبيل المثال: نجد أن من وسائل المدرسة القديمة إقامة الحوليات والزيارات للصالحين والأولياء، ونرى أنَّ كافة مظاهر هذه المناسبات تتعرض اليوم إلى نقد لاذع وتهمة خطيرة من جهات ذات علاقة بالإسلام، وفي المقابل نجد من قوافل المحبين والراغبين في الوسائل القديمة تعصب وتحد ضد آراء وانتقادات المعارضين يزيد الفتنة بين الفريقين اشتعالاً والمنازعات الفكرية لهيباً.
وكلا الفريقين في حقيقة الحال أنهما ضحية (التحولات) وخاصة في مسألة (أساليب التربية والتعليم).
فالمدرسة الحديثة بكافة نماذجها علمانية واشتراكية وقومية وسلفية وحزبية تعاني من تسييس التربية والتعليم لتنصب في مجري المصالح العليا للسياسات الحاكمة والمؤثرة ديناً ودنيا.
والمدرسة التقليدية بكافة نماذجها وطرقها تعاني من انحسار قدراتها التربوية والتعليمية عن التأثير في الواقع كله، كما تعاني من الإفراط المندفع من عوام الأمة وبسطاء المسلمين.
والمعالجة السديدة تدعونا جميعاً إلى تجاوز كلا الفريقين واتخاذ الموقف الوسط لا إفراط ولا تفريط.
فلا نفرِّط في قواعد السلف وجليل عاداتهم وأساليب اختياراتهم النافعة مع إعادة تأصيلها الشرعي، ولا نقبل التُهَم والاندفاعات من الخلف، بل نقبل منهم النصيحة والدعوة إلى الاعتدال وعدم التهور في شأن العلاقة بين الأحياء والأموات.
ونضبط الحوليات والمناسبات بما يتلاءم مع ذكريات الإسلام وتجديد ضوابطه والاستفادة من وسائله محلية وعالمية العلم والحضارة لنصنع من جديد مشاتل التربية الأبوية والتعليم الأبوي على أساس واعٍ ومعتدل بما يتلاءم مع الزمان والمكان، حيث أنَّ البدائل المطروحة في ساحة الحياة الاجتماعية تعتبر من وجهة نظرنا مكائد مبطنة ومعلنة يسحب أثر الإسلام عن أهله وتحويلهم إلى طبول جوفاء تردد الصدى دون أن يكون لها واقع ملموس يعبر حقيقة عن مدلولات التربية الإسلامية والتعليم الأبوي الإسلامي.

******

 

[1]هو والد العلامة المتفنن الشهير: عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه.
[2] وكان عدد صفحات هذه الطبعة 42 صفحة بورق تجاري، وفيها مقدمة للشيخ حسنين محمد مخلوف وله عليها تعليقات في الحاشية.
[3] قال الحافظ العجلوني في كشف الخفاء (1 / 234): وتمامه (وأنا عند المندرسة قلوبهم لأجلي) … ولا أصل له في المرفوع اهـ .
[4] قال العجلوني في كشف الخفاء (1 / 344 9: رواه البيهقي في الشعب بإسناد حسن إلى الحسن البصري رفعه مرسلا وذكره الديلمي في الفردوس، وقال ابن الغرس: الحديث ضعيف. ورواه البيهقي أيضا في الزهد وأبو نعيم من قول عيسى ابن مريم اهـ وفي كشف الخفاء زيادة بحث عن طرق روايته بألفاظ أخرى ومن قول الحفاظ في ضعفه فليراجع.
[5] رواه ابن أبي الدنيا في جزء الصمت، وذكره الزبيدي في شرح الإحياء (7 / 465) .
[6] رواه البخاري في صحيحه.
[7] رواه البزار في مسنده.
[8] ذكره الغزالي في الإحياء وقال العراقي: لم أقف له على أصل، وروى ابن عبدالبر من حديث ابن معاذ (ما أنزل الله شيئا أقل من اليقين). انظر كشف الخفاء للعجلوني (1 / 305)
[9] في بعض الطبعات: ((هنا فصل مستقل تحت عنوان السير إلى الله لا ينافي في الكسب ولا يقتضي التجرد عن الأسباب)).
[10] رواه عن ابي هريرة مسلم في صحيحه واحمد والترمذي وابن ماجه.
[11] وما يشير به عليك من تركه كقول بعضهم لتلاميذه: لا تقتدوا بي في كثرة النكاح وصرف المال (أهـ).
[12] في نوم، أو فراسة، أو إلهام.
[13] الديوان: 322.