سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الثانية والخمسون| وفد ثقيف

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

حين فتح المسلمون مكة، وانتصروا على هوازن في حنين، وعلى الروم في تبوك، أخذت القبائل العربية تتوافد على المدينة، فمنهم من يريد اعتناق الإسلام، ومنهم من يريد المسالمة رهبةً منه، أو رغبةً فيه، وذلك في العام التاسع الهجري، الذي سمي بعام الوفود، من أهمها وفد ثقيف.                    

كان لثقيف ماضٍ سيءٌ جداً مع المسلمين؛ لأمورٍ:

  •  منها: موقفهم السلبي من الرسول صلى الله عليه وسلم حين أتاهم في السنة العاشرة للبعثة يستنجد بهم، ويدعوهم إلى الإسلام.
  • ومنها: اشتراكهم مع هوازن في حرب حنين.
  • ومنها: قتلهم زعيمهم عروة بن مسعود حين دعاهم إلى الإسلام، مما ترك أثراً سيئاً في نفوس المسلمين نحوهم، فحاصرتهم قبيلة هوازنَ التي أسلمت عما قريب بقيادة زعيمها مالك بن عوف، فتدهور وضعهم الاقتصادي؛ مما دفعهم مرغمين للتشاور فيما بينهم، فخلصوا إلى أنه لا طاقة لهم بحرب المسلمين، فأرسلوا وفداً، يرأسهم عَبْدُ يَالِيلَ بنِ عمرو، حتى حطوا رحالهم قريبا من المدينة [1]، فلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْزَلَهُمُ الْمَسْجِدَ لِيَكُونَ أَرَقَّ لِقُلُوبِهِمْ   [2]؛ وفي هذا دليل على جواز دخول الكفار إلى مساجد المسلمين بإذن مسلم مكلف كامل الأهلية بشرط ألا يكون قد شُرِطَ عليهم في عقد الذمة عدمُ الدخول، وألا يكون دخولهم للنوم والأكل، أو السياحة وألا يُخشى تنجيس المسجد، أو التشويشُ على المصلين، أو فتنتُهم بدخول نساءٍ بأزياءَ فاضحة، واستقر الأمر أخيراً على استثناء مكة والمدينة [3].           

وبعد أيام من ترددهم على الرسول عليه الصلاة والسلام سألوه أن يكتب وثيقة صلح بينه وبينهم، يأذن لهم فيها بالزنا، وشربِ الخمر، وأكلِ الربا، وأن يترك لهم اللات، ويعفيَهم من الصلاة، فأبى أن يقبل شيئاً من ذلك، فرضوا بكل ما طلب منهم؛ لِمَا رأوا من إصراره، على أن يكفيهم هدم اللات، فأجابهم إلى ذلك، وكتب لهم كتاباً، وأمَّرَ عليهم عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ؛ لِمَا رأى مِنْ حِرْصِهِ عَلَى العلم، وفهم القرآن.

وفيه دليل على أن أحق الناس بالولاية والإمامة أعلمُهم بكتاب الله.    

ثُمّ خَرَجَ الْوَفْدُ عَامِدِينَ إلَى الطّائِفِ، فسألهم قومهم عما رجعوا بِهِ؟ فأخذوهم بالحيلة؛ لما يعلمون من عنادهم، فقَالُوا: جِئْنَاكُمْ مِنْ عِنْدِ رَجُل دَانَ لَهُ العرب، وأرعب بني الأصفر، وحَرّمَ عَلَيْنَا الزّنَا، وَالْخَمْرَ، وَالرّبَا، وطلب أَنْ نَهْدِمَ الرّبّةَ، فلم نقبل، وهو مصبحكم، أو ممسيكم.

فأَدْخَلَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ؛ فَقَالُوا: مَا لَنَا بِهِ طَاقَةٌ، فَارْجِعُوا إلَيْهِ فَأَعْطُوهُ مَا سَأَلَ، وَصَالِحُوهُ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ إلَيْنَا بالْجُيُوشَ.

حينئذٍ أخبروهم بما جرى، وأثنوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: وَجَدْنَاهُ أَبَرّ النّاسِ، وَأَوْصَلَ النّاسِ، وَأَوْفَى النّاسِ، وَأَرْحَمَ النّاسِ، وأصدق الناس، وَقَدْ أعفانا مِنْ هَدْمِ اللات، وأرسل أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة؛ لهدمها، فقَالَ الْمُغِيرَةُ لِأَصْحَابِهِ حين أَخَذَ الْمِعْوَلَ، وَاسْتَوَى عَلَى رَأْسِ اللات: لَأُضْحِكَنّكُمْ الْيَوْمَ مِنْ ثَقِيفٍ، وَقَدْ خَرَجَت ثقيف عن بكرة أبيها، الصغار، والكبار، والرجال، والنساء حُسَّرًا، يبكين اللات، وينحن عليها، فَلَمّا ضَرَبَ الْمُغِيرَةُ ضَرْبَةً بِالْمِعْوَلِ، تظاهر أنه سَقَطَ مَغْشِيّا عَلَيْهِ، يفحص برجليه كالمذبوح، فَصَاحَ أَهْلُ الطّائِفِ صَيْحَةً وَاحِدَةً: كَلّا! زَعَمْتُمْ أَنّ الرّبّةَ لَا تَمْتَنِعُ، بَلَى وَاَللهِ لَتَمْتَنِعَنّ! وَأَقَامَ الْمُغِيرَةُ مَلِيَّاً، وَهُوَ عَلَى حَالِهِ تِلْكَ، ثُمّ اسْتَوَى قائماً، وأكمل مهمته، وَانْتَهَى إلَى خِزَانَتِهَا، وَانْتَزَعُوا حِلْيَتَهَا، وَكُسْوَتَهَا، وَمَا فِيهَا مِنْ طِيبٍ [4]؛ فبهتت ثقيف، وأدركت أنها كانت في ضلال، فأسلمت، وغدت بعدها من أشد القبائل إخلاصاً للدعوة؛ حتى قال المغيرة: (فَدَخَلُوا فِي الإِسْلامِ فَلا أَعْلَمُ قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ بَنِي أَبٍ وَلا قَبِيلَةً كَانُوا أَصَحَّ إِسْلامًا وَلا أَبْعَدَ أَنْ يُوجَدَ فِيهِمْ غِشٌّ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ مِنْهُمْ) [5].

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

__________________________________________

[1]: سيرة ابن هشام، 2/ 537 باختصار.

[2]: سنن أبي داود، 3028.

[3]: إعلام الساجد للزركشي: 319- 321 باختصار.

[4]: البيهقي دلائل النبوة، 5/ 301، زاد المعاد في هدي خير العباد، 3/ 522.

[5]: ابن سعد في الطبقات الكبرى، 1/ 238.