سلسلة الأربعون الرمضانيَّة | المقالة الرابعة والعشرون | د. محمود مصري

 

 

                • الباب الخامس: العبادة في رمضان

 

        • 3- الاجتهاد في العبادة في رمضان

        • عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» متفق عليه. [1]

هذا الحديث الشريف يظهِر لنا خصوصيّة العبادة في رمضان، واجتهاد النبي في العبادة في العشر الأخير منه على وجه الخصوص. ففي رواية لمسلم: «كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره».

والمئزر والإزار: ما يأتزِر به الرجل من أسفله، وهو هنا كناية عن الجدِّ والتشمير في العبادة. قال سفيان الثوري: “معنى (شدَّ المئزر) هنا: لم يقرب النساء، وهو من ألطف الكنايات”.

«وَأَحْيَا لَيْلَهُ»: يعني باجتهاده في الصلاة والذكر وتلاوة القرآن.

– وفي إحياء الليل وجهان ذكرهما الطيبي رحمه الله، فقال: “أحدهما راجع إلى نفس العابد، فإن العابد إذا اشتغل بالعبادة عن النوم الذي هو بمنزلة الموت، فكأنما أحيا نفسه، كما قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزمر: 42]، وثانيهما: أنه راجع إلى نفس الليل، فإن ليله لما صار بمنزلة نهاره في القيام فيه، كأنه أحياه، وزيّنه بالطاعة والعبادة، ومنه قوله تعالى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم: 50]. [2]

– قال النووي رحمه الله: “وفيه اسْتِحْبَاب إحْيَاء لياليه بالعبادات. وَأما قَول أَصْحَابنَا: يكرَه قيام اللَّيْل، فَمَعْنَاه الدَّوَام عَلَيْهِ، وَلم يَقُولُوا بِكَرَاهَة لَيْلَة وليلتين وَالْعشر.” [3]

– قال الملّا علي القاري رحمه الله: “يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى إِحْيَاءِ أَكْثَرِهِ”. [4]

 

«وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ»: من فقه الرجل أن يحضَّ أهله على عمل النوافل، ويأمرهم بغير الفرائض من أعمال البِّر ويحملهم عليها، وعن ابن عباس: «أنه ﷺ كان يرشُّ على أهله الماء ليلة ثلاث وعشرين» [5]. وفيه ما لا يخفى من الحثِّ على إشاعة الأحوال الإيمانيّة في البيوت.

وإنما فعل ذلك؛ لأنه أخبِر أن ليلة القدر في العشر الأواخر، فسَّن لأمَّته الأخذ بالأحوط في طلبها في العشر كلّه.. ولو أعلم الله عباده أن في ليالي السنة كلّها مثل هذِه الليلة، وأوجب عليهم أن يحيوا الليالي كلّها في طلبها؛ فذلك يسير في جنب غفرانه، والنجاة من عذابه، فرفَقَ تعالى بعباده وجعل هذِه الليلة الشريفة موجودة في عشر ليالٍ؛ ليدركها أهل الضعف، وأهل الفتور في العمل منَّا، منَّةً ورحمة. [6]

والأصل في ذلك هو سنيَّة صلاة التراويح التي هي قيام رمضان، كما في حديث السيدة عائشة: «مَا كَانَ رَسُولُ الله ﷺ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا». [7]

وصلاة التراويح هي سنّة مؤكَّدة باتفاق المذاهب. وهذا الحديث يشير إلى أنّها ثمان ركعات، عدا الوتر، لكنّ الصحابة رضي الله عنهم صلّوا التراويح عشرين ركعة جماعةً، ولم يُنكر أحدٌ منهم ذلك، وكثرت الروايات عن الصحابة بذلك، فكان إجماعًا منهم، فعن يزيد بن خُصيْفَةَ عن السائب بن يزيد قال: (كانوا يقومون في عهد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة. قال: وكانوا يقرؤون بالمئين، وكانوا يتوكّؤون على عِصيِّهم في عهد عثمان بن عفّان رضي الله عنه من شدَّة القيام). [8]

ثمّ إنّ أهل المدينة زادوها في عهد عمر بن عبد العزيز، فصارت ستَّا وثلاثين ركعة، عدا الوتر.

فذهب الأئمة الأربعة وجماهير العلماء إلى أن السنّة في قيام رمضان (التراويح) عشرون ركعة، واختار مالك أن تُزاد إلى ستٍّ وثلاثين، لعمل أهل المدينة بذلك، وقال المالكية: إن كلا الأمرين واسع. [9]

وأكثر ما قيل فيها أن تُصلَّى إحدى وأربعين ركعة مع الوتر، كما ذكر الترمذي، وقال: “وَأَكْثَرُ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ المُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيِّ.. وقَالَ أَحْمَدُ: “رُوِيَ فِي هَذَا أَلْوَانٌ وَلَمْ يُقْضَ فِيهِ بِشَيْءٍ.” [10]


وهكذا فقد أخذ فقهاء المذاهب بفعل الصحابة، كما أمرهم النبي : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنواجذ» [11]. ولأن هذا يدخل تحت عموم قوله ﷺ: «الصلاة خير موضوع، فمن شاء استقلّ، ومن شاء استكثر» [12]. وشذّ جماعة فخالفوا الصحابة والأئمة، وقالوا: الزيادة على الثمانية بدعة غير جائزة. واعتمدوا على الطعن بحديث يزيد الذي صحَّحه العلماء المعتبرون النُّقاد، وعلى أن التراويح سنّة راتبة فلا يجوز الزيادة عليها، كسنّة الفجر القبلية، وأجيبوا عن هذا بأن فعله ﷺ إحدى عشرة ركعة لا ينفي غيره، لأن العدد لا مفهوم له، أي لا يثبت للعدد مفهوم مخالف، باتّفاق العلماء. وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه صلّى أكثر من إحدى عشرة، كما في البخاري.

وأخرج ابن حبّان وابن المنذر والحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا: «أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرة أو أكثر من ذلك». [13]

وقالوا بأن حديث يزيد معارَض بما رواه مالك في الموطّأ “أمر عمر بن الخطّاب أبي بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة..” وقد أجاب العلماء: أن لا تعارض، فهذا بحسب تطويل القراءة أو تخفيفها، فحيث تطول القراءة تقلُّ الركعات، وحيت تقصُر القراءة تكثُر الركعات. أو أن الإحدى عشرة كانت أول الأمر، ثم استقرّوا على العشرين.

– قال ابن عبد البرّ رحمه الله: “وقد أجمع العلماء أن لا حدّ، ولا شيء مقدَّرًا في صلاة الليل وأنها نافلة، فمن شاء أطال فيها القيام وقلّت ركعاته، ومن شاء أكثر الركوع والسجود”.

أما ما هو الأفضل: كثرة الركوع أو إطالة القيام؟ 

فقولها في الحديث السابق: «فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ»، يدلّ على تفضيل طول القيام، وذلك أن قراءة القرآن في طول القيام مقدَّمةٌ على الذكر الحاصل في كثرة الرّكعات. وحديث «فأعنّي على نفسك بكثرة السجود» يشهد لتفضيل كثرة الرّكعات. والله أعلم. [14]

 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا وأهلينا وأحبابنا ممن يجتهد في العبادة في المواسم الإلهية المباركات، ونسأله العون على ذكره وشكره وحسن عبادته، وألا يجعلنا من الغافلين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] البخاري في فضل ليلة القدر (بَابُ العَمَلِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) 3/ 47، ومسلم في الاعتكاف (بَابُ الِاجْتِهَادِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ) 2/ 832.

[2] الكاشف عن حقائق السنن 5/ 1625.

[3] عمدة القاري للعيني 11/ 140.

[4] مرقاة المفاتيح 4/ 1441. 

[5] أخرجه الطبراني 11/ 128. وانظر التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقّن 13/ 609.

[6] المصدر السابق.

[7] البخاري في التهجُّد (بَابُ قِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ) 2/53.

[8] البيهقي 2/ 496 وما بعد، والمجموع للنووي 3/ 527، وصحَّحه، وكذلك الزيلعي في نصب الراية 2/ 154.

[9] انظر المجموع 3/ 527، وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة أبي زيد 1/ 407.

[10] الترمذي 3/ 160.

[11] الترمذي في أَبْوَابُ الْعِلْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (بَابُ مَا جَاءَ الدَّالُّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِهِ) 5/ 44. 

[12] صحيح ابن حبّان 2/ 76.

[13] التلخيص الحبير 2/ 39.

[14] انظر إعلام الأنام للعتر 2/ 80 وما بعد، بتصرّف واختصار.