المقالة الثانية عشرة من سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: المرحلة السرية

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

بدأت دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الله وحده في منتهى السِّرِّيَّة؛ حذراً من وَقْعِ المفاجأة على قريش، التي كانت متعصبةً لدينها؛ لأنها تعتبره مصدرَ سيادتِها على العرب، ومصدرَ ثرائها العريض. ولم يكن صلى الله عليه وسلم يدعو إلا من يثق بهم ويطمئن إليهم، من أصحاب الفِطَرِ السليمة، والقلوب الرقيقة، والنفوس المستعدة لقبول الحق، ممن خَبِرَهُم جيداً؛ بحيث إذا استأمنهم على أمرٍ لم يُفْشُوه أبداً، كأبي بكرٍ الصديقِ رضي الله عنه وأمثالِه لأنه كان صلى الله عيه وسلم يحرص كلَّ الحرص على ألا ينكشف أمر الدعوة في بدايتها لسادة قريش؛ مخافة أن يَهُبُّوا للقضاء عليها وهي لا تزال في المهد، لم يَقْوَ عودُها بَعْدُ. 

ثم لما أربى الذين دخلوا في الإسلام على الثلاثين اختار لهم النبي صلى الله عليه وسلم دار الأَرْقَم؛ لعقد الاجتماعات وتَلَقِّي الإرشاد والتعليم. 

وإنما اختار دار الأرقم؛ لأن الأرقم أسْلَمَ ولا يعلم أحدٌ بإسلامه، وكان صغير السن لا يتجاوز السادسةَ عشْرَةَ من عُمُرِه، وهو مع ذلك من بني مخزوم، الذين هم شديدو الكراهية لبني هاشم، يعني أن النبي كان يعقد اجتماعاته في عُقْرِ دار أَلَدِّ أعدائه وكانت داره لا يُطِلُّ عليها أيُّ مكانٍ يمكن منه مراقبة الداخل إليها والخارج منها. وباجتماع هذه الحيثيات تكون هذه الدار أبعدَ ما يكون عن مراقبة المشركين.

ومما ينبغي الإشارة إليه أن تَكَتُّمَ النّبي في دعوته إلى هذا الحد الذي سمعناه، خلال السنوات الثلاث الأولى، لم يكن سببُه الخوفَ على نفسه، بل كان الموت في سبيل الله أسمى أمانيه؛ لذا كان يقول: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ[1]. وكان من أعظم الناس إيماناً بقدر الله، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، إنما كان يفعل ذلك لِيُعَلِّمَنَا أن في الشريعة مرونةً ومُتَّسَعاً لاختيار الأنسب؛ حيث يجب الإسرار بالدعوة في وقت، والإعلان بها مع المسالمة والصبر على الأذى في وقت، وتجب المقاومة ورد الصاع صاعين في وقت آخر، وأخيرا يجب غزو أعداء الله في عُقْرِ دارهم إذا ما توفرت وسائل ذلك وأسبابه. وأنَّ شيئاً منها لا يتناقض مع الشريعة، شريطةَ ألَّا يُتْرَكَ الاتِّكَالُ على الله وحدَه، وألا يعتقد أن الأسباب هي المؤثرة في الأشياء دون الله؛ لأنه يَخْدِشُ أصل الإيمان به.

وكان من سياسة النبي ألا يَتَجَمَّعَ كلُّ المؤمنين في مكانٍ واحدٍ؛ حتى لا يُستأصلوا في حال اكتشفتهم قريش، واتخذت قرار إبادتهم؛ ولذلك أشار على عمرو بن عبسة، وأبي ذر الغفاري، حين أسلما أن يعود للدعوة كُلٌّ في قبيلته.

ويَزْعُمُ كثيرٌ من المستشرقين أن العامل الاقتصادي، والطمع بالحصول على الغنائم، هو الدافع الحاسم للإيمان بدعوة محمد.

 علما أن أحدَ بنود بيعة العقبة الثانية النفقةُ في العُسْرِ واليُسْرِ، ولهم الجنة، ولم يَعِدْهُم الرسول بشيءٍ من الدنيا، فتسابقوا إلى الإنفاق بغير حساب، حتى كانت اللُّقمة التي ينفقونها أحبَّ إليهم من اللقمة التي يأكلونها، وقد مدحهم النبي بقوله إنكم لتكثُرون عند الفزع وتقلون عند الطمع، وكان مصعب بن عمير أنعم فتىً في قريش أخرجه من ذلك النعيم حُبُّ الله ورسوله حتى لبس ثوباً مرقعاً بجلد خروف ويوم اسْتُشْهِدَ في أحد لم يجدوا ما يكفنونه فيه. 

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

_______________________________________________________________________________________________

 [1]رواه مسلم، 103 – (1876).