المقال السادس من سلسلة مقاصد السور: سورة الأنعام للشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ علي هاني في هذه السلسلة الغنية مبحثاً في مقاصد أول ثمان سور القرآن الكريم (الفاتحة – الأنفال)، متطرقاً لأسباب النزول، مع بيان السياق القرآني والتاريخي للسور، وأهم مقاصدها مع الاستفاضة فيها، مستخرجا وملخصاً وشارحاً أهم ما ورد بخصوص هذه المفاهيم في كتب التفسير المعتبرة.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

سورة الأنعام

مقصدها بإيجاز:

إثبات التوحيد بالبراهين وما يلزمه من حق التشريع والنبوة والقرآن واليوم الآخر، ونقض الاعتقادات الشركية.

وإذا أردنا توضيحه أكثر نقول مقصود السورة:

أ‌) إثبات أنّ الله سبحانه هو الواحدُ المتصفُ بجميعِ الكمالاتِ، المستحقُ للعبادةِ والحمدِ، المختصُّ بالحكمِ والتشريعِ والتحليلِ والتحريمِ.؛ لأنه الخالقُ لكلِّ شيء الربُّ الحقُّ، المنعمُ بالنعمِ التي لا تحصى.
ب‌) وإثباتُ أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسولٌ، أرسل رسلًا مبشرين ومنذرين يهدي بهم عباده المربوبين إلى دينه الحق وإثبات أن القرآنَ من عند الله، واليومَ الآخر حقٌّ، وإرشادُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتسليته في طريق الدعوة إلى ملة إبراهيم التوحيد، ونقض الشرك اعتقادًا وعملًا.

والإنسان مبتلى ممتحن في الأرض، مأمور بالإيمان بما ذكر، فمن وفى بذلك فاز دنيا وأخرى، ومن كفر وكذب، هلك في الدنيا كالأمم المكذبة قبله، وفي الآخرة فليدركوا أنفسهم بالتوبة قبل فوات الأوان، فهو سبحانه غفور رحيم يتوب عليهم إن تابوا شديد العقاب[1].

مقصود السورة بتفصيل: [2]

مقصودها إثبات أن الله سبحانه هو الواحد الحاوي لجميع الكمالات المستحق وحده للعبادة والحمد،المختصُّ بالحكمِ والتشريعِ والتحليلِ والتحريمِ، وأن يطاع في تحليله وتحريمه.؛لأنه رب كل شيء وهو الذي خلق السماوات والأرض، والذي خلق الإنسان من طين، وأنعم عليه النعم التي لا تعد ولا تحصى، وفعل الأمور العظيمة التي لا يقدر عليها غيره من: الإبداع، والخلق،والإحياء والإماتة،والمنع والإعطاء.

وإثباتُ أن سيدنا محمدًا رسول والقرآنَ من عند الله، وأن البعث حق، وإرشادُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتسليته في طريق الدعوة، ونقض الشرك اعتقادًا وعملًا، مع ذكر الأدلة الكثيرة على التوحيد والنبوة والبعث،.؛ لتصل إلى تعبيد العباد لربهم الحق، فعلى الإنسان أن تكون حياته كلها مسخرة لمرضاته وأن لا يشرك به شيئًا.

فقد وَضَعَ الله تعالى الإنسانَ في الأرضِ، وجعَله موضعَ ابتلاءٍ وامتحانٍ، وهيأَ له كلَّ شيءٍ، وأعطاه منهجًا ودينًا عظيمًا هو دين الإسلام، وملة إبراهيم ملة جميع الأنبياء، وهو الدين الحق، وأمره أن يتبع منهجه لا سيما في التحليل والتحريم،وجعل له أجلًا لموته وأجلًا لقيام الساعة، وهو سبحانه يعلم سره وجهره ويعلم ما يكسب ثم يرجع إلى الله سبحانه فردا فيحاسبه.

ومع كل هذا الذين كفروا يعدلون ويساوون بالله غيره، ويشركون ويكذبون بالآيات مع الأدلة الكثيرة القاطعة على صدق رسله، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها،ويقترحوا آياتٍ أخرى فهم أظلم الناس.

فماذا ينتظرون هل ينتظرون الساعة فهناك لا ينفع نفسًا إيمانها، فليدركوا أنفسهم.؛لأنه من كذب بآيات الله وأعرض عنها سيعذبه سبحانه في الدنيا والآخرة، ولا تنفعه الأصنام ولا غيرها، وهناك لا تزر وازرة وزر أخرى، فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها، وهو سبحانه سريع العقاب وهو غفور رحيم يتوب على من تاب من كفره وذنوبه.

مناسبة اسم السورة لمقصدها:

الأنعام نعمة عظيمة وثروة كبيرة دالة على عظيم فضل الله وقدرته، فحقها أن تشكر بتوحيده سبحانه.؛ لأنه الخالقُ المنعم بهذه الأنعام الربُّ لهم ولها، وبالإيمان برسله، واتباعِ ما جاءت به الرسل في التحليل والتحريم، لأن الأصل أن التحليل والتحريم لا يكون إلا عن طريق الوحي الإلهي والشرع، لكنهم جحدوها بالشرك بالله سبحانه، وبالكفر بالأنبياء، والإعراض عن آيات الله، وبتشريع وافتراء أحكام فيها بأهوائهم لم يأذن بها الله سبحانه، وجعلوا نصيبًا من هذه الأنعام لآلهتهم، وجعلوها دينًا، فكان اسمُ الأنعامِ أدلَّ ما في السورة على مقصودها؛ فاسم السورة يعبر عن المحور المذكور فتسمية السورة بالأنعام[3] أوجز تلخيص لمقصودها بكلمة واحدة، فلله در شأن التنزيل ما أعظمه.

1) قال المهايمي: “سميت بها؛ لأن أكثر أحكامها وجهالات المشركين فيها، وفي التقرب بها إلى أصنامهم مذكورة فيها، وقد اشتملت على أكثر جهالاتهم ويتم ظهورها بها”[4].
2) جاء في التفسير الموضوعي:
“سميت بسورة الأنعام وذلك لما ورد فيها من ذكر الأنعام[5] والشيء قد يسمى بجزئه، فسميت هذه السورة الكريمة سورة الأنعام لورود كثير من أحكام الأنعام فيها، ولبيان السورة لجهالات المشركين فيها، كتحليلهم وتحريمهم حسب أهوائهم وتقاليدهم البالية وتقربهم بها إلى أصنامهم فنزلت هذه السورة لتبين بطلان ما اتخذوه من أمرها دينا، لم يأذن به الله.
3) قال الإمام السيوطي: “وتسمية سورة الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها وإن كان قد ورد لفظ الأنعام في غيرها إلا أن التفصيل الوارد في قوله تعالى {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)} لم يرد في غيرها”[6].
4) قال د عمرعرفات: “ولما كان افتراء المشركين فيما يتعلق بأحكام الأنعام بأهوائهم وضلالهم أدل ما في السورة على إعراضهم عن آيات الله بنوعيها، سميت السورة بالأنعام للتأكيد على أن الحكم والتشريع من حق الخالق فقط، فاسم السورة يعبر عن المحور المذكور”[7].

بعض أقوال المفسرين في مقصود السورة:

انقسم العلماء الذين تكلموا في مقاصد السور إلى

أ‌) القسم الأول: قالوا مقصودها إثبات التوحيد بالبراهين ونقض الشرك:

1) جاء في المختصر في تفسير القرآن الكريم: “تقرير عقيدة التوحيد بالبراهين العقلية ونقض عقيدة الاعتقادات الشركية”[8].
2) قال الفراهي في دلائل النظام: “وَأما سُورَة الْأَنْعَام، فعمودها بيانُ موقع الْأَحْكَام من عهد التَّوْحِيد، لسدِّ أَبْوَاب الشّرك[9].
3) قال الطيبي: “واعلم أن قطب هذه السورة الكريمة يدور مع إثبات الصانع، ودلائل التوحيد وما يتصل بها، انظر كيف جعل احتجاج الخليل على قومه، ومآله إلى قوله: {إنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ حَنِيفًا {[الأنعام: 78 – 79]. وكيف أوقع أمر حبيبه صلوات الله عليه بقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ {[الأنعام: 90] بعد ذكر معظم الأنبياء واسطة العقد، ولجة بحر التوحيد! ثم تفكر في قوله: {قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ {[الأنعام: 162 – 163] كيف جاءت خاتمة لها! فسبحان من له تحت كل سورةٍ من كتابه كريم، بل كل آيةٍ وكلمةٍ، أسرار ينفد دون نفاد بيانها الأبحر!” [10].
4) قال البقاعي: ” مقصودها الاستدلال على ما دعا إليه الكتابُ في السورة الماضية من التوحيد بأنه الحاوي لجميع الكمالات: من الإيجاد والإعدام والقدرة عل البعث وغيره، وأنسب الأشياء المذكورة فيها لهذا المقصد الأنعام.؛لأن الإذن فيها مسبب عما ثبت له من الفلق والتفرد بالخلق، تضمن باقي ذكرها إبطال ما اتخذوه من أمرها ديناً.؛ لأنه لم يأذن فيه ولا أذن لأحد معه.؛لأنه المتوحد بالإلهية،لا شريك له،وحصر المحرمات من المطاعم التي هي جُلُّها في هذا الدين وغيره فدل ذلك على إحاطة علمه “[11].
5) قال الطباطبائي: ” غرض السورة هو توحيده تعالى بمعناه الأعم أعني: أن للإنسان ربا هو رب العالمين جميعًا منه يبدأ كل شيء وإليه ينتهي ويعود كل شيء، أرسل رسلًا مبشرين ومنذرين يهدي بهم عباده المربوبين إلى دينه الحق، ولذلك نزلت معظم آياتها في صورة الحجاج على المشركين في التوحيد والمعاد والنبوة، واشتملت على إجمال الوظائف الشرعية والمحرمات الدينية”[12].

ب‌) القسم الثاني: قالوا: مقصود السورة: توحيده تعالى، والوحي، والرسالة، والبعث والجزاء

1) جاء في الموسوعة القرآنية، خصائص السور: إن الأغراض الرئيسة التي استهدفتها هذه السورة الكريمة هي تركيز العقائد الأساسية الثلاث التي كان المشركون يومئذ يتنازعون فيها، وهذه العقائد الأساسية هي:
أولا: توحيد الله، ويتصل بهذا إقامة الدليل على وحدة الألوهيّة، بلفت النظر إلى آثار الربوبية، وإلى صفات الله الخالق المتصرف، كما يتصل بها إبطال عقيدة الشرك، وشبهات المشركين، وتقرير أن العبادة والتوجّه والتحريم والتحليل، إنما ترجع إلى الله.
ثانيا: الإيمان برسوله الذي أرسل، وكتابه الذي أنزل، وبيان وظيفة هذا الرسول، ورد الشبهات التي تثار حول الوحي والرسالة.
ثالثا: الايمان باليوم الآخر وما يكون فيه من ثواب وعقاب وجزاء”[13].

2) قال سيد قطب: ” هذه السورة تعالج قضية العقيدة الأساسية.. قضية الألوهية والعبودية.. تعالجها بتعريف العباد برب العباد..من هو؟ ما مصدر هذا الوجود؟ ماذا وراءه من أسرار؟ من هم العباد؟ من ذا الذي جاء بهم إلى هذا الوجود؟ من أنشأهم؟ من يطعمهم؟ من يكفلهم؟ من يدبر أمرهم؟ من يقلب أفئدتهم وأبصارهم؟ من يقلب ليلهم ونهارهم؟ من يبدئهم ثم يعيدهم؟ لأي شيء خلقهم؟ ولأي أجل أجلهم؟ ولأي مصير يسلمهم؟.. ـ كذا تطوّف السورة بالقلب البشري في هذه الآماد والآفاق إنما تهدف إلى تعريف الناس بربهم الحق، لتصل من هذا التعريف إلى تعبيد الناس لربهم الحق.. تعبيد ضمائرهم وأرواحهم، وتعبيد سعيهم وحركتهم، وتعبيد تقاليدهم وشعائرهم، وتعبيد واقعهم كله لهذا السلطان المتفرد[14].
3) جاء في التعريف بسور القرآن الكريم: “محور مواضيع السورة: سورة الأنعام إحدى السور المكية الطويلة التي يدور محورها حول ” العقيدة وأصول الإيمان ” ـ ـ تناولت القضايا الكبرى الاساسية لأصول العقيدة والإيمان وهذه القضايا يمكن تلخيصها فيما يلى:
4) ـ قضية الألوهية.2 ـ قضية الوحي والرسالة.3 ـ قضية البعث والجزاء[15].
5) قال الإمام القرطبي: ” قال العلماء: هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة، وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة،وعليها بنى المتكلمون أصول الدين؛ لأن فيها آيات بينات ترد على القدرية دون السور التي تذكر والمذكورات”[16].
6) قال ناصر مكارم الشيرازي في “الأمثل”:
“هدف هذه السورة الرئيسي مثل أهداف السور المكية توكيد الأُصول الثلاثة: «التوحيد » و«النبوة » و«المعاد »، ولكنها تؤكّد أكثر ما تؤكّد قضية عبادة الله الواحد ومحاربة الشرك والوثنية، بحيث أنّ معظم آيات هذه السورة يخاطب المشركين وعبدة الأصنام، وبهذا يتناول البحث في أكثر المواضع أعمال المشركين وبدعهم.
على كل حال، فإن تدبر آيات هذه السورة والتفكير في استدلالاتها الحية الجلية، يحيي روح التوحيد وعبادة الله في الإِنسان، ويحطم قواعد الشرك ويقتلع جذوره، ولعل السبب في نزول هذه السورة في مكان واحد[17] هو هذا التماسك المعنوي وإِعطاء الأولوية لمسألة التوحيد “[18].

ت‌) القسم الثالث: قالوا مقصودها اختصاص الله تعالى بالحكم والتشريع لأنه الرب الإله الخالق ذو القدرة المطلقة والعلم الشامل.
قال د عمر عرفات في دلالة أسماء السورة القرآنية على محاورها وموضوعاتها:
“سورة اختصاص الله تعالى بالحكم والتشريع.؛لأنه الرب الإله الخالق ذو القدرة المطلقة والعلم الشامل ـ ــ وكان قد قال قبل ذلك ـ يمكن تلخيص أقوال المفسرين والكاتبين: بأن محور السورة هو: ” الدعوة إلى التوحيد من خلال بيان دلالة الآيات الكونية والآيات القرآنية على شمول علم الله تعالى وكمال قدرته، فله وحده الحكم والتشريع، ولما كان افتراء المشركين فيما يتعلق بأحكام الأنعام بأهوائهم وضلالهم أدل ما في السورة على إعراضهم عن آيات الله بنوعيها، سميت السورة بالأنعام للتأكيد على أن الحكم والتشريع من حق الخالق فقط، فاسم السورة يعبر عن المحور المذكور”[19].

ث‌) القسم الرابع: جمعوا معظم ما ذكر سابقًا:
جاء في التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم:
“المحور الأساسي الذي تدور حوله السورة الكريمة هو إقامة الحجة على الكفار بنقض عقائدهم الباطلة وتقرر العقيدة الصحيحة بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة والحجج المتنوعة،فهي أصل في محاجة جميع الكفار، وكشف ما هم عليه من ضلال وتفنيد شبهاتهم وبيان العقيدة الصحيحة وإثباتها بالأدلة والبراهين، والسورة الكريمة زاد للدعاة ومنهج للمحاورين،يقول صاحب الأساس في التفسير: ” إن السورة حوار شامل مع الكافرين في كل الاتجاهات الرئيسية للكفر سواء كانت نظرية، أو كانت عملية، ولذلك فإن على الداعية، ولذلك فإن على الداعية إلى الله أن يتملى حججها ويعرف كيف يقرع بها.

فقد نزلت هذه السورة لتقويض وتدحض عقائد أهل الشرك وتقرر وترسخ العقيدة الصحيحة التي من أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب ـ ـ وخلاصة القول في محور السورة:

أنها نزلت بالحج القاطعة والآيات الساطعة التي تقوض دعائم الشرك وتدحض شبهه، وتقرر عقيدة التوحيد وأصول التشريع، وتثبت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه من المؤمنين، وتفصح عن أسباب صدود المشركين وإعراضهم عن الحق مع ظهور حججه وجلاء براهينه” [20].

 

[1] وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة: “إنه تعالى لما ذكر في آخر المائدة لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ [المائدة: 120] على سبيل الإجمال افتتح جل شأنه هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله فبدأ سبحانه بذكر خلق السماوات والأرض وضم تعالى إليه أنه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه ما فيهن ثم ذكر عز اسمه أنه خلق النوع الإنساني وقضى له أجلا وجعل له أجلا آخر للبعث وأنه جل جلاله منشئ القرون قرنا بعد قرن ثم قال تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ [الأنعام: 12] إلخ فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان. ثم قال عز من قائل: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الأنعام: 13] فأثبت أنه جل وعلا ملك جميع المظروفات لظرف الزمان. ثم ذكر سبحانه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ثم خلق النوم واليقظة والموت.
ثم أكثر عز وجل في أثناء السورة من الإنشاء والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وفلق الحب والنوى وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن، وذكر عليه الرحمة وجها آخر في المناسبة أيضا وهو أنه سبحانه لما ذكر في سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 87] إلخ، وذكر جل شأنه بعده ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [المائدة: 103] إلخ فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله تعالى افتراء على الله عز شأنه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك فيشابهوا الكفار في صنعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز ساق جل جلاله هذه السورة لبيان حال الكفار في صنعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه وأقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الإجمال وتفصيلا وبسطا وإتماما وإطنابا، وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق المالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعا وتحريما وتحليلا فيجب أن لا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في ملكه، ولهذه السورة أيضا اعتلاق من وجه بالفاتحة لشرحها إجمال قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] وبالبقرة لشرحها إجمال قوله سبحانه: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 21] وقوله عز اسمه الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله جل وعلا: وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران: 14] وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185، الأنبياء: 35، العنكبوت: 57] إلخ وبالنساء من جهة ما فيها من
بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها. وقد يقال: إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على إثبات الصانع ودلائل التوحيد حتى قال أبو إسحاق الإسفراييني: إن في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد ناسبت تلك السورة من حيث إن فيها إبطال ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد وافترائهم الباطل هذا، ثم إنه لما كانت نعمه سبحانه وتعالى مما تفوت الحصر ولا يحيط بها نطاق العد إلا أنها ترجع إجمالا إلى إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة وأشير في الفاتحة التي هي أم الكتاب إلى الجميع، وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول، وفي الكهف إلى الإبقاء الأول وفي سبأ إلى الإيجاد الثاني وفي فاطر إلى الإبقاء الثاني ابتدأت هذه الخمس بالتحميد. ومن اللطائف أنه سبحانه وتعالى جعل في كل ربع من كتابه الكريم المجيد سورة مفتتحة بالتحميد “. روح المعاني/ الآلوسي(4/ 73).
[2] يقول فضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت:
ويجدر بنا أن نلفت النظر إلى أن سورة الأنعام قد عرضت ما عرضت في أسلوبين بارزين لا نكاد نجدهما بتلك الكثرة في غيرها من السور:
أما الأسلوب الأول فهو أسلوب التقرير، فهي تورد الأدلة المتعلقة بتوحيد الله وتفرده بالملك والتصرف، والقدرة والقهر، في صورة الشأن المسلم الذي لا يقبل الإنكار أو الجدل، وتضع لذلك ضمائر الغائب عن الحس الحاضر في القلب، وتجري عليه أفعاله وآثار قدرته ونعمته البارزة للعيان، والتي لا يماري قلب سليم في أنه مصدرها ومفيضها وصاحب الشأن فيها:
[هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا، وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون].
[وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون].
[وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير].
[وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار].
[وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع].. الخ.
هذا هو أحد الأسلوبين.
أما الأسلوب الثاني فهو أسلوب تلقين الحجة، والأمر بقذفها في وجه الخصم حتى تأخذ عليه سمعه، وتملك عليه قلبه، وتحيط به من جميع جوانبه فلا تستطيع التفلت منها، ولا يجد بدا من الاستسلام لها.
ففي حجج التوحيد والقدرة يقول: [قل لمن ما في السموات والأرض قل لله، كتب على نفسه الرحمة].
[قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم؟ قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم].
[قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم].
[قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء].
وفي حجج الوحي وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الرسالة لا تنافي البشرية وفي إيمان الرسول بدعوته واعتماده فيها على الله، وعدم اكتراثه بهم، أو انتظار الأجر منهم يقول:
[قل أي شيء أكبر شهادة؟ قل الله شهيد بيني وبينكم]
[قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك].
[قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين].
وفي وعيدهم على التكذيب يقول: [قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين].
هذان الأسلوبان: (هو كذا) و(قل كذا) قد تناوبا معظم ما تضمنته هذه السورة من الحجج وقضايا التبليغ، وهما وإن جاءا في غيرها من سور القرآن إلا أنهما وخاصة الأسلوب الثاني وهو أسلوب (قل كذا) لم يوجد في غيرها بهذه الكثرة التي نراها في هذه السورة، وهما بعد ذلك: أسلوبان من أساليب الحجة القوية التي تدل على قوة المعارضين وإسرافهم في المعارضة، وأنهم بحالة تستوجب تلك الشدة التي تستخرج الحق من نفوسهم.
ويدل الأسلوبان من جهة أخرى على أنهما صدرا في موقف واحد، وفي مقصد واحد، لخصم واحد بلغ من الشدة والعتو مبلغاً استدعى من القوى القاهر تزويد المهاجر بعدة قوية تتضافر أسلحتها في حملة شديدة يقذف بها في معسكر الأعداء فتزلزل عمده، وتهد من بنيانه فيخضع للتسليم بالحق الذي يدعى إليه.
ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية، ذات شأن كبير في تركيز الدعوة الإسلامية، تقرر حقائقها، وتفند شبه المعارضين لها، واقتضت لذلك الحكمة الإلهية أن تنزل –مع طولها وتنوع آياتها- جملة واحدة وأن تكون ذات امتياز خاص لا يعرف لسواها كما قرره جمهور العلماء اه تفسير القرآن الكريم الأجزاء العشرة الأولى/ محمود شلتوت(303ـ 305).
[3] وفي (صحيح البخاري) أنّ ابن عبّاس قال: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام (140)) قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرّموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلّوا وما كانوا مهتدين.صحيح البخاري/ باب قصة زمزم وجهل العرب رقم الحديث: 3334.
[4] تفسير القرآن الكريم المسمى تبصرة الرحمن وتيسير المنان/ للعلامة علي بن أحمد المهايمي / عالم الكتاب.((ج1/ 207).
[5] تكرّر فيها من ذكر لفظ الأنعام ستّ مرات.
[6] التفسير الموضوعي/مجموعة من العلماء(2/ 393).
[7] دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها/ د عمر عرفات(ص85).
[8] المختصر في تفسير القرآن الكريم/جماعة من علماء التفسير(ص128).
[9] دَلَائِل النظام،/ الفراهي/ 93.
[10] فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف)/ شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي (6/ 16). ونقله السيوطي في حاشيته على البيضاوي نواهد الأبكار(3/ 330)، والشهاب في حَاشِيته عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوِي، الْمُسَمَّاة: عِنَايةُ القاضي وكِفَايةُ الراضي عَلَى تفْسيرِ (3/ 307). والآلوسي في روح المعاني(4/ 73).
[11] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي(2/ 905).
[12] تفسير الميزان/ الطباطبائي (7/ 2).
[13] الموسوعة القرآنية، خصائص السور/ جعفر شرف الدين (3/7).
[14] في ظلال القرآن/ سيد قطب (2/ 1017).
[15] التعريف بسور القرآن الكريم ص11.
[16] الجامع لأحكام القرآن/ أبو عبد الله القرطبي/ دار الكتب المصرية (6/ 383).
[17]من الذين اختاروا أنها نزلت جملة واحدة البقاعي، والسمعاني، والبغوي، وابن عاشور، وابن كثير والرازي ومحمد رشيد رضا وغيرهم، قال ابن كثير:” قالَ الْعَوْفِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أنزلت سورة الأنعام بمكة، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة، حَوْلَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجْأَرُونَ حَوْلَهَا بِالتَّسْبِيحِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، قَالَتْ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم جملة، وَأَنَا آخِذَةٌ بِزِمَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنْ كَادَتْ مِنْ ثِقَلِهَا لَتَكْسِرُ عِظَامَ النَّاقَةِ. وَقَالَ شَرِيكٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرٍ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي مَسِيرٍ فِي زَجَلٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وقد طبقوا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ. حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، وَأَبُو الْفَضْلِ الْحَسَنِ بْنُ يَعْقُوبَ الْعَدْلُ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْعَبْدِيُّ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ، سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ «لَقَدْ شَيَّعَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا سَدَّ الْأُفُقَ» ثُمَّ قَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ دَرَسْتَوَيْهِ الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ طَلْحَةَ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ نَافِعِ بْنِ مالك بن أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ مَعَهَا مَوْكِبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، سَدَّ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ، والأرض بهم ترتج» ورسول الله يَقُولُ «سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» ثُمَّ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ ابراهيم بن نائلة، عن إسماعيل بن عمر، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَشَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ» [الزجل: صوت مرتفع]. تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير(3/ 214).
قال ابن عاشور: “روى الطبراني بسنده إلى عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد ـ ـ وهي مكية بالاتفاق فعن ابن عباس: أنها نزلت بمكة ليلا جملة واحدة، كما رواه عنه عطاء، وعكرمة، والعوفي، وهو الموافق لحديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدم آنفا. وروي أن قوله تعالى {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} الآيةَ [الأنعام:52] نزل في مدة حياة أبي طالب، أي قبل سنة عشر من البعثة، فإذا صح كان ضابطُا لسنة نزول هذه السورة. وروى الكلبي عن ابن عباس: أن ست آيات منها نزلت بالمدينة، ثلاثًا من قوله {وما قدروا لله حق قدره}[الأنعام:91] إلى منتهى ثلاث آيات، وثلاثًا من قوله {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى قوله ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون}[الأنعام:191]. وعن أبي جحيفة أن آية {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة}[الأنعام: 111]مدنية.
وقيل نزلت آية {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى الي} الآية [الأنعام:93] بالمدينة، بناء على ما ذكر من سبب نزولها الآتي، وقيل: نزلت آية {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه} الآية[الأنعام:20]، وآية {فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به} الآية، كلتاهما بالمدينة بناء على ما ذكر من أسباب نزولهما كما سيأتي. وقال ابن العربي في أحكام القرآن عند قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} الآية [الأنعام:145] أنها في قول الأكثر نزلت يوم نزول قوله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية [المائدة: 3]، أي سنة عشر، فتكون هذه الآيات مستثناة من مكية السورة ألحقت بها. وقال ابن عطية في تفسير قوله تعالى {وما قدروا الله حق قدره}[الأنعام:91] الآية من هذه السورة. إن النقاش حكى أن سورة الأنعام كلها مدنية،ولكن قال ابن الحصار: لا يصح نقل في شيء نزل من الأنعام في المدينة، وهذا هو الأظهر وهو الذي رواه أبو عبيد، والبيهقي، وابن مردويه، والطبراني، عن ابن عباس.؛ وأبو الشيخ عن أبي بن كعب.
وعن ابن عباس أنها نزلت بمكة جملة واحدة ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم.
وروى سفيان الثوري، وشريك عن أسماء بنت يزيد الأنصارية: نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وهو في مسير وأنا آخذة بزمام ناقته إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة. ولم يعينوا هذا المسير ولا زمنه غير أن أسماء هذه لا يعرف لها مجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هجرته ولا هي معدودة فيمن تابع في العقبة الثانية حتى يقال: إنها لقيته قبل الهجرة، وإنما المعدودة أسماء بنت عمرو بن عدي. فحال هذا الحديث غير بين. ولعله التبس فيه قراءة السورة في ذلك السفر بأنها نزلت حينئذ.
قالوا: ولم تنزل من السور الطوال سورة جملة واحدة غيرها. وقد وقع مثل ذلك في رواية شريك عن أسماء بنت يزيد كما علمته آنفًا، فلعل حكمة إنزالها جملة واحدة قطع تعلل المشركين في قولهم {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة}، توهما منهم أن تنجيم نزوله يناكد كونه كتابا، فأنزل الله سورة الأنعام. وهي في مقدار كتاب من كتبهم التي يعرفونها كالإنجيل والزبور، ليعلموا أن الله قادر على ذلك، إلا أن حكمة تنجيم النزول أولى بالمراعاة. وأيضا ليحصل الإعجاز بمختلف أساليب الكلام من قصر وطول وتوسط، فإن طول الكلام قد يقتضيه المقام، كما قال قيس بن خارجة يفخر بما عنده من الفضائل: وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب الخ.
وقال أبو دؤاد بن جرير الأيادي يمدح خطباء إياد:
يرمون بالخطب الطوال وتارة *** وحي الملاحظ خيفة الرقباء
واعلم أن نزول هذه السورة جملة واحدة على الصحيح لا يناكد ما يذكر لبعض آياتها من أسباب نزولها؛ لأن أسباب نزول تلك الآيات إن كان لحوادث قبل الهجرة فقد تتجمع أسباب كثيرة في مدة قصيرة قبل نزول هذه السورة، فيكون نزول تلك الآيات مسببُا على تلك الحوادث، وإن كان بعد الهجرة جاز أن تكون تلك الآيات مدنية ألحقت بسورة الأنعام لمناسبات على أن أسباب النزول لا يلزم أن تكون مقارنة لنزول آيات أحكامها فقد يقع السبب ويتأخر تشريع حكمه وعلى القول الأصح أنها مكية فقد عدت هذه السورة الخامسة والخمسين في عد نزول السور نزلت بعد سورة الحجر وقبل سورة الصافات.. (التحرير والتنوير (7/ 123).
وقال محمد رشيد رضا في المنار:” وقال السيوطي في الإتقان: قال ابن الحصار: استثنى منها تسع آيات ولا يصح به نقل، خصوصًا مع ما قد ورد أنها نزلت جملة (قلت) قد صح النقل عن ابن عباس باستثناء {قل تعالوا} [الأنعام: 151ـ 153]الآيات الثلاث كما تقدم. والبواقي {وما قدروا الله حق قدره}[الأنعام:91] لما أخرجه ابن أبي حاتم أنها نزلت في مالك بن الصيف، وقوله: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا} [الأنعام: 21، 93] الآيتين، نزلتا في مسيلمة. وقوله: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه}[الأنعام:20] وقوله: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق}[الأنعام: 114] اهـ أقول: قد ثبت أن بعض الآيات كانت تصدق على وقائع تحدث بعد نزولها أو قبله للاستشهاد أو الاحتجاج بها في الواقعة منها، فيظن من سمعها حينئذ من الصحابة ولم يكن سمعها من قبل أنها نزلت في تلك الواقعة، وكثيرًا ما كان يقول الصحابة: إن آية كذا نزلت في كذا وهو يريد أنها نزلت في إثبات هذا الأمر أو حكمه أو دالة عليه، فيظن الراوي عنه أنها عند حدوث ذلك الأمر، والصحابي لا يريد ذلك، وقد نقل السيوطي هذا المعنى عن ابن تيمية والزركشي، والتحقيق أن مثل هذا يعد من التفسير لا من الحديث المسند، ولما كان وجود آيات مدنية في سورة مكية أو آيات مكية في سورة مدنية خلاف الأصل، فالمختار عدم قبول القول به إلا إذا ثبت برواية صحيحة السند صريحة المتن سالمة من المعارضة والاحتمال، وإننا لم نرهم صححوا مما رواه من الاستثناء إلا رواية ابن عباس في استثناء ثلاث آيات هن من موضوع السور المكية، ولعلهم لو ذكروا لنا الرواية بنصها لما وجدنا فيها حجة على ما قالوا وأما ما روي في نزول الأنعام جملة واحدة فقد أخرجه غير واحد من المحدثين عن غير واحد من الصحابة والتابعين، ففي الإتقان أنه أخرجه أبو عبيد والطبراني عن ابن عباس، والطبراني من طريق يوسف بن عطية وهو متروك عن ابن عمر مرفوعًا وعن مجاهد وعطاء، وفي كل رواية من هذه الروايات أنها نزلت يشيعها سبعون ألف ملك إلا أثر مجاهد فإنه قال فيه خمسمائة ملك. قال السيوطي:” فهذه شواهد يقوي بعضها بعضا، ثم نقل عن ابن الصلاح أنه روى ذلك من طريق أبي بن كعب بسند ضعيف وقال: ولم نر له إسنادا صحيحا، وقد روي ما يخالفه، فروي أنها لم تنزل جملة بل نزلت آيات منها بالمدينة اختلفوا في عددها فقيل ثلاث وقيل ست وقيل غير ذلك”، وعزاه في الدر المنثور إلى آخرين أخرجوه أيضا عمن ذكر وعن أنس وأبي بن كعب مرفوعا وعن ابن مسعود وأسماء بنت يزيد وأبي جحيفة وعلي المرتضى، فكثرة الروايات في مسألة لا مجال فيه للرأي فتكون اجتهادية، ولا للهوى فتكون موضوعة، ولا لغلط الرواة فتكون معلولة لا بد أن يكون لها أصل صحيح.ونقول: إنه لم يرو أحد أنها لم تنزل جملة واحدة بهذا اللفظ المناقض لتلك الروايات المصرحة بنزولها جملة واحدة كحديث ابن عمر ” نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك ” وإنما مراد ابن الصلاح بذلك ما روي من استثناء بعض الآيات، وقد علمت أنه ليس فيه نص صحيح صريح يدل على ذلك، فرواية نزولها جملة واحدة أرجح بموافقتها للأصل وبكونها مثبتة، وروايات الاستثناء نافية، والمثبت مقدم على النافي، وقد جمع بينهما من قال: إنها نزلت جملة واحدة واستثنى كابن عباس (والاستثناء معيار العموم) وإذ كان ما صححه السيوطي من استثناء ثلاث آيات على ابن عباس هو ما رواه ابن النحاس عنه في ناسخه فقد انحل الإشكال، فإن نص عبارته:” سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة {قل تعالوا أتل} [الأنعام: 151ـ153] إلى تمام الآيات الثلاث”، فقد صح بهذه الرواية إذا أن هذه السورة الطويلة نزلت جملة واحدة، وهذا نص توقيفي عرف أصله المرفوع فهو لا يحتمل التأويل، على أن استثناء الآيات الثلاث فيه يحتمل التأويل كما تقدم، وابن عباس لم يكن بمكة ممن يحفظ القرآن ويروي الحديث، فإنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين أو خمس، وإنما روي ذلك عن غيره فيحتمل أن يكون الاستثناء من رأيه أو رأي من روى هو عنه، وأن يكون مرويا عنه بالمعنى ويكون بعض لرواة هو الذي عبر بالاستثناء، وإذا كان هذا الاستثناء صحيحا فقصاراه أن السورة بعد أن أنزلت جملة واحدة ألحق بها ثلاث آيات مما نزلت بالمدينة، فبطل بذلك ما قد يتوهم من كلام ابن الصلاح وما يظنه كثير من الناس من أنه لم ينزل شيء من السور الطوال ولا سور المِئِيْنَ جملة واحدة; لأن ما اشتهر نزوله جملة واحدة غير هذه السورة كله من المفصل (وسور المفصل من ” ق ” أو ” الحجرات ” إلى آخر المصحف في الأشهر) وقد روى أبو هريرة ما يدل على أن قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}[الشعراء: 214] نزل بالمدينة، وقد ثبت عن ابن عباس أنه نزل بمكة، وأنه لما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بطون قريش وأنذرهم عملا بالآية قال له أبو لهب: تبت يداك سائر اليوم ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله عز وجل: {تبت يدا أبي لهب} [المسد: 1] السورة، وإنما يروي ابن عباس وأبو هريرة مثل هذا مرسلا إذ لم يكن لهما رواية مرفوعة إلا بعد الهجرة بسنين، وقد صرح الحافظ ابن حجر في الفتح بأن روايتهما لنزول آية {وأنذر عشيرتك}[الشعراء:214] مرسلة وكلتاهما في البخاري، وقد مال السيد الآلوسي في روح المعاني إلى القول بضعف ما ورد في نزول الأنعام جملة واحدة، ونقل عن الإمام حكاية الاتفاق على القول بنزولها جملة، وأنه استشكل ذلك بأنه كيف يمكن أن يقال حينئذ في كل واحدة من آياتها: إن سبب نزولها الأمر الفلاني، مع أنهم يقولونه؟ ثم أشار إلى ضعف حكاية الإمام الاتفاق،و يمكن أن يدفع الإشكال:
(أولا): بأنه لم يقل أحد بأن لكل آية من آيات هذه السورة سببًا، وإنما قيل ذلك في زهاء عشر من آياتها. (وثانيا) أن ما قيل في أسباب نزول تلك الآيات بعضه لا يصح والبعض الآخر لا يدل على نزول تلك الآيات متفرقة، وإنما قالوا إن آية كذا نزلت في كذا أو في قول المشركين كيت وكيت، وهذا هو الأكثر، فإذا صح كان معناه أن تلك الآيات نزلت بعد تلك الوقائع والأقوال مبينة حكم الله فيها، وهذا لا ينافي نزولها دالة على ذلك في ضمن السورة وقال الإمام الرازي في أول تفسيره لهذه السورة قال الأصوليون: هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة أحدهما: أنها نزلت دفعة واحدة. والثاني: أنها شيعها سبعون ألفا من الملائكة. والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة، وأيضا فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى قدر حاجتهم وبحسب الحوادث والنوازل، وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله تعالى جملة واحدة. وذلك يدل على أن تعلم علم الأصول واجب على الفور لا على التراخي. اهـ.(تفسير المنار/ محمد رشيد رضا (7/ 239).
[18]الأمثل/ناصر مكارم الشيرازي/ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات(7/5).
[19]دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها/ د عمر عرفات(ص85).
[20] التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم / نخبة من علماء التفسير /(2/396ـ 398).