المقال الثاني من سلسلة مقاصد السور: سورة البقرة للشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ علي هاني في هذه السلسلة الغنية مبحثاً في مقاصد أول ثمان سور القرآن الكريم (الفاتحة – الأنفال)، متطرقاً لأسباب النزول، مع بيان السياق القرآني والتاريخي للسور، وأهم مقاصدها مع الاستفاضة فيها، مستخرجا وملخصاً وشارحاً أهم ما ورد بخصوص هذه المفاهيم في كتب التفسير المعتبرة.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

سورة البقرة

الجو الذي نزلت فيه السورة:
“وقد ابتدأ نزولها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقد نزل معظمها في السنوات الأولى من الهجرة، واستمر نزولها إلى قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بفترة قليلة، وكانت آخر آية من القرآن نزولا منها، هي قوله –تعالى-: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] [1].
“ولما هاجر النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة، أظهر له أحبار اليهود فيها العداوة بغيا وحسدًا، ومال إليهم المنافقون من الأوس والخزرج، فكان أولئك الأحبار يسألونه ويتعنّتونه ويأتونه باللّبس ليلبسوا الحق بالباطل، فنزلت سورة البقرة في أولئك الأحبار وفيما يسألون عنه، وفي أولئك المنافقين الذين مالوا إليهم، وفيما نزل من أحكام العبادات والمعاملات بعد استقرار الإسلام بالمدينة، وبعد أن صار بها للمسلمين جماعة تحتاج إلى هذه الأحكام في أمر دينها ودنياها”[2].
قال الشيخ محمد الغزالي:”اتجهت الجهود بعد الهجرة إلى تكوين المجتمع الإسلامي الأول في المدينة المنورة، لقد نجح المسلمون أفرادا في مقاومة فتن الوثنية، وهاهم أولاء قد خلصوا بدينهم، ووجدوا دارا تجمع أمتهم، وتقيم دولتهم.. لكنهم فوجئوا بعداوة من نوع آخر، عداوة اليهود الذين حسبوا الدين حكرا على جنسهم، فتجهموا للمنافسين الجدد، وشرعوا يستعدون لمقاومتهم، ويتآمرون سرا وعلنا على الكيد لهم.. والقبائل اليهودية التي استوطنت البقاع الخصبة في الحجاز، بدأت حياتها فارة بعقائدها من بطش الرومان، وقد عاشت بين العرب الأميين مترفعة عليهم، فما حاولت محاربة الأصنام، ولا أنشأت دعوة إلى الله، ولا عرضت تعاليم السماء لتغنى عن تعاليم الأرض.. كلا، لقد نأت بنفسها، واستراحت إلى مواريثها، وظنت أن الدين امتياز لها، ما ينبغي أن يشركهم فيه أحد!! فهل بقيت على هذا الشعور عندما ظهر الإسلام؟ لا، لقد رفضته، وقلبت له الأمور… وحاول النبي الخاتم أن يستلين جانبهم، ويتعاون على الخير معهم، بيد أن حقدهم غلب، وبدأ شرهم ينمو، فكان المسلمون في مهجرهم الذي ظفروا به يبنون بيد، ويقاومون بأخرى! يؤسسون مجتمعهم وفق إشارات الوحي، ويدفعون عنه أعداء لا يخفى لهم ضغن!! في هذا الجو نزلت سورة البقرة أطول سور القرآن الكريم وأحلفها بالتعاليم المنوعة”[3].
مقصود سورة البقرة باختصار:
“تقريرُ حقِّيةِ القرآن، وكونِه هدىً شاملًا للمتقين، وبيانُ سوءِ حالِ من تنكَّب عنه ككفار بني إسرائيل، وحسن دين وحال من أخذ به”.
وإذا أردنا أن نفصله أكثر نقول مقصودها:
“تقريرُ حقِّيةِ القرآن، وكونِه هدىً شاملًا للمتقين، المؤمنين بالآخرةِ[4] والغيبِ[5] والتوحيدِ الذين لا يفرقون بين رسولٍ ورسولٍ، بإعدادِ الجماعةِ المسلمةِ المتميزةِ لحملِ أمانةِ القيام بدينِ الله ملةِ إبراهيمَ، ببيانِ الصراطِ المستقيمِ الذي ارتضاه لخليفتِه في الأرضِ على الاستيفاءِ والكمالِ، أخذًا وتركًا، عقيدةً وشريعةً، والدعوةُ إلى الإيمان به، وحسنِ الاستجابةِ له، وبيانُ سوءِ حالِ من تنكَّب عنه ككفار بني إسرائيل فسُلِبوا، وشرفِ من أخذ به، واستسلمَ واستجابَ، وتحذيرُهم من عثرات بني إسرائيل وعدم استسلامهم التي سببت سلبهم[6].
شرح مقصود السورة وتلخيص مواضيعها:
1) بيانُ حقِّيةِ القرآن وهدايتِه للمتقين في جميع مناحي الحياة، حيث تكفل في هذه السورة بإعدادِ الجماعةِ المسلمةِ المتميزةِ لحملِ أمانةِ القيام بدينِ الله ملةِ إبراهيمَ والاقتداءِ به في الإسلام له، وبيانِ الصراطِ المستقيمِ والمنهجِ الذي ارتضاه لخليفتِه في الأرضِ على الاستيفاءِ والكمالِ، أخذًا وتركًا، عقيدةً وشريعةً، فذكرت:
أ‌) علاقتَهم مع الله تعالى:
من توحيدٍ، وإيمانٍ بالغيبِ، والبعثِ والآخرةِ، وشكرٍ لنعمِ الله سبحانه، ودعاءٍ وصلاةٍ، وصيامٍ، وحجٍ، وإخلاصٍ، وصبرٍ، وعدمِ شركٍ، وغيرِ ذلك مما ذكرتْهُ السورةُ الكريمةُ.
ب‌) علاقتَهم مع الأنبياء:
بأن يؤمنوا بما أنزل إليهم أجمعين، وأن يطيعوهم ويقولوا سمعنا وأطعنا، ولا يفرقوا بين أحد من رسله.
ت‌) علاقتَهم مع الخلقِ:
من إعطائهم الزكاةَ، وحسنِ معاملةٍ للناس للأسرةِ والزوجةِ، وإقامةِ القصاصِ والجهادِ، وغيرِ ذلك ففيها حشد من الأحكام ملخصها الهداية، ففيها التشريعات التعبديةُ والأسريةُ والاجتماعيةُ والماليةُ والجنائيةُ.
2) وبيانُ:
أ‌) شرفِ من أخذ به من غيرِ تفريقٍ، بالتزامهم بالصفات التي ارتضاها الله تعالى لخلفائه واستسلمَ واستجابَ بعد الإيمانِ والانضمامِ إلى لوائه، وقالوا سمعنا وأطعنا، وشكروا نعم الله تعالى عليهم، وهم المؤمنون الذين اتبعوا هدى الله على وجهه من غير ارتياب وانتفعوا به.
ب‌) وسوءِ حالِ من تنكب عن هداه، وتولى وبدل نعمة الله، وحرف وكتم ونقض عهده وحارب دينه، وآمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وطلب آياتٍ حسيةً على سبيل العناد، كبني إسرائيل حيث قالوا: سمعنا وعصينا، وقتلوا الأنبياءَ، وفرَّقوا بين رسله، ولم يؤمنوا بالغيب، ولم يوقنوا بالآخرة، ولم يوفوا بعهودهم، فغضب عليهم وبيانُ سلبِ شرفِ حملِ دينه منهم بعدما تخلوا عن الصفات التي تؤهلهم لذلك، وتبصيرُ الجماعةِ المسلمةِ وتحذيرُها من عثراتهم التي سببت ذلك.
فعليكم أيها الناس جميعًا: المؤمنون، والكفارُ، وبنو إسرائيلَ، والمنافقون أن تؤمنوا بهذا الكتاب وتعملوا بما جاء به، وأن تتَّبعوا هذا الهدى الذي أمر الله تعالى البشريةَ باتباعه عندما أهبطهم إلى الأرض، وأن تشكروا نعمةَ اللهِ عليكم حيث خَلَق لكم ما في الأرض، وجعلكم خليفته في أرضه بتسليمكم زمامها لإقامة شرعه، وأسجدَ لكم ملائكته، وأنعم عليكم بالنعم التي لا تحصى،
وأن توفوا بالعهود التي بينكم وبين الله تعالى، وأنْ تسيروا على سير الأنبياء لا سيما إبراهيم الذي أتم الكلمات، وقال أسلمت لرب العالمين، وأنْ تقولوا سمعنا وأطعنا، ولا تكونوا ككفار بني إسرائيل الذي نقضوا فغضب عليهم[7].

واسمها “البقرة”يلخص مقصدها[8]:
فقصة البقرة فيها:
أ‌) تعليم للمؤمنين أن يقولوا سمعنا وأطعنا لأوامر ربهم ورسولهم من غير مجادلة وتردد، وأن يستسلموا استسلامًا تامًا لأحكامه مع الانقياد والإذعان، بخلاف ما فعل بنو إسرائيل في مجادلتهم لموسى عليه السلام في قصة البقرة، وكثرة أسئلتهم وعدم استجابتهم إلا بعد أخذ ورد حتى قال سبحانه {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، وفيها موعظة للمسلمين من سوء التلقي للأوامر والتلكؤ فيها، وتذكير بخطر ذلك على مسيرة المؤمنين دنيا وأخرى، وهذا ملخص لمقصد السورة كما تقدم[9].
ب‌) تعليم للناس الإيمان بالغيب لا سيما قدرة الله تعالى على البعث وإحياء الموتى، كما حصل في قصة البقرة[10]، {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73]، وهذا يتناسب مع أهمية الإيمان بالغيب والآخرة والبعث الذي هو محرك للعمل بالأحكام الذي ركزت عليه السورة[11].
ت‌) فيها إبطال للشرك المخالف لملة إبراهيم عليه السلام، وذلك بأمر بني إسرائيل بذبح البقرة الصفراء التي هي من جنس العجل الذهبي الذي صنعه السامري فعبدوه[12].
ث‌) فيها تعليم للمؤمنين ألا يشددوا على أنفسهم في الأحكام فيشدد الله عليهم، فبنو إسرائيل كان يكفيهم ذبح أيِّ بقرةٍ لكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد عليهم، قال البقاعي:”قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو ذبحوا بقرةً ما لأجزأتهم لكنهم شددوا في السؤال فشدد الله عليهم – يعني أنهم كلفوا بالأسهل فشددوا فنسخ بالأشق” [13]، وهذا فيه إرشاد لهذه الأمة التي بين له الصراط المستقيم الذي لا إفراط فيه ولا تفريط ليبقى منهجًا لها إلى قيام الساعة.
ج‌) فيها بيان أن مخالفة الآيات بعد رؤيتها والعلم بها تسبب قسوة القلوب، وسلب فضل الله كما حصل مع بني إسرائيل حيث سلبوا وقست قلوبهم: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:72، 73].
ح‌) فيها قلة توقير بني إسرائيل للأنبياء [14]، مما قادهم لمخالفة أوامر بعضهم وللكفر بعضهم الآخر، {قالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]، {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71]، وهذا الأمر من أهم الأمور التي جاءت سورة البقرة لمعالجتها[15]، فهي تبين أن المؤمنين أتباع محمد على الصلاة والسلام على خلاف ذلك تمامًا، {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة:285].
وبهذا يتضح لنا أن هذه القصة تمثل محور السورة بوضوح تام، ويظهر وجه تسمية السورة بهذا الاسم ويكشف صحة قول الإمام البقاعي:”وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة سبأ في السنة العاشرة من ابتدائي في عمل هذا الكتاب أن اسم كل سورة مترجم عن مقصودها لأن اسم كل شيء تظهر المناسبة بينه وبين مسماه عنوانه الدال إجمالا على تفصيل ما فيه”[16].
بعض أقوال العلماء لمناسبة اسم السورة لموضوعها:
1) قال الإمام البقاعي: “مقصودها إقامة الدليل على أن الكتاب هدى ليتبع في كل ما قال، وأعظمُ ما يهدي إليه الإيمانُ بالغيبِ، ومجمعُه الإيمانُ بالآخرة، فمدارُه الإيمانُ بالبعثِ الذي أعربت عنه قصةُ البقرة التي مدارها الإيمان بالغيب فلذلك سميت بها السورة، وكانت بذلك أحق من: قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنها في نوع البشر، ومما تقدمها في قصة بني إسرائيل من الأحياء بعد الإماتة بالصعق، وكذلك ما شاكلها؛ لأن الإحياء في قصة البقرة عن سبب ضعيف في الظاهر بمباشرة من كان من آحاد الناس، فهي أدلُّ على القدرة، ولا سيما وقد أُتْبِعَتْ بوصفِ القلوبِ والحجارةِ بما عمَّ المهتدين بالكتابِ والضالين، فوَصَفَها بالقسوةِ الموجبةِ للشقوةِ، ووُصِفَتِ الحجارةُ بالخشيةِ الناشئةِ في الجملةِ عن التقوى المانحة للمدد المتعدي نفعُه إلى عباد الله.
وفيها إشارة إلى أن هذا الكتاب فينا كما لو كان فينا خليفة من أولي العزم من الرسل يرشدنا في كل أمر إلى صواب المخرج منه فمن أعرض خاب، ومن تردد كاد، ومن أجاب اتقى وأجاد.
وسميت الزهراءَ لإنارتها طريقَ الهدايةِ والكفايةِ في الدنيا والآخرة، ولإيجابها إسفارَ الوجوهِ في يوم الجزاء لمن آمن بالغيب ولم يكن في شك مريب، فيحالَ بينه وبين ما يشتهي.
وسميت بالسنام لأنه ليس في الإيمان بالغيب بعد التوحيد الذي هو الأساس الذي ينبني عليه كل خير، والمنتهى الذي هو غايةُ السير، والعالي على كل غير ـ بأعلى ولا أجمع من الإيمان بالآخرة، ولأن السنام أعلى ما في بطن المطية الحاملةِ، والكتاب الذي هي سورته هو أعلى ما في الحامل للأمر وهو الشرع الذي أتاهم به رسولهم (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)” [17].
2) قال المهايمي:”سميت بها لدلالة قصتها على وجود الصانع؛إذ حياة القتيل ليست من ذاته وإلا لحيي كل قتيل، ولا بضرب بعض البقرة عليه وإلا لحصلت متى ضرب، وعلى قدرته؛لأنه أحيي بمحض قدرته لا بهذا السبب بل عنده، وعلى حكمته؛ لأنه أشار بذلك إلى إحياء القلب بذبح النفس الأمارة المظلمة له، وعلى النبوة لكونها معجزة، وفيها إشارة إلى وجوب طاعة الأنبياء من غير تفتيش لتقل المؤنة ولا تقع الفضيحة التي وقعت للقائلين أتتخذنا هزوا، وعلى الاستقامة لأن طلب الدنيا ذلة وطلب ما سوى الله شِية، وعلى أن المجاهدة تفيد الهداية وعلى شرائط ذلك بكونها في غير زمن الشيخوخة؛لأن قلع أصول الهوى بعد استحكامها وضعف النفس القالعة لها بعيد جدًا، ولا في زمن سكر الشباب لقلة العقل المحارب للهوى مع التزين بصفرة الصلاح، وهي التي تسر الناظرين، وعلى المعاد بعود الحياة إلى القتيل، وسائر ما في السورة متممات أو مقدمات”[18].
3) جاء في كتاب “من دلالات أسماء السور في القرآن الكريم “: اسم “البقرة”فيه تصحيح للتصورات والدعوة إلى الاستجابة لأوامر الله تعالى، وعدم التلكؤ في تنفيذها”[19].
أقوال العلماء في بيان مقصد سورة البقرة:
يمكن تقسيم أقوال العلماء في مقصود سورة البقرة إلى ثمانية أقسام:
أ‌) القسم الأول: قالوا: إقامةُ الدليلِ على حقيةِ القرآنِ وأنه هدى؛ ليتبع في كل ما قال، وأعظمُ ما يهدي إليه الإيمانُ بالغيبِ، ومجمعُه الإيمانُ بالآخرةِ، والدعوةُ للاستسلامِ له وحسنِ الاستجابة بعد الإيمانِ به والانضمامِ إلى لوائه.
1) قال الإمام البقاعي: “مقصودها إقامة الدليل على أن الكتاب هدى ليتبع في كل ما قال، وأعظمُ ما يهدي إليه الإيمانُ بالغيبِ، ومجمعُه الإيمانُ بالآخرة، فمدارُه الإيمانُ بالبعثِ الذي أعربت عنه قصةُ البقرة التي مدارها الإيمان بالغيب”[20].
2) قال محمد عناية الله في “البرهان في نظام القرآن”:
“مقصدها تقرير حقية القرآنِ والدعوةُ إلى الإيمان به، وحسن الاستجابة ـ ـ وبالجملة:
1ـ فالقسم الأول من هذه السورة ـ وهو الذي يخاطب بني إسرائيل أو يتحدث عنهم ـ تقريرٌ لحقيةِ القرآن ودعوةٌ إلى الإيمان به، وتقريعٌ وتعنيفٌ على الإعراضِ عنه والتشكيكِ في أمره، والصَّدِّ عن سبيله.
2ـ والقسم الثاني منها: وهو الذي يخاطب الذين آمنوا يدعوهم إلى حسنِ الاستجابةِ، وحسنِ التلقي لكتاب الله وشرائعه، بعد الإيمان به والانضمام إلى لوائه، ويرشدُهم إلى ما يساعدهم على ذلك من التقوى والمحافظةِ على الصلاةِ، والإنفاقِ لوجه الله تعالى، ثم تأتي الخاتمة، وهي تعْرِضُ صورةً مشرقةً منيرةً لإيمان الذين آمنوا بهذا القرآنِ حقَّ الإيمان”[21].
3) قال أ. د. محمد عبد المنعم القيعي:”مقصود سورة البقرة: ذِكْرُ الكتاب وأوصافه”[22].
4) قال عبد الحميد طهماز: “موضوع سورة البقرة الإسلام لله تعالى، بمعنى الاستسلام الكامل لأحكامه القدرية والشرعية، والانقياد والإذعان لها، هذا هو الموضوع الأساسي لسورة البقرة والتي دارت آياتها كلها في فلكه”[23].
5) قال أبو الأعلى المودودي: المحور الرئيس لسورة البقرة: “الهداية، فهذه السورة دعوة لقبول الهداية الإلهية، وكل القصص والحوادث التي وردت فيها تدور حول هذه الفكرة المركزية”.
وفيها ذكر اليهود على وجه الخصوص بحوادث تاريخية متعددة مستوحاة من سيرتهم الخاصة كي يذكرهم الله تعالى وينصحهم بأن صلاحهم وخيرهم يكمن في قبول هذه الهداية المنزلة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولذا فعليهم أن يكونوا أول من يؤمن بها؛ لأنها ـ في أصلها وأساسها ـ هي نفس الهداية التي أنزلت على نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام”[24].
6) جاء في “موقع اسلام ويب”: “مقصد سورة البقرة فيها إقامة الدليل على أن القرآن الكريم كتاب هداية ليتبع في كل حال، وأعظم ما يهدي إليه الإيمان بالغيب الذي أعربت عنه قصة البقرة التي مدارها على الإيمان بالغيب، فلذلك سميت بها السورة؛ لأن إحياء الميت بمجرد ضربة ببعض أجزاء تلك البقرة أقوى دلالة على قدرته سبحانه، وهذه السورة الكريمة على طولها تتألف وحدتها الموضوعية من مقدمة وأربعة مقاصد وخاتمة[25]:
أما المقدمة فقد تضمنت التعريف بشأن هذا القرآن (1ـ 20)، وبيانَ ما فيه من الهداية قد بلغ حدًا من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم، وإنما يُعْرِضُ عنه من لا قلب له أو من كان في قلبه مرض.
والمقصد الأول: يتجه إلى دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام ونبذ ما سواه من الأديان.
والمقصد الثاني: تضمن الحديثَ عن أهل الكتاب والدعوةَ إلى تركِ باطلهم، وإلى الدخول في دين الإسلام.
والمقصد الثالث: تضمن عرضَ شرائعِ هذا الدين تفصيلًا.
والمقصد الرابع: تضمن ذكر الوازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع، ويعظم مخالفتها
أما الخاتمة فقد اشتملت على التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد وبيان ما يرجى لهم في آجلهم وعاجلهم”.
ب‌) القسم الثاني: قالوا: سورةُ بيانِ الصراطِ المستقيمِ على الاستيفاءِ والكمالِ، أخذًا وتركًا: وأعظمه الإيمانُ المطلوبُ كإثباتِ التوحيدِ والنبواتِ، وأحكامُ وشرائعُ هذا الدينِ لأتباعه التي فيها صلاحُهم وصلاحُ مجتمعِهم، فقد جمعت الصراط عقيدةً وشريعةً.
وبيانُ شرفِ من أخذ به من غير تفريق، وسوءُ حالِ من تنكب عنه وتقريعهم:
1) قال أبو جعفر بن الزبير:”السورة بأسرها بيان الصراط المستقيم على الاستيفاء والكمال، أخذًا وتركًا، وبيان شرف من أخذ به، وسوء حال من تنكب عنه، وكأن العباد لما عُلِّموا (أن يقولوا) اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة قيل لهم عليكم بالكتاب إجابة لسؤالهم”[26].
2) قال الفراهي في دَلَائِل النظام:”عمود سورة البقرة هو سُورَة الْإِيمَان الْمَطْلُوب؛ وَلذَلِك جمعت دلائله”[27].
3) قال العلامة الطيبي:”لأن السورة في بيان إثبات التوحيد والنبوات، ووضع الأحكام والتنبيه على خطأ الناس في الضلالات، وإرشادهم إلى الحق، فإنه تعالى كلما ذكر نبذاً من أحوال الأمم وقصصهم، كر إلى ذلك المعنى”[28].
4) قال ابن عاشور:”ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين: قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصول تطهيره النفوس، وقسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم”[29].
5) قال الطباطبائي:”معظمها تنبئ عن غاية واحدة محصلة، وهو بيان أن من حق عبادة الله سبحانه أن يؤمن عبده بكل ما أنزله بلسان رسله من غير تفرقة بين وحي ووحي، ولا بين رسول ورسول ولا غير ذلك، ثم تقريع الكافرين والمنافقين وملامة أهل الكتاب بما ابتدعوه من التفرقة في دين الله و التفريق بين رسله، ثم التخلص إلى بيان عدة من الأحكام كتحويل القبلة و أحكام الحج و الإرث و الصوم و غير ذلك[30].
6) قال الأستاذ محمود توفيق سعد: السورة مكونة من مقدمة وقسمين كبيرين وخاتمة المقدمة من الآية [1 _ 20] مثلما أبان عنه الدكتور دراز.
والقسم الأول: من الآية [21 _ 167] من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] إلى آخر قوله تعالى:
{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167]،وهذا القسم قائم بالحقائق والتكاليف العقدية الإيمانية.
والقسم الثاني: من الآية [16 _ 283] من أول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[البقرة:168] إلى آخر قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[البقرة:283]، وآيات هذا القسم معقودة لبيان أحكام الشريعة؛ لتكتمل بها صورة الإسلام، وهديه؛عقيدةً وشريعةً. ثم تأتي الخاتمة: في ثلاث آيات [284 _ 286] مقررة أن الكون كله لله وحده، وأن ما في الأنفس يحاسب عليه؛ فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء فكأن في هذه الآية تعقيبًا على القسمين معًا (العقدي والتشريعي)، وفي الوقت نفسه توطئة لذكر الذين قاموا بحق هذين القسمين فكان فيه رد عجز السورة على صدرها) [31].
7) قال الشيخ محمد علي الصابوني: “وهي من السور المدنية التي تعني بجانب التشريع، شأنها كشأن سائر السور المدنية، التي تعالج النظم والقوانين التشريعية، التي يحتاج إليها المسلمون في حياتهم الاجتماعية.
اشتملت هذه السورة الكريمة على معظم الأحكام التشريعية: في العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، وفى أمور الزواج، والطلاق، والعدة، وغيرها من الأحكام الشرعية”[32].
8) قال الدكتور وهبي الزحيلي: “فالسورة كلها منهاج قويم للمؤمنين، ببيان أوصافهم، وأوصاف معارضيهم ومعاديهم من الكفار والمنافقين، وتوضيح مناهج التشريع في الحياة الخاصة والعامة، واللجوء في الخاتمة إلى الله والدعاء المستمر له في التثبيت على الإيمان، والإمداد بالإحسان والفضل الإلهي، وتحقيق النصر على أعداء الله والإنسانية”[33].
9) قال صالح بن عبد العزيز آل الشيخ: “سورة البقرة في بيان الكليات الخمس والضروريات التي تدور عليها أحكام الشريعة، وبيان عدو من أعداء الإسلام وهم اليهود”[34].
ت‌) القسم الثالث: قالوا: محور السورة يدور حول” خلافة الله في الأرض بمنهج الله تعالى والقوامة على دين الله سلبًا وإسنادًا بين من أضاعوه ومن أقاموه.
1) جاء في التفسير الموضوعي: محور السورة يدور حول” منهج خلافة الله في الأرض بين من أضاعوه ومن أقاموه”[35].
2) قال الدكتور مصطفى مسلم: موضوعها: القوامة على دين الله سلبًا وإسنادًا[36].
3) قال الدكتور صلاح الخالدي: “هي سورة الخلافة والخلفاء”[37].
4) قال الدكتور فاضل السامرائي: “هدف سورة البقرة وهو الاستخلاف في الأرض”[38].
5) قال طارق مصطفى في “التناسب في سورة البقرة”: “محورها الرئيس هو الخلافة”[39].
6) جاء في كتاب “خواطر قرآنية”: “هدف السورة هو الاستخلاف في الأرض، كأنها تقول: يا مسلمون أنتم مسؤولون عن الأرض”[40].
7) جاء في كتاب “الخرائط الذهنية لسور القرآن الكريم”: “الاستخلاف في الأرض ومنهجه”[41].
8) جاء في كتاب أول مرة أتدبر القرآن: “الاستخلاف في الأرض بمنهج الله تعالى”.[42]
9) قال أَبُو الحَسَنِ الحَرَالِّيُّ في آخر سورة البقرة، ونقله البقاعي مؤيدًا:”{فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ولما كان الختم بذلك مشيرًا إلى أنه تعالى لما ضاعف لهم عفوَه عن الذنب، فلا يعاقب عليه، ومغفرتَه له بحيث يجعله كأن لم يكن، فلا يذكره أصلًا، ولا يعاقب عليه، ورحمتَه في إيصال المذنبِ المعفوِ عنه المغفور له إلى المنازل العالية – أنهاهم إلى رتبة الخلافة في القيام بأمره والجهاد لأعدائه، وإن جلَّ أمرُهم، وأعيى حصرُهم، كان منبها على أن بداية هذه السورة هداية، وخاتمتها خلافة، فاستوفت تبيين أمر النبوة إلى حد ظهور الخلافة، فكانت سنامًا للقرآن، وكان جماع ما في القرآن منضمًا إلى معانيها، إما لما صرحت به، أو لما ألاحته وأفهمه إفصاح من إفصاحها، كما تنضم هي مع سائر القرآن إلى سورة الفاتحة، فتكون أما للجميع”[43].
10) القسم الرابع: ركزوا على أن محورها يدور حول أمرين:
1ـ إعدادُ الجماعةِ المسلمة لحمل أمانة الدعوة والقيام بدين الله وتطبيق شرائعه، والخلافة في الأرض لتقوم بدور القوامة التي عجزت عنه بنو إسرائيل، والتشريعُ الذي اقتضاه تكوُّن المسلمين جماعةً متميزةً عن غيرها في عباداتها ومعاملاتها وعاداتها وعقائدها، وبيان استحقاقهم لهذا الشرف بالتزامها بالصفات التي ارتضاها الله تعالى لخلفائه في الأرض، والتي من أهمها الاستسلام لأوامره تعالى والمسارعة إلى طاعته، وتبصير الجماعة المسلمة وتحذيرها من العثرات التي سببت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم.
2ـ زوال شرف الخلافة عن بني إسرائيل بعدما تخلوا عن الصفات التي تؤهلهم لذلك، ونكولهم عنها، ونقضهم لعهد الله بخصوصها، ومواجهتهم لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومناقشتهم فيما كانوا يثيرون حول الرسالة المحمدية من تشكيكات وشبه، وتوجيه الدعوة إليهم للإسلام.
1) قال سيد قطب:
“هذه السورة تضم عدة موضوعات، ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطًا شديدًا:
1ـ فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة، واستقبالهم لها، ومواجهتهم لرسولها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها… وسائر ما يتعلق بهذا الموقف بما فيه تلك العلاقة القوية بين اليهود والمنافقين من جهة، وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى.
2ـ وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها؛ وإعدادها لحمل أمانة الدعوة والخلافة في الأرض، بعد أن تعلن السورة نكول بني إسرائيل عن حملها، ونقضهم لعهد الله بخصوصها، وتجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم – عليه السلام – صاحب الحنيفية الأولى، وتبصير الجماعة المسلمة وتحذيرها من العثرات التي سببت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم.. وكل موضوعات السورة تدور حول هذا المحور المزدوج بخطيه الرئيسيين، كما سيجيئ في استعراضها التفصيلي”[44].
2) قال عمر عرفات في “دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها”: محور السورة تربية الأمة الإسلامية وإعدادها لحمل أمانة الخلافة في الأرض، وبيان استحقاقها لهذا الشرف بالتزامها بالصفات التي ارتضاها الله تعالى لخلفائه في الأرض، والتي من أهمها الاستسلام لأوامره تعالى والمسارعة إلى طاعته، والذي يدعوهم لذلك إيمانهم بالغيب وبقدرة الله تعالى على البعث للحساب، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى بيان زوال شرف الخلافة عن بني إسرائيل بعدما تخلوا عن الصفات التي تؤهلهم لذلك فهي سورة بيان منهج خلافة الله تعالى في الأرض بين من أضاعوه ومن أقاموه.
3) قال الأستاذ محمود شلتوت: تهدف السورة إلى غرضين هما:
1ـ توجيه الدعوة إلى بني إسرائيل ومناقشتهم فيما كانوا يثيرون حول الرسالة المحمدية من تشكيكات وشبه.
2ـ التشريع الذي اقتضاه تكوُّن المسلمين جماعة متميزة عن غيرها في عباداتها ومعاملاتها وعاداته.. وبذلك يؤكد آخرها أولها، ويؤسس أولها لآخرها، وتصير السورة كتلة واحدة ينتفع المسلمون الذين يهتدون بالكتاب بأحد غرضيها في معاملة من يخالطون من أهل الملل الأخرى، وينتفعون بالغرض الآخر في تنظيم أحوالهم من عبادة ومعاملة[45].
4) جاء في المختصر في تفسير القرآن الكريم :”إعداد الأمة لعمارة الأرض، والقيام بدين الله، وبيان أقسام الناس، وفيها أصول الإيمان وكليات الشريعة[46].
5) قال الدكتور مصطفى مسلم: “وهكذا سائر سور القرآن الكريم مهما طالت فإنها تدور حول أهداف معينة، فسورة البقرة على طول آياتها وكثرة فقراتها. ذكر بعضهم أنها تتكون من مقدمة وغرضين أساسيين وخاتمة.
فالمقدمة في الحديث عن موقف الناس تجاه القرآن الكريم: فمؤمن، وكافر، ومنافق.
ثم الموضوع الأول: هو بيان قدرة الخالق ووحدانيته وحكمته من خلال أصل الخلق والتكوين وأن الناس تنكروا لهذا الأمر المرة تلو المرة وقدم النموذج الإنساني الذي كلف بالأمانة والقوامة على دعوة الله وتوحيده وتطبيق شرائعه، فلم يستقم على ذلك وهم بنو إسرائيل، وبعد الحديث عن نعم الله على بني إسرائيل وإرسال الرسل إليهم وبيان مواقفهم ومراوغتهم للتخلص من أحكام الله وإيثار الشهوات والشبهات على الاستقامة على منهج الله.
ثم يأتي ذكر الموضوع الثاني: وهو أنه لا بد لدين الله من أمة تقوم عليه وتطبقه ولا بد أن تكون هذه الأمة قادرة على التغلب على أهوائها، وأن تكون على جانب كبير من العلم والمعرفة الربانية وأن تكون لها شخصيتها وأصالتها. فكانت الأمة التي أُسندت إليها المسئولية بعد بني إسرائيل هذه الأمة الإسلامية أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وزودت هذه الأمة بكل مقومات القيادة والسيادة من العلوم والتشريعات لتقوم بدور القوامة التي عجزت عنه بنو إسرائيل.
ثم تأتي الخاتمة بالشهادة لهذه الأمة أنها آمنت وصدقت ولجأت إلى ربها وتضرعت إليه واستعانت به للقيام بالمهام العظام التي أنيطت بها من خلال الالتجاء”[47].
خ‌) القسم الخامس: قالوا: دعوة بني إسرائيل الإيمان.
قال الدكتور عبد المتعال الصعيدي: “الغرض منها دعوة بني إسرائيل الإيمان”[48].
د‌) القسم السادس: قالوا محور السورة المدافعة.
جاء في “محور الوحدة الموضوعية لسورة البقرة” “المحور الرئيسي هو المدافعة، وهو معنى قريب جدًا من مفهوم الخلافة والاستخلاف، والذي هو مؤدى ونتيجة المدافعة، وسنة الله في الدفع والدفاع قائمة على استجلاب عوامل النصر وفهم حقيقة الصراع..ومفتاحها: “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة:251] [49].
ذ‌) القسم السابع: قالوا محور السورة الإيمان بالغيب.
قال الدكتور سعيد جمعة: “المقصود الأعظم لسورة البقرة الإيمان بالغيب – وبخاصة البعث – هو أقرب المعاني إلى مقصود سورة البقرة”[50]. وهذا قد فهمه شيخه محمود توفيق سعد من كلام البقاعي حيث قال بعد نقله لكلام البقاعي: “كلَّ آيات سورة “البقرة” ناظرة إلى تقرير معنى الإيمان بالغيب في القلوب ومن ثَمَّ كانت فيها أول صفة للمتقين صراط المغضوب عليهم وصراط الضّالين صفةَ الإيمان بالغيب (هدى للمتقين الذين يُؤْمِنُونَ بِالغَيْب…) فهذا الإيمان بالغيب هو أساس كلّ عمل صالح مصلِح، فإنَّه لامعنى البتة لأيِّ عمل صالح أو إيمان بدين إذا لم يكن ذلك مؤسسا على تقرر معنى الإيمان بالغيب ولا يصلح الإله المعبود أن يكون مشهودًا ملموسا بل لابد أن يكون غيبا مطلقا تشهد الأبصار والبصائر دلائل وجوده ووحدانيته وكمال جلاله وجماله وقهره ورحمته…إلخ
ومن ثَمَّ كان مقصود السورة الأولى من سور تفصيل أم الكتاب: “سورة البقرة” الهداية إلى الإيمان بالغيب”[51].
ر‌) القسم الثامن: قالوا: جمع الشرع كله: العقائد، والعبادات والسلوك، وحفظ الضرورات الخمس.
قال الدكتور محمد الخضيري: يمكن أن نقول مقصود سورة البقرة هو ما ذكر خالد بن معدان هي فسطاط القرآن، والفسطاط يعني الميدان الواسع فيه الشرع والعبادة والسلوك، ولو قيل إنها جاءت لذكر الضرورات الخمس وللتأكيد على حفظها، حفظ الدين، والعقل، والمال، والعرض، والنفس،،هذه الخمس مدار سورة البقرة على حفظها والحرص عليه، وقد قال الشاطبي: هي كلية الشريعة وكلية الشريعة، أي:أنها جامعة للشرع كله[52].
الترجيح ومناقشة الأقوال:
قول القسم الخامس وما بعده غير شامل لمقصود السورة، ولم يقل به إلا أفراد من العلماء، وأما قول القسم الثالث بأن موضوع سورة البقرة الخلافة فهو غير ظاهر في السورة لا في مطلعها ولا خاتمتها ولا في قصتها، ولا في تكرر ألفاظ الخلافة في السورة، فقد وردت مرة واحدة في السورة{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة:30] وأرجح الأقوال في خليفة: أن الإنسان خليفة الله في أرضه يسلم الله تعالى زمام الأرض لإقامة شرعه كما أنزله [53]، نعم لا ينكر أن السورة بينت أن بني إسرائيل قد سلبوا شرف حمل الدين والهداية، وأعطيته هذه الأمة لكن ليس هو محور السورة الذي يجمع جميع أجزائها.
والراجح عندي هو ما ذكرته في مقصود السورة:
“تقريرُ حقِّيةِ القرآن، وكونِه هدىً شاملًا للمتقين، وبيانُ سوءِ حالِ من تنكَّب عنه ككفار بني إسرائيل، وحسن دين وحال من أخذ به”.
وإذا أردنا تفصيله نقول:
“تقريرُ حقِّيةِ القرآن، وكونِه هدىً شاملًا للمتقين، المؤمنين بالآخرةِ والغيبِ والتوحيدِ الذين لا يفرقون بين رسولٍ ورسولٍ، بإعدادِ الجماعةِ المسلمةِ المتميزةِ لحملِ أمانةِ القيام بدينِ الله ملةِ إبراهيمَ، ببيانِ الصراطِ المستقيمِ الذي ارتضاه لخليفتِه في الأرضِ على الاستيفاءِ والكمالِ، أخذًا وتركًا، عقيدةً وشريعةً، والدعوةُ إلى الإيمان به، وحسنِ الاستجابةِ له.
وبيانُ سوءِ حالِ من تنكَّب عنه ككفار بني إسرائيل فسُلِبوا، وشرفِ من أخذ به، واستسلمَ واستجابَ، وتحذيرُهم من عثرات بني إسرائيل التي سببت سلبهم”.
ويدل عليه الجو الذي أنزلت فيه السورة، وهو بداية الفترة المدنية التي كانت في بداية بناء الدولة الإسلامية، وكان اليهود يشككون في صحة القرآن ويثيرون الشبهات ويدعون أنهم الوراث للرسالات، ومن ورائهم المنافقون.
ويدل عليه أيضًا استهلال السورة وخاتمتها، وقصصها، واسمها، و خط سير السورة، وتكرار هداية الكتاب والدعوة للإيمان به، ومناسبته لسورة الفاتحة، حيث جاء في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:6]، وبدأت سورة البقرة بقول الله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}[البقرة: 1،2]، كأنهم لما سألوا الهداية لذلك قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب، فبعد أن علمنا الله تعالى أن نطلب الهداية منه إلى الصراط المستقيم عرفنا على أن هذا القرآن هو محل الهدى.
1) فأما “تقريرُ حقِّيةِ القرآن، وكونِه هدىً شاملًا للمتقين، المؤمنين بالآخرةِ والغيبِ والتوحيدِ الذين لا يفرقون بين رسولٍ ورسولٍ ”
فقد أشارت له بداية السورة وخاتمتها، وهو من براعة الاستهلال وحسن الختام، ورد العجز على الصدر، وهي ملخصة لموضوع السورة{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}[البقرة:1ـ 5]، {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة:285،286].
وتكرر ذكره في السورة كثيرًا، لا سيما الكتاب والحث على الإيمان به والتحذير من الكفر به، وهو الذي ركز عليه أصحاب القسم الأول والثاني:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة:101].
{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105].
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129].
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151].
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176].
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة: 213].
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. [البقرة: 231].
2) وأما “وبيانُ سوءِ حالِ من تنكَّب عنه ككفار بني إسرائيل فسُلِبوا، وشرفِ من أخذ به، واستسلمَ واستجابَ، وتحذيرُهم من عثرات بني إسرائيل التي سببت سلبهم “فقد تكلم عنه معظم الجزء الأول من القرآن الكريم.
3) وأما ببيانِ الصراطِ المستقيمِ الذي ارتضاه لخليفتِه في الأرضِ على الاستيفاءِ والكمالِ، أخذًا وتركًا، عقيدةً وشريعةً، فقد تكفل به الجزء الثاني من القرآن الكريم إلى آخر السورة، مع آيات كثيرة من الجزء الأول.
ومن أحسن العبارات الدالة على مقصود السورة، مع أن معظم عبارات القسم الأول والثاني والرابع حسنة هذه العبارات هذه العبارات:
1) قول الإمام البقاعي: “مقصودها إقامة الدليل على أن الكتاب هدى ليتبع في كل ما قال، وأعظمُ ما يهدي إليه الإيمانُ بالغيبِ، ومجمعُه الإيمانُ بالآخرة، فمدارُه الإيمانُ بالبعثِ الذي أعربت عنه قصةُ البقرة التي مدارها الإيمان بالغيب فلذلك سميت بها السورة.
2) قول محمد عناية الله في “البرهان في نظام القرآن”:”مقصدها تقرير حقية القرآنِ والدعوةُ إلى الإيمان به، وحسن الاستجابة”.
3) قول أبي الأعلى المودودي: المحور الرئيس لسورة البقرة: “الهداية، فهذه السورة دعوة لقبول الهداية الإلهية، وكل القصص والحوادث التي وردت فيها تدور حول هذه الفكرة المركزية”.
4) قول أبي جعفر بن الزبير:”السورة بأسرها بيان الصراط المستقيم على الاستيفاء والكمال، أخذًا وتركًا، وبيان شرف من أخذ به، وسوء حال من تنكب عنه، وكأن العباد لما عُلِّموا (أن يقولوا) اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة قيل لهم عليكم بالكتاب إجابة لسؤالهم”.
5) قول سيد قطب:
“هذه السورة تضم عدة موضوعات، ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطًا شديدًا:
1ـ فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة، واستقبالهم لها، ومواجهتهم لرسولها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها… وسائر ما يتعلق بهذا الموقف بما فيه تلك العلاقة القوية بين اليهود والمنافقين من جهة، وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى.
2ـ وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها؛ وإعدادها لحمل أمانة الدعوة والخلافة في الأرض، بعد أن تعلن السورة نكول بني إسرائيل عن حملها، ونقضهم لعهد الله بخصوصها، وتجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم – عليه السلام – صاحب الحنيفية الأولى، وتبصير الجماعة المسلمة وتحذيرها من العثرات التي سببت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم.. وكل موضوعات السورة تدور حول هذا المحور المزدوج بخطيه الرئيسيين، كما سيجيئ في استعراضها التفصيلي”.
6) قول الأستاذ محمود شلتوت: تهدف السورة إلى غرضين هما:
1ـ توجيه الدعوة إلى بني إسرائيل ومناقشتهم فيما كانوا يثيرون حول الرسالة المحمدية من تشكيكات وشبه.
2ـ التشريع الذي اقتضاه تكوُّن المسلمين جماعة متميزة عن غيرها في عباداتها ومعاملاتها وعاداته.. وبذلك يؤكد آخرها أولها، ويؤسس أولها لآخرها، وتصير السورة كتلة واحدة ينتفع المسلمون الذين يهتدون بالكتاب بأحد غرضيها في معاملة من يخالطون من أهل الملل الأخرى، وينتفعون بالغرض الآخر في تنظيم أحوالهم من عبادة ومعاملة.
استعراض موضوعات سورة البقرة وأغراضها:
من المفسرين من استعرض الموضوعات التي تكلمت عليها سورة البقرة بتفصيل وإليك بعضًا أقوالهم:
1) قال محمد رشيد رضا:
(خلاصة سورة البقرة وما فيها من دعوة الإسلام وأحكامه وقواعده)
دعوة الإسلام العامة:
بدأ الله عز وجل سورة البقرة بدعوةِ القرآن، وكونِه حقًا لا مجال فيه لشك ولا ارتياب، وجعل الناس تُجاه هدايتِه ثلاثةَ أقسامٍ:
(1) المؤمنون وهم قسمان:
الذين يؤمنون بالغيب بمجرد سلامة الفطرة ويقيمون ركني الدين: البدنيَّ الروحيَّ، والمالَّي الاجتماعيَّ، والذين يؤمنون به بتأثير إيمانهم بما أنزل من قبله من كتب الرسل، إذ يرونه أكمل منها هداية وأصح رواية، وأقوى دلالة. ثم فصل هذه الأصول للإيمان في آية ({176 ليس البر}الآية) وآيتي {284و 285{لله ما في السموات وما في الأرض} الخ.
(2) الكافرون الراسخون في الكفرِ وطاعةِ الهوى، الذين فقدوا الاستعدادَ للإيمان والهدى.
(3) المنافقون الذين يظهرون غير ما يخفون، ويقولون مالا يفعلون {فهذه آياتها الأولى إلى 20 آية}.
وقفَّى على هذا بدعوة الناس جميعًا إلى عبادة ربهم وحده، وعدمِ اتخاذ الأنداد له، الذين يُحَبُّون من جنس حبه، ويُذْكَرون معه في مقاماتٍ ذكرِه، ويُشرَكون معه في مخ العبادة – الدعاء – أو يُدْعَونَ من دونه
(انظر الآيتين 21و 22، وآيات الإسلام في قصة إبراهيم وإسماعيل، ووصية إبراهيم ويعقوب لأبنائهم من 124 – 138 كما يأتي، والآيات التي سنشير إليها في خطاب أمة الإجابة من 163- 171).
ثم ثنَّى دعوة التوحيد بدعوة الوحي والرسالة واحتجَّ على حقِّيَّة هذه الدعوة بهذا الكتابِ المنزلِ على عبدِه محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتحدي الناسِ كافَّةً بالإتيان بسورةٍ مِنْ مِثْلِه، مع التصريح القطعي بعجزهم أجمعين، ورتب على هذا إنذارَ الكافرين بالنار، وتبشيرَ المؤمنين بجناتٍ تجري من تحتها الأنهار، وقفَّى على هذا ببيانِ بعضِ الأدلةِ العقليةِ على الإيمانِ، وبخلاصةِ النشأةِ الآدميةِ وعداوةِ الشيطانِ للإنسان. وتم ذلك بالآية(39).
ثم خصَّ بني إسرائيلَ بالدعوة، تاليًا عليهم ما لم يكن يعلمُه سيدنا محمدٌ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لولا وحيه تعالى له، فذكَّرهم بنعمه، وأمرَهم أن يؤمنوا بما أنزله على خاتم رسله، ونهاهم أن يكونَ المعاصرون له منهم أولَ كافرٍ به، وحاجَّهم في الدينِ بتذكيرهم بأيامِ الله، وبأهمِ الوقائع التي كانت لسلفهم مع كليمه، من كفر وإيمان، وطاعة وعصيان، ثم بالتذكير لهم وللعرب بهديِ جدِّهم إبراهيمَ الخليلِ، وبنائه لبيتِ الله الحرامِ مع ولده إسماعيل، ودعائهما إياه تعالى أن يبعث في الأميين رسولًا منهم، وبأنَّ علماءهم يعرفون أنَّ محمدا هو الرسول الذي دعا به إبراهيمُ وبشَّرَ به موسى كما يعرفون أبناءهم، وبأن فريقًا منهم يكتمون الحقَّ وهم يعلمون، أيْ، والفريق الآخر يؤمنون به، ويعترفون بوعد الله لإبراهيم ثم لموسى بقيام نبي من أبناء إخوتهم مثله.
بدأ هذا السياق بالآية (40) من السورة {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} الخ وانتهى بالآية (142) منها، وتخلله بعض الآيات الموجهة للمؤمنين للاعتبار بما فيه من شؤون أهل الكتاب السابقين والحاضرين من اليهود بالتفصيل ومن النصارى بالإجمال، إذ لم يكن أحدٌ منهم مجاورًا ولا مخالطًا للمسلمين في تلك الحال، فإنَّ نزولَ سورة البقرة كان في أول عهد الهجرة، وما تقدم يناهز نصف السورة، وهو شطرها الخاص بأمة الدعوة، والشطر الثاني قد وجه لأمة الإجابة.
خطاب أمة الإجابة بموضوع الدعوة العام:
كان الانتقال من خطابِ أهلِ الكتابِ من أمة الدعوة إلى خطاب أهلِ القرآنِ من أمة الإجابة بذكر ما هو مشترك بين قوم سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ وقومِ سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نسب إبراهيم، والاتفاقِ على فضله وهدايته، وكان العربُ في الجاهلية يعترفون بذلك إجمالًا كالمسلمين، ثم بذكر أولِ مسألةٍ عمليةٍ اختلف فيها القومان وهي مسألة القِبلَةِ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى بمكة إلى الكعبة المشرفة من جهة الشمال حيث تكون بينه وبين بيت المقدس في بلاد الشام، وهو قبلة بني إسرائيل؛ فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمعُ بين استقبالِ الكعبة التي هي في جنوبها، وبيت المقدس الذي هو في شمالها، فأعطى الله تعالى خاتمَ رسلِه سؤلَه بأمره بالتوجه إلى الكعبة وحدها، ومسألةُ القبلةِ من شعائر الملةِ وخصائصِها الدينيةِ الاجتماعية، حتى إنَّ النصارى وهم في الأصل مع رسولهم (عيسى المسيح عليه السلام) من أتباع شريعة التوراة قد ميزوا أنفسهم دون اليهودِ بابتداع قبلةٍ خاصةٍ بهم غيرِ قبلةِ رسولهم الذي اتخذوه إلها لهم وهي صخرة بيت المقدس.
بعد تأكيد أمر القبلة، وأنه من إتمام النعمة على هذه الأمة بيَّنَ وظائفَ الرسول صلى الله عليه وسلم وهي كما في دعاء إبراهيم، وهي تربية الأمة، وتعليمُها الكتابةَ و الحكمةَ، ما لم تكنْ تعلمُ من القضاء والسياسة وأمور الدولة. فقال تعالى {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}[البقرة: 151] ثم أمرهم بذكره وشكره تعالى، وبالاستعانة بالصبر والصلاة على النهوض بمهمات الأمور، وذكر التطواف والسعي بين الصفا والمروة لمناسبة اقتضاها المقام، ولعن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى بعد تبيينه للناس في الكتاب، واستثنى من تاب وأصلح وبين وأناب، وسجَّل اللعنةَ على من مات على كفره، وكونَهم خالدين في النارِ لا يخفَّفُ عنهم العذابُ.
ثم ذكر الأساس الأعظم للدين، وهو توحيد الالهية[54]، بتخصيص الخالق سبحانه بالعبودية، وهو قوله تعالى {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمان الرحيم}[البقرة: 163] وقرن ذلك بالتذكير بآياته الكثيرةِ الدالة عليه في السموات والأرض وما بينهما ثم ذكر ما يقابل هذا التوحيد مقابلة التضاد، وهو الشرك باتخاذ الأنداد، والاعتماد فيه على تقليد الآباء والأجداد، وشنع على المقلدين والذين يدعون غير الله تعالى من المشركين. فجردهم من حلية العقل، وشبههم بالصم البكم العمي. وانتهى هذا بالآية (171).
ثم أوجب على المؤمنين الأكل من أجناس جميع الطيبات وأمرهم بالشكر له عليها، وحصر محرمات الطعام عليهم في الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، واستثنى من اضطر إليها، وإنما ذكر هذا في سياق كليات الدين المجملة لإبطال ما كان عليه المشركون وأهل الكتاب من التحليل والتحريم فيها الذي هو حق الله تعالى بتحكيم الأهواء، وقفى على هذا كله بوعيد الذين يكتمون ما أنزل الله، إيذانًا بوجوب الدعوةِ وبيانِ الحق على كل من آمن بالله، وتحذيرًا مما وقع بين أهل الكتاب من الاختلاف والشقاق والتحريف والنسيان لحظ عظيم مما أنزله الله.
وختم هذا السياق العام ببيان أصول البر ومجامعه في الآية المعجزة الجامعة لكليات العقائد والآداب والأعمال: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب – الخ}[البقرة: 176].
وقفى عليه بسياق طويل في الأحكام الشرعية الفرعية بدئ بأحكام القصاص في القتلى من آية (177) وانتهى بأحكام القتال وما تقتضيه من أمور الاجتماع وقواعده في آخر الجزء الثاني من تجزئة القرآن الثلاثينية وسنذكر أنواعها.
ثم عاد الكلام على بدئه في العقائد العامة من الرسالة والتوحيد وحججه والبعث، وفي الأحكام والآداب العامة التي هي سياج الدين ونظام الدنيا، ورأسها الإنفاق في سبيل الله، وهي طريق الحق والخير وسعادة الدارين، والإخلاص فيه وفي سائر الأعمال. ثم عاد إلى الأحكام الفرعية العملية إلى ما قبل ختم السورة كلها بالدعاء المعروف، وهاك بيان ما في السورة من أنواع أحكام الفروع العملية:
كانت الأحكام الشرعية العملية منها تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم عند استعداد الأمة لها بالنسبة إلى العبادات، وعند الحاجة إليها في العمل بالنسبة إلى المعاملات، والمذكور منها في سورة البقرة أنواع، نلخصها فيما يلي:
(1) إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بمدح أهلها في الآية 3 والأمر بهما في الآية 10.
(2) تحريم السحر، وكونه فتنة وكفرًا أو مستلزما للكفر.
(3) أحكام القصاص في القتلى وهو المساواة فيها وحكمته (آيتا 178و 179).
(4) الوصية للوالدين والأقربين (آيتا 181و 182).
(5) أحكام الصيام مفصلة وقد نزلت في السنة الثانية للهجرة (آيات 183- 187).
(6) تحريم أكل أموال الناس بالباطل والإدلاء بها إلى الحكام للاستعانة بهم على أكل فريق منها بالإثم كما هو الفاشي في هذه الأزمنة (آية 188).
(7) جعل الأشهر الهلالية هي المعتمد عليها في المواقيت الدينية للناس، ومنها الصيام والحج وعدة النساء ومدة الإيلاء (آية 189).
(8) أحكام القتال وكونُه ضرورة مقيدة بقتال من يقاتلنا ويهدد حرية ديننا دون غيرهم[55]، وبتحريم الاعتداء فيه، وغايته منع الفتنة في الدين وهو الإكراه فيه والتعذيب والإيذاء للصد عنه،ـ ـ، ومنه أحكام القتال في الشهر الحرام (آيات 190 – 195؛ 216- 218. ثم 224 – 252).
(9) الأمر بإنفاق المال في سبيل الله؛ لأنه وسيلة للوقاية من التهلكة، وهذا يتناول الإنفاق للاستعداد للقتال الذي يرجى أن يكون سببًا للسلم ومنع القتال، والسلامة من الهلاك، ويتناول غير ذلك كمنع العدوان العام والخاص، والنظم الضارة بالاجتماع (آية 195) ثم الأمر بالإنفاق لأجل السلامة من هلاك الآخرة (في الآية 254) ثم الترغيب في الإنفاق والوعد بمضاعفة الأجر عليه بسبعمائة ضعف وأكثر وبيان شرط قبوله وآدابه وضرب الأمثال للإخلاص وللرياء فيه في سياق طويل (من آية 196- 203).
(10) أحكام الحج والعمرة (من آية 196- 203).
(11) النفقات والمستحقون لها من الناس (210و 219و 273).
(12) تحريم الخمر والميسر تحريما ظنيا اجتهاديا راجحا غير قطعي تمهيدا للتحريم الصريح بالنص القطعي (219).
(13) معاملة اليتامى ومخالطتهم في المعيشة (220).
(14) تحريم نكاح المؤمنين المشركات، وإنكاح المشركين المؤمنات (221).
(15) تحريم إتيان النساء في المحيض وفي غير مكان الحرث ووجوب إتيانهن من حيث أمر الله بأي صفة كانت (222و 223).
(16) بعض أحكام الأيمان بالله، كجعلها مانعة من البر والتقوى والإصلاح، وعدم المؤاخذة بيمين اللغو (224و 225).
(17) حكم الإيلاء من النساء (226و 227).
(18) أحكام الزوجية من الطلاق والرضاعة والعدة وخطبة المعتدة ونفقتها ومتعة المطلقة (228 – 237 و 241).
(19) حظر الربا والأمر بترك ما بقي منه والاكتفاء برءوس الأموال منه وإيجاب إنظار المعسر، أي إمهاله إلى ميسرة (275 -280).
(20) أحكام الدين من كتابة وإشهاد وشهادة وحكم النساء والرجال فيها والرهان ووجوب أداء الأمانة وتحريم كتمان الشهادة (282و 283)” [56].
(21) خاتمة الأحكام العملية: الدعاء العظيم في خاتمة السورة.
2) قال ابن عاشور:
محتويات هذه السورة:
هذه السورة مترامية أطرافها، وأساليبها ذات أفنان، قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقا لتلقيبها فسطاط القرآن، فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسبان، وعلى الناظر أن يترقب تفاصيل منها فيما يأتي لنا من تفسيرها، ولكن هذا لا يحجم بنا عن التعرض إلى لائحات منها، وقد حيكت بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم الكلام، وسدى متين من فصاحة الكلمات.
ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين:
أ) قسم يُثبتُ سموَّ هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصولَ تطهيره النفوس.
ب) وقسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم.
وكان أسلوبها أحسنَ ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية، وأساليب الكتب التشريعية، وأساليب التذكير والموعظة، يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين، ويحضر لنا من أغراضها أنها ابتدأت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحديًا إجماليًا بحروف التهجي المفتتح بها رمزًا يقتضي استشرافهم لما يرد بعده وانتظارهم لبيان مقصده، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن فتحول الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشد وقع على نفوسهم فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله:
{وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} [البقرة: 23]، فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه، وتخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم هذا الكتاب وانتفاعهم بهديه أصنافا أربعة (وكانوا قبل الهجرة صنفين) بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي، وإذ قد كان أخص الأصناف انتفاعًا بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة- يعني المسلمين- ابتدئ بذكرهم، ولما كان أشد الأصناف عنادًا وحقدًا صنفي المشركين الصرحاء والمنافقين لُفَّ الفريقان لفًا واحدًا فقورعوا بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق تشويهًا لنفاقهم وإعلانًا لدخائلهم ورد مطاعنهم، ثم كان خاتمة ما قرعت به أنوفهم صريح التحدي الذي رمز إليه بدءًا تحديًا يلجئهم إلى الاستكانة ويخرس ألسنتهم عن التطاول والإبانة، ويلقي في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة وصدقَ الرسول الذي تحداهم، فكان ذلك من رد العجز على الصدر فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعًا، وتخلص إلى صفة بدءِ خلق الإنسان،فإن في ذلك تذكيرًا لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي قومِ نوحٍ ومن بعدهم، ومنةً على النوع بتفضيلِ أصلهم على مخلوقات هذا العالم، وبمزيته بعلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى، وكيف نشأت عداوة الشيطان له ولنسله، لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها ولمحاسبتها على دعواتها، فهذه المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريقَ الرابع، وهم أهل الكتاب الذين هم أشدُّ الناس مقاومةً لهديِ القرآن، وأنفذُ الفرقِ قولًا في عامة العرب لأن أهل الكتاب يومئذ هم أهل العلم، ومظنةُ اقتداءِ العامة لهم من قوله: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي} [البقرة: 40] الآياتِ، فأطنب في تذكيرهم بنعم الله وأيامه لهم، ووصف ما لاقوا به نعمه الجمة من الانحراف عن الصراط السوي انحرافًا بلغ بهم حدَّ الكفرِ وذلك جامع لخلاصة تكوين أمة إسرائيل وجامعتهم في عهد موسى، ثم ما كان من أهم أحداثهم مع الأنبياء الذين قفَّوا موسى إلى أن تلقوا دعوة الإسلام بالحسد والعداوة حتى على الملك جبريل، وبيان أخطائهم، لأن ذلك يلقي في النفوس شكًا في تأهلهم للاقتداء بهم.
وذكر من ذلك نموذجًا من أخلاقهم من تعلق الحياة:
{ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} [البقرة: 96]، ومحاولة العمل بالسحر {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} إلخ [البقرة: 102] وأذى النبي بموجَّهِ الكلامِ{لا تقولوا راعنا} [البقرة: 104].
ثم قُرِن اليهودُ والنصارى والمشركون في قرَن حسدهم المسلمين والسخط على الشريعة الجديدة: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين} إلى قوله: {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 105- 112]، ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود والنصارى وادعاء كل فريق أنه هو المحق: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} إلى يختلفون [البقرة: 113] ثم خص المشركين بأنهم أظلم هؤلاء الأصناف الثلاثة؛ لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام، وسعوا بذلك في خرابه، وأنهم تشابهوا في ذلك هم واليهود والنصارى واتحدوا في كراهية الإسلام.
وانتقل بهذه المناسبة إلى فضائل المسجد الحرام، وبانيه، ودعوته لذريته بالهدى، والاحتراز عن إجابتها في الذين كفروا منهم، وأن الإسلام على أساس ملة إبراهيم وهو التوحيد، وأن اليهودية والنصرانية ليستا ملة إبراهيم، وأن من ذلك الرجوع إلى استقبال الكعبة ادخره الله للمسلمين آية على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية، وذكر شعائر الله بمكة، وإبكات أهل الكتاب في طعنهم على تحويل القبلة، وأن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} [البقرة: 177]. وذكروا بنسخ الشرائع لصلاح الأمم، وأنه لا بدع في نسخ شريعة التوراة أو الإنجيل بما هو خير منهما.
ثم عاد إلى محاجة المشركين بالاستدلال بآثار صنعة الله: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك} إلخ [البقرة: 164]، ومحاجة المشركين في يوم يتبرأون فيه من قادتهم، وإبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل:
{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 172]، وقد كمل ذلك بذكر صنف من الناس قليل وهم المشركون الذين لم يظهروا الإسلام ولكنهم أظهروا مودة المسلمين: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا} [البقرة: 204].
ولما قضى حق ذلك كله بأبدع بيان وأوضح برهان، انتقل إلى قسم تشريعات الإسلام إجمالا بقوله: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} [البقرة: 177]، ثم تفصيل: القصاص، الوصية، الصيام، الاعتكاف، الحج، الجهاد، ونظام المعاشرة والعائلة، المعاملات المالية، والإنفاق في سبيل الله، والصدقات، والمسكرات، واليتامى، والمواريث، والبيوع والربا، والديون، والإشهاد، والرهن، والنكاح، وأحكام النساء، والعدة، والطلاق، والرضاع، والنفقات، والأيمان.
وختمت السورة بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية وذلك من جوامع الكلم فكان هذا الختام تذييلًا وفذلكة: {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} [البقرة: 284] الآيات.
وكانت في خلال ذلك كله أغراض شتى سبقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات تجديدًا لنشاط القارئ والسامع، كما يسفر وجه الشمس إثر نزول الغيوث الهوامع، وتخرج بوادر الزهر عقب الرعود القوارع، من تمجيد الله وصفاته: الله لا إله إلا هو [البقرة: 255] ورحمته وسماحة الإسلام، وضرب أمثال: أو كصيب [البقرة: 19] واستحضار نظائر: وإن من الحجارة [البقرة: 74]” [57].
قال مكارم الشيرازي[58]:
محتوى سورة البقرة:
هذه السّورة أطول سور القرآن، ومن المؤكد أنّها لم تنزل مرّة واحدة. بل في مناسبات عديدة، حسب متطلبات المجتمع الإسلامي في المدينة. وتتميز بشمولها لمبادئ العقيدة ولكثير من الأحكام العملية (العبادية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية). ففي هذه السّورة:
1 موضوعات حول التوحيد ومعرفة الخالق، عن طريق استنطاق أسرار الكون.
2 جولات في عالم المعاد والبعث والنشور مقرونة بأمثلة حسيّة، مثل قصّة إبراهيم (عليه السلام) وإحياء الطير، وقصّة عُزير(عليه السلام).
3 آيات ترتبط بإعجاز القرآن وأهمية كتاب الله العزيز.
4 سرد مطوّل حول وضع اليهود والمنافقين ومواقفهم المعادية للقرآن والإِسلام وشدّة ضررهم في هذا المجال.
5 استعراض لتاريخ الأنبياء، وخاصة إبراهيم وموسى (عليهما السلام).
6 بيان لأحكام إسلامية مختلفة مثل: الصلاة، والصوم، والجهاد، والحج، والقبلة، والزواج والطلاق، والتجارة والدَّين، والربا، والإنفاق، والقصاص، وتحريم بعض الأطعمة والأشربة، والقمار، وذكر نبذة من أحكام الوصية وأمثالها.

 

[1] التفسير الوسيط للقرآن الكريم/ محمد سيد طنطاوي/ دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع (1/ 27).
[2] (الموسوعة القرآنية، خصائص السور/ جعفر شرف الدين/ دار التقريب بين المذاهب الإسلامية – بيروت (1/ 51).
[3] (نحو تفسير موضوعي/ محمد الغزالي/ دار نهضة مصر (1/ 6).
[4] أكثر سورة ذكر فيها “الآخرة” سورة البقرة فقد وردت عشر مرات، وأكثر سورة ذكر فيها “اليوم الآخر” فقد ذكر سبع مرات، وأكثر سورة ذكر فيها الموت فقد ذكر خمس مرات. (دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها (ص31)
[5] وقد انتشر ذكر الغيب في السورة على نحو ظاهر؛ فلقد بدأت السورة بقوله تعالى: (ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة 1 – 3)،فكان أول صفات المتقين: الإيمان بالغيب، وفي قصة آدم عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى للملائكة {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:30].وفي {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة:32]، ثم يقول مرة أخرى: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة:33]،{وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة:72]،{أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}[البقرة:77]، و{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}[البقرة 255]،وفي شأن البعث قيل{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28]،{{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:46]،{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة:56]، {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[البقرة:73]… وكانت آخر آية نزلت:{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}[البقرة:281]. البلاغة العالية في آية المداينة/ د. سعيد جمعة (ص 11).
[6] قال الشيخ سعيد حوى: “والآن انتبه إلى الصلة بين آخر فقرة في سورة الفاتحة وبين أول آية في سورة البقرة تبدأ الفقرة الأخيرة في سورة الفاتحة بقول الله تعالى معلما لنا: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:6]… وتبدأ سورة البقرة بقول الله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}[البقرة: 1،2]، لاحظ الصلة بين اهْدِنَا وبين هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فبعد أن علمنا الله تعالى أن نطلب الهداية منه إلى الصراط المستقيم عرفنا على أن هذا القرآن هو محل الهدى، وهكذا نجد الصلة على أقواها بين خاتمة الفاتحة وبداية سورة البقرة “(الأساس في التفسير/ سعيد حوّى(1/ 50).
ومما يستأنس له بترجيح هذا الوجه ما قاله الآلوسي: “وأغرب ما رأيناه في توجيه الإشارة أنها إلى الصراط/ المستقيم في الفاتحة كأنهم لما سألوا الهداية لذلك قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب وهذا إن قبلته يتبين به وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد على أتم وجه وتكون الإشارة إلى ما سبق ذكره “. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني/ الآلوسي (1/ 108).
[7] قال الإمام فخر الدين الرازي: “((.. وَمن تَأمل فِي لطائف نظم هَذِه السُّورَة (سُورَة الْبَقَرَة)، وَفِي بَدَائِع تركيبها، علم أَن الْقُرْآن كَمَا هُوَ معجز بِحَسب فصاحة أَلْفَاظه، وَشرف مَعَانِيه، فَهُوَ أَيْضا معجز بِحَسب ترتيبه ونظم آيَاته، وَلَعَلَّ الَّذين قَالُوا إِنَّه معجز بِحَسب أسلوبه أَرَادوا ذَلِك، إِلَّا أَنِّي رَأَيْت جُمْهُور المفسِّرين معرضين عَن هَذِه اللطائف، غير منتبهين لهَذِهِ الْأُمُور.. وَلَيْسَ الْأَمر فِي هَذَا الْبَاب إِلَّا كَمَا قيل: والنجمُ تستصغرُ الْأَبْصَار رُؤْيَته… والذنبُ للطَّرف لَا للنجم فِي الصغرِ)). (مفاتيح الغيب = التفسير الكبير/ أبو عبد الله محمد بن عمر الملقب بفخر الدين الرازي/ دار إحياء التراث العربي (7/ 106).
[8] اسم السورة التوقيفي: سورة البقرة وقد ورد في أكثر من حديث صحيح منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «الآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ، مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» [صحيح البخاري، في المغازي، وفي فضائل القرآن، حديث رقم: 4008، وأخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة رقم 807]، ومنها ما ثبت في «الصحيحين» عن ابن مسعود: أنّه رمى الجمرة من بطن الوادي، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ثمّ قال: (هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة). أخرجه البخاري “3/ 580، 581″، ومسلم “1296/ 307، 308، 309”.
و “في “المستدرك» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنها سنام القرآن» وسنام كل شيء أعلاه وهذا ليس علما لها ولكنه وصف تشريف،”. [التحرير والتنوير/ابن عاشور (1/ 201). وكان خالد بن معدان (ت:103هـ) يسميها فسطاط القرآن قال المُناوي: “أي مدينته الجامعة لاشتمالها على أمهات الأحكام ومعظم أصول الدين وفروعه والإرشاد إلى كثير من مصالح العباد ونظام المعاش ونجاة المعاد”. (فيض القدير شرح الجامع الصغير/ زين الدين المناوي(4/ 149). وقال ابن عاشور: “والفسطاط ما يحيط بالمكان لإحاطتها بأحكام كثيرة”. [التحرير والتنوير/ابن عاشور(1/ 201)لكن هذا الاسم وصف للسورة، وليس من الأسماء التوقيفية.
[9] وقد ركزت السورة على هذا الأمر كثيرًا، لأنها أكبر سورة ذكرت فيها الأحكام فلا بد مع ذكر الأحكام من الحث على الاستسلام لها، وألا يفعلوا كما فعل بنو إسرائيل وإليك بعض الآيات في هذا:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}، {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)}، {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73)}،{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}، {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}، {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}، {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)}، {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}، {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}، {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}ينظر كتاب “من دلالات أسماء السور في القرآن الكريم /عيسى إبراهيم، محمود مهنا(ص24).
[10] قال طهماز “موضوع سورة البقرة الإسلام لله تعالى، بمعنى الاستسلام الكامل للأحكام القدرية والشرعية، والانقياد لها، هذا هو الموضوع الأساسي لسورة البقرة والتي دارت آياتها كلها في فلكه” “الإسلام لله تعالى في سورة البقرة / عبد الحميد طهماز ص(21)، وينظر من دلالات أسماء السور في القرآن الكريم /عيسى إبراهيم، ومحمود عبد الكريم مهنا(ص21).
وقال حسين فضل الله الشيعي: “وربَّما كان السرّ في التركيز على هذه القصة، هو إعطاء الأهمية لضرورة توفر روح الطاعة المطلقة، والتسليم الواعي للأوامر الصادرة من اللّه للنّاس بواسطة رسله، لدفعهم إلى أن ينظروا إليها نظرة احترام ومسؤولية في الفهم والممارسة؛ فلا يغرقوا في ضباب الاحتمالات المتنوّعة التي لا مجال لها من خلال مدلول الكلمة وجوّها الطبيعي. وبذلك يبتعدون عن الانحراف العملي في خطوات التشريع.
ولعلّ علاقتها بمضمون السورة تكمن في اعتبار اشتمالها على كثير من الأحكام الشرعية، التي تُلزم المؤمنين بامتثالها من دون اعتراض أو فضول لا معنى له، أمّا ارتباطها بمسيرتنا العملية العامة، فإنّها توجّه الإنسان المسلم إلى عدم الإكثار من الأسئلة حول المسؤوليات التي تناط به، إذا كانت التعليمات واضحة محدّدة في الجوانب الصريحة وفي الجوانب المطلقة؛ إذ يمكن للإنسان أن ينطلق معها بشكل طبيعي مركّز من دون سؤال، لأنه لو كان هناك حاجة إلى بيان زائد لَذُكِر”. “تفسير من وحي القرآن/ حسين فضل الله” (1/97) / دار الملاك للطباعة والنشر.
[11] وإليك بعض الآيات من سورة البقرة التي فيها الأمر الإيمان بالغيب: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}، {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة:28]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}[البقرة:243]، {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}. جاء في التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم: “والإيمان بالبعث بعد الموت من العلامات البارزة في محور السورة، وقد جاء في السورة عدة شواهد عملية على البعث بعد الموت، وهي إحياء بني إسرائيل بعد صعقهم، وإحياء الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فقال لهم الله موتوا، وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وبعدها قصة إبراهيم مع إحياء الطير، وهنا قصة إحياء القتيل. قال ابن تيمية: “فهذه خمس قصص في إحياء الآدميين، وقصة في إحياء البهائم، وقصة في إبقاء الطعام والشراب، وقصة في إحياء الطير” [درء تعارض العقل والنقل (4/60)، وهذا مرتبط بالإيمان بالغيب الذي جاء أول وصف للمتقين في السورة، ومرتبط أيضًا بالحديث عن بني إسرائيل الذين صبوا اهتمامهم على الماديات دون الأمور الغيبية. [التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم/ نخبة من العلماء (1/ 33).
[12] قال أبو زهرة: “لقد كان المصريون يعبدون العجل، ويقدسونه وقد أراد الله تعالى أن يقتلع من بني إسرائيل ما تأثروا به، وقد رأينا السامري أضلهم فعبده بعضهم، ولم ينههم سائرهم عن عبادته، فاشتركوا جميعا في هذا المنكر ـ ـ وإن الله تعالى قد اختبرهم ليزيل ما في نفوسهم من نزعة إلى تقديسه أو بقية من هذا التقديس فقال رسولهم الأمين القوي: “ونرى أن هذه الأوصاف في البقرة تشبه الأوصاف التي كان يذكرها قدماء المصريين في العجل الذي يعبدونه، فأتى الله سبحانه وتعالى بأوصافه، لتبين أنهم خلصوا من نفوسهم كل أوهام المصريين في البقر.
وقد يقال: إنه كان عجلا، ولم يكن بقرة، فنقول: إن بقرة مفرد لاسم جنس جمعي هو البقر، ويراد به الذكور والإناث، وإن طلب ذبح بقرة تتشابه في أوصافها مع أوصاف العجل الذي توهموا أنه يستحق أن يعبد، فيه اختبار شديد لهم، وحمل لهم على أن يخلعوا كل أوهام المصريين التي سرت إلى نفوسهم”. (زهرة التفاسير/ محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة (1/ 268). وجاء في التفسير الموضوعي في مناسبة اسم السورة لمحورها: قصة البقرة تكشف عدة قضايا أساسية لها تعلق قوي بمحور السورة منها: الحرص على نقاء العقيدة وعدم تقديس أيِّ معبود من دون الله تعالى، وبيان أن من طبيعتهم سفك الدماء والتنصل من الجريمة. [التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم / نخبة من العلماء (1/32).
[13] نظم الدرر / البقاعي (1/171).
[14] انظر التحرير والتنوير / ابن عاشور (1/528).
[15] يشير إلى ذلك قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:88]، {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}، {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}، {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}.
[16] نظم الدرر في تناسب الآي والسور (1/ 18).
[17] نظم الدرر في تناسب الآي والسور / للإمام برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي/ دار الكتب العلمية (1/24).
[18] تفسير القرآن المسمى “تبصير الرحمن وتيسير المنان /علي بن أحمد المهايمي / عالم الكتاب (1/32).
[19] من دلالات أسماء السور في القرآن الكريم /عيسى وادي، محمود مهنا (ص33).
[20] نظم الدرر في تناسب الآي والسور / للإمام برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي/ دار الكتب العلمية (1/24).
[21] البرهان في نظام القرآن في الفاتحة والبقرة وآل عمران/الدكتور محمد عناية الله أسد سبحاني/ ص431 ـ 436.
[22] أ. د. محمد عبد المنعم القيعي / الأصلان في علوم القرآن (238).
[23] الإسلام لله تعالى في سورة البقرة / عبد الحميد طهماز (ص21).
[24] تفهيم القرآن/ أبو الأعلى المودودي/دار القلم/تعريب أحمد إدريس / الطبعة الأولى،ص43.وزاد قائلًا: إن الحديث يهدف إلى دعوة أتباع الأنبياء السابقين (اليهود والنصارى) ـ الذين كانوا لا يزالون في عجز عن إصلاح أنفسهم ـ إلى فهم رسالة سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقبولها، ولهذا فقد أخبرهم الله تعالى فيه بأن رسالة القرآن هي عين رسالة الكتب التي نزلت على الأنبياء فكأن هذا الخطاب يقصد أن يقول لهم: لقد أسندت إليكم هذه المهمة أول الأمر لكي تنفذوها وتدعوا العالم لقبولها والإيمان بها لكنكم طرحتم هداية الله تعالى وتدليتم إلى أعماق الانحطاط، وما تاريخ أمتكم الماضي وانحطاطها الخلقي والديني الراهن سوى خير شاهد عليكم، وها هو عبد آخر من عباد الله أرسله بنفس الرسالة و لتنفيذ المهمة أيضًا، وليس في هذه شيء غريب أو جديد عليكم، فينبغي إذن ألا تعارضوا الحق وأنتم تعلمونه، وخير لكم أن تؤمنوا به، وتتعاونوا مع من يؤمنون بنفس ما أرسل إليكم من قبل….رغم أن هذا الخطاب موجه إلى اليهود بذاتهم، إلا أنه قصد به كذلك تحذير المسلمين من السقوط فيما سقط فيه أتباع الأنبياء السابقين، وهذا هو سبب إشارة القرآن فيه إلى انحطاطات اليهود الخلقية وإيراد تصوراتهم المستغربة وأفكارهم الخاطئة عن الدين، وذكر طرقهم الضالة في التفكير وأساليبهم الساقطة في العيش والحياة واحدة بواحدة… كذلك يرمي هذا الخطاب إلى مناقشة اليهود والبرهنة على فسادهم وكشف انحطاطهم الديني والخلقي، لذا نرى آياته تثبت إثباتًا قاطعًا خطأ موقفهم من الإسلام حين كانوا يعارضونه مع أنهم كانوا يعترفون في الوقت نفسه بأن مبادئه وأسسه هي بالفعل عين مبادئ دينهم، وأن القرآن الكريم ليس فيه ما يخالف التورة أو يعارض تعالمها من حيث المبدأ.
كما أن هذا الخطاب يبين أيضًا أن اليهود فشلوا تمامًا في اتباع ما أعطاهم الله تعالى من هداية، وأخفقوا كل الإخفاق في القيام بمسؤوليات وواجبات الزعامة التي أسندت إليهم، ولإثبات هذا سيقت حوادث من تاريخهم وقصصهم لا يستطيعون لها إنكارًا أو رفضًا.
فلقد أنعم الله تعالى على بني إسرائيل بالنبوة والكتاب، وجعلهم للناس إمامًا وأسند إليهم لواء الزعامة لهداية البشرية أجمعين، لكنهم حرموا أنفسهم نعمة الزعامة بدخولهم في مداخل السوء، وسقوطهم في قذارة النزوات والرغبات الدنيوية وجنوحهم إلى النفاق وفعل الشر والمعرفة الزائفة. (تفهم القرآن/ المودودي” تفهم القرآن ص67، 68، ص142).
وقد ذكر سيد قطب ما يوافق كلام المودودي عن بني إسرائيل في سورة المائدة حيث قال:” ومن جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل دين اللّه الأخير. وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة من التاريخ طويلة ووقعت الانحرافات في عقيدتهم ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق اللّه معهم ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف، كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم.. فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة – وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها – بتاريخ القوم، وتقلبات هذا التاريخ وتعرف مزالق الطريق، وعواقبها ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم، لتضم هذه التجربة في حقل العقيدة والحياة – إلى حصيلة تجاربها وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون. ولتتقي – بصفة خاصة – مزالق الطريق، ومداخل الشيطان، وبوادر الانحراف، على هدى التجارب الأولى. (في ظلال القرآن/ سيد قطب (2/ 868).
[25] من قوله “وهذه السورة الكريمة…الخ: هو نقل لكلام الدكتور محمد عبد الله دراز: حيث قال في النبأ العظيم:”نظام عقد المعاني في سورة البقرة إجمالًا وتفصيلًا:
اعلم أن هذه السورة على طولها تتألف وحدتها من: مقدمة، وأربعة مقاصد، وخاتمة. على هذا الترتيب:
“المقدمة” في التعريف بشأن هذا القرآن، وبيان أن ما فيه من الهداية قد بلغ حدًّا من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم. وإنما يعرض عنه من لا قلب له، أو من كان في قلبه مرض (1ـ 20).
“المقصد الأول” في دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام. (25ـ 39).
“المقصد الثاني” في دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول في هذا الدين الحق. (40ـ 162).
“المقصد الثالث” في عرض شرائع هذا الدين تفصيلًا. “المقصد الرابع” ذكر الوازع والنازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع وينهى عن مخالفتها. (178ـ 283).
“الخاتمة” في التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد وبيان ما يرجى لهم في آجلهم وعاجلهم. (285ـ 286). (النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم/ محمد بن عبد الله دراز/ دار القلم للنشر والتوزيع (ص 197).
[26] البرهان في تناسب سور القرآن/ أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الغرناطي، أبو جعفر/ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ المغرب (ص88). وقد قال أيضًا مبينًا المناسبة بين افتتاحية السورة وخاتمتها: “ولما بين سبحانه أن الكتاب هو الصراط المستقيم، وذكر افتراق الأمم كما يشاء، وأحوال الزائغين والمتنكبين تحذيرًا من حالهم، ونهيًا عن مرتكبهم، وحصر قبيل المتروك بجملته وانحصار التاركين، وأعقب بذكر مستلزمات المتقين وما ينبغي لهم امتثاله والأخذ به من الأوامر والأحكام والحدود، أعقب ذلك بأن المرء ينبغي أن ينطوي على ذلك ويسلم الأمر لمالكه فقال تعالى: “آمن الرسول ” فأعلم أن هذا إيمان الرسول ومن كان معه على إيمانه وأنهم قالوا: “سمعنا وأطعنا” لا كقول بني إسرائيل “سمعنا عصينا” وأنه أثابهم على إيمانهم برفع الإصر والمشقة والمؤاخذة بالخطأ والنسيان عنهم فقال: “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فحصل من السورة بأسرها بيان..الخ”. [البرهان في تناسب سور القرآن / أبو جعفر بن الزبير (ص88).
[27] دَلَائِل النظام/ الفراهي 93.
[28] فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) / شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيب / الناشر: جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم (3/ 192).
[29]التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد» / محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (1/ 203).
[30] تفسير الميزان/ الطباطبائي (1/41).
[31] نقله د. سعيد جمعة عن شيخه في “كتاب البلاغة العالية في آية المداينة (7)”.
[32] صفوة التفاسير/ محمد علي الصابوني (1/23).
[33] التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج/ د وهبة بن مصطفى الزحيلي/ دار الفكر المعاصر – دمشق (1/ 70).
[34] مقاصد السور وأثر ذلك في فهم التفسير/ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (17).
[35] وقال جاء فيه أيضًا يكاد يتفق جمهور المعاصرين على أن محور السورة يدور حول الخلافة في الأرض ومقوماتها وأهلها، وهذا يتفق مع مضمون السورة إلى حد كبير؛ ولذلك تواطأ عليه بعض القدامى وجمهرة المعاصرين؛ ذلك أن السورة استفتحت بالحديث عن القرآن موقف الناس حياله، ثم تحدثت بعد ذلك عن خلافة آدم، وتحدثت حديثًا مطولًا عن بني إسرائيل وذكرت طرفًا من مثالبهم، مما كان داعيًا إلى ألا ينالوا عهد الله، ثم انتقل الحديث إلى المسلمين ليخاطبهم بموجبات الخلافة ومما سبق وباستعراض أقوال العلماء وتدبر السورة وموضوعاتها نستطيع أن نقول: محور السورة يدور حول “منهج خلافة الله في الأرض بين من أضاعوه ومن أقاموه”، وهذا المحور يتناسب مع موضوعات السورة، ومع ملابسات نزولها؛فسورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة كما سلف، وقد صار للمسلمين عندئذ دولة وأرض، فناسب أن يخاطبوا لوراثة الاستخلاف الإلهي لهم، والناظر في السورة الكريمة يجد أن خطابها وموضوعاتها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: خطاب لليهود أو عن اليهود وهذا يمثل الشطر الأول في السورة تقريبًا.
القسم الثاني: يتوجه للمسلمين بالخطاب ويكلفهم بجملة من أحكام العبادات والمعاملات المالية والأسرية والدولية، ثم تتوجه السورة بختامها العظيم الذي يبين استجابة المؤمنين لأمر ربهم، وتضرعهم له أن يتم عليهم أمرهم في خاصة شؤونهم وعامها.
والذي استخلصه من كلام أهل العلم ومن التدبر مليًا في السورة أن عنوانها السابق ينتظمه محوران مع مقدمة وخاتمة، أما المقدمة فتشمل مقصدين مترابطين:
يتحدث المقصد الأول عن هداية القرآن الكريم، وموقف الناس منها، وهذا المقصد يتحدث أولًا عن المنهج، وانقسام الناس حياله.
وجاء المقصد الثاني في المقدمة؛ ليتحدث عن الأمر للناس باتباع المنهج، وليذكرهم بأصوله وغاياته، وليضرب لهم نموذج الاستخلاف الأول في الكون.
1) وكان المحور الأول بعنوان: بنو إسرائيل ومبررات عزلهم عن القوامة والخلافة.
وفيه مقدمة وأربعة مقاطع:
والمقدمة بعنوان: (تذكير وعتاب) [40ـ 48] ذكَّرت بني إسرائيل بنسبهم الكريم، وبنعمة الله عليه، ثم بينت لهم العهد الذي أخذه الله تعالى عليهم، وعاتبتهم على أمرهم الناس بالبر ونسيانهم أنفسهم، وذكرتهم ثانية بالنعم، ثم حذرتهم من يوم القيامة، وكل هذا تذكير لهم وعتاب.
أ) والمقطع الأول: عنوانه (أحوال بني إسرائيل مع موسى عليه السلام) [49ـ 79]، وفيه تفاصيل نعم الله تعالى عليهم وقت أن كانوا في مقصر وبعد أن خرجوا منها، وجاءت النعم مفصلة على قسمين: حسية بالإنجاء، ومعنوية بقبول التوبة، ثم عاد إلى ذكر النعم الحسية من الطعام والشراب وعقب بذكر مخالفاتهم من الاعتداء في السبت وقصة البقرة وما حدث فيها من مخالفات، ثم اختتم المقطع بذكر عاقبة أعمالهم وهي قسوة قلوبهم.
ب) وجاء المقطع الثاني: ليتحدث عن (مواقف اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم [75ـ 123].
وجاء في أوله تيئيس المسلمين من إيمانهم بسبب ما كان منهم قديمًا وما يكون منهم بعد ذلك؛ فذكرت الآيات كثيرًا من أخلاقهم، وردت عليهم افتراءاتهم، وبينت حقدهم وحسدهم، ثم ختم المقطع بدعوتهم إلى الإيمان بأسلوب هادئ يجذب مشاعرهم.
ج) وتحدث المقطع الثالث: (عند دعوة إبراهيم وتبرؤها من ادعاءات السابقين) [124ـ 141].
وتحدث عن إمامة إبراهيم عليه السلام، وأبطل حجتهم في الانتساب إليه؛ لأنه ليس مجرد نسب مادي بل هو نسب روحي، وما كان إبراهيم عليه السلام إلا مسلمًا، وما أوصى ذريته إلا بالإسلام، وكذلك يعقوب، فهم بريئون ممن كان على غير الإسلام، فإذا أردتم أن تتبعوهم فادخلوا في الإٍسلام، وتحدث المقطع عن بناء الكعبة وما صحب ذلك من دعوات خاشعة تمهيدًا لما سيأتي بعد.
د) أما المقطع الرابع فعنوانه (انتقال القبلة والإمامة في الدين لأمة سيد المرسلين) [142ـ 162]” وتحدث عن تحويل القبلة، وبينت الآيات أن تحويل القبلة إيذان بتحويل الخلافة لأهلها المستحقين لها، وقد ردت الآيات على شبهات اليهود وأبطلتها كلها، وقوَّت قلوب المؤمنين ومهدت لهم طريق المواجهة، ثم انتقل آخر المقطع لخطاب المؤمنين وإعدادهم لحمل الأمانة الكبرى بالجهاد والصبر، وبينت لهم أن الصَّدَّ ليس عن المسجد الحرام وإنما عما حوله أيضًا كشعائر الحج.
2) المحور الثاني: مقومات استحقاق أمة الإسلام للقوامة والخلافة.
انتقل الحديث في المحور الثاني لمخاطبة المؤمنين وتكليفهم لحمل الأمانة العظمى في الكون، وقد تدرج هذا المقطع في خطاب المسلمين تدرجًا حكيمًا نعرفه من مطالعة مقاطع هذا المحور:
فابتدأ المقطع بتمهيد يعد مدخلًا اعتقاديًا يربط المسلمين بالتوحيد، ثم تحدث عن تخليص منهج التلقي لله تعالى رب العالمين، وذلك ببيان أنه وحده المتفرد بالتحليل والتحريم مع ذكر أمثلة على ضلال السابقين في هذا الجانب، وبهذا تهيأت النفوس لتلقي الأوامر فجاءت آية البر التي كشفت ضلال السابقين، وأنارت طريق الهداية للمسلمين.
ثم جاءت تفاصيل هذا المحور في ستة مقاطع وهاك بيانها بإيجاز:
المقطع الأول: تفصيل بعض أمور البر [178ـ 203].
المقطع الثاني: نماذج بشرية ومواعظ إلهية [204ـ 220].
المقطع الثالث: تفاصيل أحكام الأسرة [221ـ 242].
المقطع الرابع: قصص الإحياء والإماتة والعبرة منها [243ـ 260].
المقطع الخامس: الإنفاق؛ آدابه والمستحقون له. [261ـ 274].
المقطع السادس: حفظ الأموال عن الحرام وعن الإضاعة [275ـ 283]. وهذه التكاليف بها صلاح الأمة وصلاح الدنيا، ثم جاءت خاتمة السورة، وفيها رد لآخرها على أولها، والشهادة للأمة بالإيمان واللجوء إلى الله تعالى”.
(التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم / اعداد نخبة من علماء التفسير وعلوم القرآن / جامعة الشارقة (1/28 ـ 31).
[36] بحث المناسبة وأثرها / مصطفى مسلم، ص18.
[37] التفسير الموضوعي بين النظرية والتطبيق (ص73).
[38] لمسات بيانية / محاضرات ألقاها الدكتور فاضل السامرائي مع المقدم د. حسام النعيمي (ص11).
[39] رسالة ماجستير “التناسب في سورة البقرة”/ طارق مصطفى محمد حميدة/ بكالوريوس أصول الدين من الجامعة الأردنية/ عمان/بإشراف الدكتور حاتم جلال التميمي/ قُدمت هذه الرسالة استكمالاً لمتطلبات درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية المعاصرة.، ص 6. يقول علي هاني القول بأن موضوع سورة البقرة الخلافة، وهذا رأي كثير ممن يدرس في الجامعة الأردنية كأستاذنا الفاضل الدكتور أحمد نوفل.
[40] خواطر قرآنية (نظرات في أهداف سور القرآن/ عمرو خالد (ص25).
[41] الخرائط الذهنية لسور القرآن الكريم/صفية عبد الرحمن السحيباني(ص1)..
[42] أول مرة أتدبر القرآن/ عادل محمد خليل (28).
[43] تراث أبي الحسن الْحَرَالِّي المراكشي في التفسير (ص 490)، نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور/ الإمام / برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي (1/ 804)
[44] في ظلال القرآن/ سيد قطب (1/ 28).
[45] تفسير القرآن الكريم /محمود شلتوت (45، 46).
[46] المختصر في تفسير القرآن الكريم / جماعة من علماء التفسير /مركز تفسير للدراسات القرآنية (ص2). ويلاحظ أن هذا القول جمع بين ما قاله القسم الرابع والقسم الثاني.
[47] مباحث في التفسير الموضوعي/د. مصطفى مسلم/ دار القلم (ص 48).
[48] الأقوال الحسان في حسن نظم القرآن/عبد المتعال الصعيدي/المطبعة العمومية (ص17)، وقوله هذا استقاه من محمد رشيد رضا حيث قال: “سورة البقرة أجمع سور القرآن لأصول الإسلام وفروعه، ففيها بيان التوحيد والبعث والرسالة العامة والخاصة وأركان الإسلام العملية، وبيان الخلق والتكوين وبيان أحوال أهل الكتاب والمشركين والمنافقين في دعوة القرآن، ومحاجة الجميع وبيان أحكام المعاملات المالية والقتال والزوجية، والسور الطوال التي بعدها متممة لما فيها، فالثلاث الأولى منها مفصلة لكل ما يتعلق بأهل الكتاب، ولكن البقرة أطالت في محاجة اليهود خاصة، وسورة آل عمران أطالت في محاجة النصارى في نصفها الأول”.(تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)/ محمد رشيد رضا (7/ 240).
[49] محور الوحدة الموضوعية لسورة البقرة/د. حسين بن علي الزومي/مجلة جامعة المدينة العالمية (ص259/260).
[50] البلاغة العالية في آية المداينة/ د. سعيد جمعة (7).
[51] العزفُ على أنوار الذِّكر/ محمود توفيق محمد سعد (46).
[52] أرشيف ملتقى أهل التفسير 12752.
[53] ينظر بحث علي هاني في تفسير قصة آدم عليه السلام فقد لخص فيه جميع الأقوال في معنى {خليفة) مبينًا أدلة كل قسم والراجح عنده.
[54] يقول علي هاني: تقسيم التوحيد إلى توحيد ألوهية وربوبية وأسماء وصفات فيهنظر،، قد فنده كثير من المحققين.
[55] قد علق سماحة الشيخ أحمد حمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان على كلام المنار هنا وفي القواعد التي ذكرتها سورة البقرة فقال بعد ذكر كلام المنار: وأقول: إن هذه القواعد التي انتزعها من السورة فأوردها في مقدمة تفسيرها، قواعد مهمة جدًا، غير أني أرى لزوم الوقوف عند بعضها لإعادة النظر فيها، وهي الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، والعشرون، والحادية والعشرون، والثالثة والثلاثون. ـ ـ وأما في القاعدتين العشرين والحادية والعشرين، فقد أطلق القول بحرية الأديان وحصر الجهاد في بعض المصالح، ولم يذكر منها نشر دعوة الإسلام. ونحن نوافقه على أن الإسلام انتشر بالإقناع لا بالإكراه، فإنه دين الفطرة الذي لا ينبو عنه عقل سليم، ولا يصطدم مع طبع مستقيم، ووضوح حجته، ونصوص برهانه، وبساطة تعاليمه، وسماحة أحكامه كفيلة بإشعاع نوره على العقول المبصرة، ولكنا مع ذلك نرفض كل الرفض دعوى أن الجهاد في الإسلام محصور في الدفاع عنه، وحماية أتباعه وأوطانهم، فإن هذه فكرة استشراقية تلقاها كثير من المفكرين الإسلاميين بالقبول كرد فعل لما أشاعه المستشرقون السابقون من أن الإسلام دين إرهاب، وأنه فرض على الناس بالحديد والنار، وكان لهذه الفرية أثر بالغ في بلبلة الضعفاء من المسلمين، فحاولوا أن يجدوا ما يدفعون به عن دينهم وأنفسهم سوء الأحدوثة الناتج عن هذه الفرية، وبينما هم في هذا الاضطراب إذ طلع عليهم جماعة من دهاة المستشرقين، كتوماس أرنولد، صاحب كتاب “الدعوة إلى الإسلام” بفكرة معاكسة ملخصها أن الإسلام دين الحرية، لا يعارض أحدًا في معتقده، ولا يمانع إنسانًا مما يميل إليه طبعه، وتهواه نفسه، وهو دين مسالمة لا يأمر بالجهاد إلا لصد عدوان.
وما الهدف من ذلك إلا تجميد حركة الإسلام وإضعاف الدعوة إليه، ومع الأسف الشديد لقيت هذه الفكرة قبولًا في الأوساط الإسلامية ورواجًا في سوق الكتاب حتى صار من خالفها معرضًا للنقد والاستخفاف، خصوصًا عند تلامذة المستشرقين الذين يتقصمون الفقه في الدين وهم عُمي عنه أو متعامون، وقد أفضى الحال بأحد هؤلاء أنه ألقى محاضرة في الجهاد أمام حاكم بلاده وجمٍّ غفير من المستمعين، جاء فيها: إن الإسلام ما جاء إلا لتأمين حريات الناس في المعتقد والسلوك، وهو كلام يترتب عليه إلغاء الأحكام الشرعية، وتحطيم القيود الخلقية والاجتماعية التي فرضها الدين والعقل، إذ لا معنى لحد الزاني أو الشارب مثلًا ما دام لكل أحد في الإسلام حريته المطلقة، في سلوكه الفردي أو الاجتماعي، فضلًا عما يقتضيه كلامه من تجميد حركة الدعوة الإسلامية، لمصادمتها حريات الناس في معتقداتهم، ونحن إن أسفنا لمثل صاحب المنار- في سعة أفقه وغزارة علمه، ونبل قصده- أن تطلى عليه هذه الخدعة الاستشراقية، وأن يسلم لهذا المنطق المضطرب.
والقول الفصل الذي تدل عليه النصوص ويشهد بصحته التاريخ أن الإسلام وصل إلى عقول الناس بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان، ولكن السيف كان عاملًا مهما في تذليل العقبات في طريقه، وفتح الأبواب الموصدة بين يديه، فإن طواغيت الكفر- الذين سيطروا على حياة الناس الخاصة والعامة، وجعلوا من أنفسهم آلهة تعبد، لهم مطلق الأمر والنهي في العباد والبلاد- لم تكن نفوسهم لتسمح بفتح الأبواب أمام الدعوة الإسلامية حتى تشق طريقها إلى عقول الجماهير الذين استعبدوهم، ونفوس المستضعفين الذين استذلوهم، فكان الواجب أولا يقتضي أن يقضي على سلطة هؤلاء المتكبرين، لتجد الدعوة الإسلامية الباب مفتوحا بين يديها.
ولو أن هذا الدين انتشر بالإرهاب كما يزعم أعداؤه، لانحسر مع انحسار قوته وتلاشى بارتفاع الإرهاب كما هو شأن جميع المبادئ التي فرضت على الناس بالقوة والبطش، فهذه الشيوعية التي هي أشد المبادئ قسوة، وأكثرها مصادرة لحريات الناس، لا يكاد إرهابها يرتفع من أرض إلا ويتنفس أهلها الصعداء، ويعلنون مساوئها على رؤوس الأشهاد، بينما بلاد الإسلام وإن احتلتها قوى معادية له، وانحسر نفوذه فإن عقيدته تبقى في نفوس أتباعه، وقد تتزلزل أحيانا نتيجة عواصف الأحداث التي تتعاقب عليها، ولكن لا تلبث أن تعود إلى استقرارها.
هذا وليس من المقبول منطقيًا أن تكون الغزوات الإسلامية لمجرد صد عدوان على بلاد الإسلام أو رجاله، ولو كان الأمر كما يقولون لما كان داع لتجهيز الجيوش الإسلامية إلى امبراطوريتي فارس والروم؛ إذ لم يسبق لهاتين الامبراطوريتين اعتداء على الدولة الإسلامية، أو على رجالها في جزيرة العرب، اللهم إلا ما كان من قتل قيصر الروم أحد رسل النبي صلى الله عليه وسلم، الذي ترتبت عليه معركة مؤته الشهيرة.
وليت شعري ما الداعي- لو كان الجهاد محصورًا في الدفاع- أن يكلف المسلمون أنفسهم الشطط فيدفعوا بأعز رجالهم إلى وطيس المعارك، حتى يصلوا إلى المحيط الأطلسي، ويبلغ بأحد قادتهم في الحروب أن يخوض بقوائم جواده عباب المحيط وهو يناديه قائلا: والله لو كنت أعلم أن خلفك أرضًا لخضتك مجاهدًا في سبيل الله. فهل يعني ذلك أن خوضه لدفع عدوان من خلف المحيط على الدولة الإسلامية، أو لأجل بث دعوة الحق في الأرض؟.
والآيات التي استند إليها صاحب المنار لا تدل بحال على صحة الفكرة التي انتهجها، بل منها ما يدل على خلافها، فقوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله..)[البقرة:193] دليله واضح على أن الجهاد شرع لرفع راية الحق ونشر عقيدة الإسلام، إذ ليس من المعقول أن يكون الدين لله مع تقديس الأوثان وعبادة الأصنام، واتخاذ الأنداد لله سبحانه، أو مع التجرد من الدين، واتباع المعتقدات الإلحادية، وفي معنى الآية حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- عند الشيخين: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله” وهو نص ليس عليه غبار في مشروعية الجهاد لأجل نشر الدين، ويؤيده قوله سبحانه: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) [التوبة:5].
وهل لله سبحانه دين غير الإسلام مع قوله: (إن الدين عند الله الإسلام)[آل عمران 19]، وإذا كان هذا حكم الجهاد بالنظر إلى الطبقة الحاكمة من الكفار الحائلة دون انتشاره بجبروتهم وسلطانهم، فإن حكم العامة يختلف باختلاف معتقداتهم، فأهل الكتاب- وهم اليهود والنصارى- يدعون إلى قبول الإسلام، وتشرح لهم معتقداته، وأحكامه، وتوضح لهم براهينه وحججه، فإن رفضوه أخذت منهم الجزية وكانوا في ذمة المسلمين يتمتعون معهم بحق المواطنة، وينعمون بالأمن والاطمئنان شريطة رضوخهم لحكم الإسلام، وقبولهم أداء الجزية، وهذا التمييز لهم لأجل ما تبقى بأيديهم من الكتاب وإن حرفوه بافتراءاتهم المزورة، وتأويلاتهم الفاسدة، وفي حكمهم المجوس، والصابئون.
وأما غير هؤلاء من المشركين فلا يقرون على عبادة الأوثان وممارسة طقوسهم الدينية التي لا تمت بصلة إلى تعاليم الإسلام، وهؤلاء هم المعنيون في قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله)(4)، وأما الفريق الأول فهم المقصودون في قوله عز وجل: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)(5) (جَواهِرُ التفسير/سماحة لمفتي العام لسلطنة عمان أحمد بن حمد الخليلي الإباضي/طباعة وزارة الأوقاف (2/ 39ـ 43).
[56] تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)/محمد رشيد بن علي رضا (1/ 88ـ 92).
[57] التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد» / محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي/ مؤسسة التاريخ (1/200ـ 203).
[58] تفسير الأمثل/ مكارم الشيرازي الشيعي/كمؤسسة الأعلمي للمطبوعات (1/47).