المبحث الثاني من الفرق بين «بعد» و«من بعد» في اللفظ القرآني، بحث تفصيلي للشيخ علي هاني

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المبحث الثاني: ذكر المعاني المفردة لـ(من) الواردة في القرآن الكريم واللغة[1] :
(من) تفيد أكثر من معنى في وقت واحد وهذا ما سأذكره في المبحث الثالث، وقبل ذلك سأذكر المعاني المفردة التي ذكرها العلماء ونصوصهم أنقلها في الهامش:
1) المعنى الأول:
الابتداء [2]: بيان مبدأ وجهة حصول الفعل ونحوه:، أي:أن الشيء مبتدئ من كذا [3]، لذلك يغلب أن تسبق بفعل تكون هي ابتداء له أو ما يقوم مقام الفعل نحو {لهم} أي كائن، مستقر، استقر [4]، كما في كما في {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم}{لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}[5]
2) المعنى الثاني: القرب مع الابتداء، تفيد مع الابتداء القرب في أول أزمنة القبلية أو البعيدة ونحوها بلا فاصل من قبل مباشرة أو بعد مباشرة، وهذا المعنى مأخوذ من الابتداء لأنها لابتداء الغاية في أول أزمنة القبلية أو البعدية ونحوها، فإذا قلت: جاء زيد من بعد عمرو فالمعنى جاء عقبه في أول أزمنة البعدية، كأن الشخص بادر من أول مجرورها وانطلق منه فعمل العمل أي بادروا في أول أزمنة البعدية أو بادروا في أول أزمنة البعدية أو الشيء يبتدئ من أول أزمنة القبلية وأول أزمنة البعدية.

نص على هذا المعنى ابن عرفة [6] والبقاعي [7] وابن جماعة [8] والسامرائي [9] وكذا أبو حيان [10] في بعض المواضع والسيوطي [11] في معترك الأقران، وابن هشام في المغني [12] ، والسامرائي [13] وابن عاشور [14].
3) المعنى الثالث: البدء من أول لحظة مع الاستيعاب والعموم [15]:
ذكر (من) يفيد الاستيعاب مع التأكيد فهو يفيد الابتداء من بعد زمن الظرف أو من قبله مباشرة من غير فاصل، مستغرقا جميع الوقت الذي قبل أو بعد المضاف إليها، نحو {من أول} {من قبل} {من بعد} والظروف إذا حدّت حقّقت، فكأنه يفيد الابتداء والانتهاء كما نص بعض العلماء لكن دلالته على الانتهاء ليس من وضع (من) بل من السياق [16] وفحوى الكلام، و(من) لابتداء الغاية فـ(من) تفيد الابتداء والتوكيد، وتستوعب بذكر طرفيه ابتداءه وانتهاءه، فأنت حين تقول ذهبت إلى الحقل من أول اليوم عنيت أن ذهابك كان جد مبكر بحيث بدأ ببداية أول اليوم دون أن تنصرم منه لحظة من لحظاته، مبالغة في أن جزءا ولو ليسيرا من الوقت لم يفتك، وإذا قلت ذهبت إلى الحقل أول اليوم أفدت التبكير نعم لكنك لم تستوعب لحظات اليوم من بداية ما يقال له أول.
نص عليه ابن عاشور [17] ومحمد الأمين الخضري [18] والإسكافي في درة التنزيل [19] ، والفيروزآبادي [20] ، والنيسابوري [21] ، وابن عرفة [22] ، والبقاعي [23] ، والسامرائي [24] ، ونص عليه جماعة من البصريين[25].
المعنى الرابع: التوكيد، ذكر (من) يفيد التوكيد، ويشهد له آيات القرآن الكريم، ويزيد معنى التوكيد الإقلاب بين من وبعد [26] ، ونص عليه كثير من العلماء في التفريق بين عدة آيات [27] ، وهناك توكيد عام يجتمع مع كل المعاني السابقة ونوع خاص يفيد معنى الاشتراط وأن ما بعدها لا يمكن أن يحصل إلا بحصول مجرورها أو أنه ما حصل إلا بحصول أمر معين قطعا.وهو مذهب ابن مالك [28] في (من) الداخلة على الظروف، وهو ظاهر كلام الدماميني في شرح التسهيل، ونص عليه ابن عاشور [29] ، وأبو جعفر بن الزبير [30] والجوهري، والنيسابوري [31] ، والطبرسي [32] ، وابن عرفة [33] ، والآلوسي في بعض المواضع [34].
يقول علي هاني: من في الحقيقة الآيات التي مثلت للتأكيد تفيد ثلاثة أمور: ابتداء الغاية والتأكيد وأن الأمر موقوف على تحقق شيء عندها يتحقق شيء آخر
المعنى الخامس: ذكر جماعة من العلماء اجتماع أكثر من معنى:
الحالة الأولى:الابتداء والقرب والتأكيد:
قال ابن عرفة: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) وأدخل (مِن) لابتداء الغاية إشارة إلى تأكيد الوعظ والإنذار والمبادرة به في أول أزمنته القبلية [35].
يقول علي هاني: هذا المعنى داخل في المعنى الثاني لكن أفردته لأنه قد نص فيه على المعاني الثلاثة.
الحالة الثانية: القرب مع التبعيض:
قال البقاعي عند تفسير: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}ولما أفاد بأداة الاستعلاء عظمة الأمن، وكان متصلاً بالغم ولم يستغرق زمن ما بعده أثبت الجار فقال: {من بعد الغم}.
وقال البقاعي: {من قبلك}: أي في الأزمنة السالفة حتى القريبة منك جداً، فإن التسلية بالأقرب أعظم، وأثبت الجار لأن الإرسال بالفعل لم يعم جميع الأزمنة
4) المعنى السادس التبعيض: لما أنهم يقولون جلس من بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفِه لأن الفعل إنما يقع في بعض تَيْنِك الجهتين كما تقول جئتُه من الليل تريد بعضَ الليل
حمل البقاعي معظم آيات (من بعد) و(من قبل) على التبعيض [36] ، ولم أر آية انطبق عليها كلامه، نعم في غير (قبل وبعد) نحو {ومن آناء الله فسبح} {ومن الليل فتهجد} كلامه صحيح فمن فيها للتبعيض أما في (من قبل) و(من بعد) فلا.

 

[1] اصل معنى من في أصلها لابتداء الغاية فإن استوعبت الكل سموها بيانية أو زائدة وإن لم تستوعب قالوا للتبعيض وأحيانا للابتداء وحده.
[2] قال صديق حسن خان: لتبيننه للناس.(من بعد ميثاقه) ” ومن ” لابتداء الغاية فإن ابتداء النقض بعد الميثاق.
[3] ويدخل في هذا ما ذكره العلماء أنها تفيد الاتصال من غير واسطة، قال محمد الأمين الخضري في كتاب من أسرار حروف الجر: حدثني فلان من فلان تختلف عن (حدثني فلان عن فلان)؛ لأن (من) في قولك:” حدَّث من فلان” تدل على مباشرتك النقل عنه بلا واسطة لأن حديثك كان بدؤه ومنشؤه منه ومن الفروق بين من وعن أن من يضاف بها ما قرب من الأسماء وعن يوصل بها ما تراخى سمعت من فلان حديثا وحدثنا عن فلان حديثا.
[4] بأن يكن الجار والمجرور خبرا متعلقا بمحذوف تقديره {كائن، أو كان)(مستقر، استقر).
[5] قال ابن عاشور عند تفسير: “(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا ابن عاشور و (مِن) في مثله للابتداء، وهو أصل معاني (مِن) وأما (مِن) في قوله: {من حليَّهم} فهي للتبعيض قال البقاعي عند تفسير {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: ولما ذمهم بالاختلاف الذي دل العقل على ذمه زاد في تقبيحه بأنهم خالفوا فيه بعد نهي العقل واضح النقل فقال: {من} أي وابتدأ اختلافهم من الزمان الذي هو من {بعد ما جاءهم} وقال البقاعي عند تفسير{لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}. {لأكلوا} أي لتيسر لهم الرزق، وعبّر ب «من» لأن المراد بيان جهة المأكول لا الأكل {من فوقهم}.
[6] قال ابن عرفة عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}(2/27). الظاهر تناولها لكل من صلح صدق هذا اللفظ عليه، قيل(من بعد): لتدل على مبادرتهم بالنقض في أول (أزمنته البعيدة).قال ابن عرفة: قوله تعالى: {ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ}(2/51)لأن «ثُمَّ» للتراخي و «مِن» في «مِن بَعْدِهِ» (تقتضي) ابتداء الغاية فهي لأول أزمنة البعدية. قال ابن عرفة عند تفسير قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}(2/133)فإن قلت: لم قال: «من بعد» فأتى بـ «من» المقتضية لأول الأزمنة البعدية مع أنه لا يتوهم مخالفتهم ورجوعهم عن دينهم إلا بعد طوال الزمان (وأما) بالقرب من موته فلا يزالون متَّبعين له و مقتفين (لآثاره)؟الجواب: عادتهم يجيبون بأن الآية أتت في معرض الرّد على اليهود، وهم يدعون أنهم متبعون لآبائهم فذكر لهم الوجه الذي يصدق على أولاد يعقوب أنهم متبعون له وذلك لا يصدق إلا بأول أزمنة البعدية، وأما (ما) بعد ذلك فقد يقال: إنّهم لم يتبعوا، بل تناسوا الأمر واتبعوا غيره والزمن القريب من موته يقوى فيه وجه الاتباع.
قال ابن عرفة عند تفسير قوله تعالى: {(88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}{3/89).أي بادروا في أول أزمنة البعدية.قال ابن عرفة عند تفسير قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ}(7/148): دليل على مبادرتهم بذلك في أول أزمنة البعدية. قال ابن عرفة عند تفسير قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} (53/26).لأنك إذا قلت: جاء زيد بعد عمرو يحتمل أن يكون بينهما مهلة طويلة أو قصيرة، فإذا قلت: جاء زيد من بعد عمرو فالمعنى جاء عقبه في أول أزمنة البعدية.قال ابن عرفة: قال ابن عرفة: قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ… 2)}(13/42).قلت: (مِنْ) لابتداء الغاية فيقتضى أول أزمنة القبلية وقد يضرب الماضي من زمن الحال فكيف صح الجمع منهما؟ فقال: المراد أول أزمنة هذا المكر المقرب وهو الزمن القريب من وقتك.قال ابن عرفة: “الأولية مقولة بالتشكيك في أزمنة البعدية”. [يعني أن القرب يطلق على القرب القريب جدا وما ليس كذلك و (التشكيك) يُقَال (فِي علم الْمنطق) لفظ يدل على أَمر عَام مُشْتَرك بَين أَفْرَاد لَا على السوَاء بل على التَّفَاوُت كَلَفْظِ الْأَبْيَض .
[7] قال البقاعي عند تفسير قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}(2/214): ولما كان القرب في الزمان أشد في التأسية أثبت الجار فقال: {من قبلكم}.قال البقاعي عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وعصيتم}: وأثبت الجار تصويراً للمخالفة بأنها كانت عقب رؤية النصر سواء، وتبشيراً بزوالها فقال: {من بعد ما أراكم ما تحبون}.قال البقاعي عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} ولما كان التأسِّي بالقريب في الزمان أعظم، أثبت الجار في قوله: {من قبلهم}.
قال البقاعي:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}(30/9) لما كان حال من قرب من زمان الإنسان أوعظ له، أثبت الجار فقال: {من قبلهم}. قال البقاعي عند تفسير: {لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ}. أي الذي يسمعونه عنك على وجهة فيبالغون في تغييره وإمالته بعد أن يقيسوا المعنيين: المغير والمغير إليه، واللفظين فلا يبعدوا به، بل يأخذون بالكلم عن حده وطرفه إلى حد آخر قريب منه جداً، ولذلك، أثبت الجار فقال: {من بعد} أي يثبتون الإمالة من مكان قريب من {مواضعه} أي النازلة عن رتبته بأن يتأولوه على غير تأويله، أو يثبتوا ألفاظاً غير ألفاظه قريبة منها فلا يبعد منها المعنى جداً وهذا أدق مكراً مما في النساء وهو من الحرف وهو الحد والطرف، وانحرف عن الشيء: مال عنه.
[8]قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثاني: مسألة: قوله تعالى: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) وفى الجاثية والبقرة: (بَعْدَ) بحذف (مِنْ)؟ جوابه: أن الأرض يكون إحياؤها تارة عقيب شروع موتها، وتارة بعد تراخي موتها مدة.
فآية العنكبوت: تشير إلى الحالة الأولى لأن (مِنْ) لابتداء الغاية، فناسب ذلك ما تقدم من عموم رزق الله تعالى خلقه. وآية البقرة والجاثية: في سياق تعداد قدرة الله تعالى، فناسب ذلك ذكر إحياء الأرض بعد طول زمان موتها.
[9] قال السامرائي: قوله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) النحل {إن كنتم في ريب من البعث ـ ـ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} الحج
قال السامرائي: فأنت ترى أن الآية الثانية رد على من هو في ريب من البعث وإيضاح بالغ الله له وكيف أنه خلقه من التراب بشرا فطوره إلى أن يرد إلى أرذل العمر فيجهل من بعد العلم إلى غير ذلك من مظاهر قدرة الله فذكر (من) هنا بخلاف آية النحل لسر لطيف وهو أن قوله (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) معناه أن الجهل يبدأ من بعد العلم بلا مهلة فهناك حالة علم تبدأ منها حالة الجهل التام أما قوله (بعد علم) فيحتمل أن مرت عليه مدة طويلة من غياب بعض المعلومات ونسيانها إلى الجهل فمعنى (من بعد علم) أنه قادر على أن يغير بأقرب وقت من حال إلى حال وهو المناسب لمقام تبيان القدرة لمنكري البعث،ومن قال بالزيادة للتوكيد لأن المقام مقام توكيد فقوله ليس بمطرح لكن الاولى عدم إخراجها عن معناها ما أمكن.

[10] قال أبو حيان عند تفسير:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} ومن في: من بعده: لابتداء الغاية، وهو ظاهر، لأنه يحكى أن موسى لم يمت حتى نبئ يوشع.وقال أبو حيان عند تفسير {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} (2 / 27):ومن متعلقة بقوله ينقضون، وهي لابتداء الغاية، ويدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل بينهما، وفي ذلك دليل على عدم اكتراثهم بالعهد، فإثر ما استوثق الله منهم نقضوه،وقيل: من زائدة وهو بعيد. قال أبو حيان عند تفسير {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك}: وأتى بمن في قوله: {من بعد ذلك} إشعاراً بأن القسوة كان ابتداؤها عقيب مشاهدة ذلك الخارق، ولكن العطف بثم يقتضي المهلة، فيتدافع معنى ثم، ومعنى من، فلا بد من تجوّز في أحدهما، والتجوز في ثم أولى قال أبو حيان {من بعد ما جاءته} أي: من بعدما أسديت إليه، وتمكن من قبولها، ومن بعدما عرفها كقوله: {ثم يحرفونه من بعدما عقلوه} وأتى بلفظ: (من)، إشعاراً بابتداء الغاية، وأنه يعقب: ما جاءته، يبدله. قال أبو حيان عند تفسير: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(2/213).أتى بلفظ: (من)، الدالة على ابتداء الغاية منبهاً على أن اختلافهم متصل بأول زمان مجيء البينات، لم يقع منهم اتفاق على شيء بعد المجيء، بل بنفس ما جاءتهم البينات اختلفوا، لم يتخلل بينهما فترة. قال أبو حيان عند تفسير{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} وتذكير هود بذلك يدلّ على قرب زمانهم من زمان نوح لقوله {من بعد قوم نوح}.
[11] قال السيوطي في معترك الأقران: (وقد مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهم):قد قدمنا صفةَ مكرهم، ولذلك أجابهم بقوله: (فلِلَّهِ المَكرُ جميعاً)، لأن مكرهم من غير قدرة، وقدْرَتُه تعالى على الفعل، وهو عالم بهم، لا يخفاه شيء من أمرهم فإن قلت: ” من ” لابتداء الغاية فيقتضي أول أزمنة القبلية، وقد يقرب الماضي من زمن الحال، فكيف صح الجمع بينهما؟ والجواب المراد أوَّل أزمنة هذا المكر القريب، وهو الزمنُ القريب مِن وقتك.
[12] قال في مغني اللبيب: وَمن الدَّاخِلَة على عَن زَائِدَة عِنْد ابْن مَالك ولابتداء الْغَايَة عِنْد غَيره قَالُوا فَإِذا قيل قعدت عَن يَمِينه فَالْمَعْنى فِي جَانب يَمِينه وَذَلِكَ مُحْتَمل للملاصقة ولخلافها فَإِن جِئْت ب من تعين كَون الْقعُود ملاصقا لأوّل النَّاحِيَة.
[13] قال السامرائي: في الفرق بين آية البقرة {ثم اتخذتم العجل من بعده}وآل عمران {فمن تولى بعد ذلك}: والفرق واضح وذلك أن آية البقرة في بني إسرائيل وتعداد نعمه عليهم وعصيانهم مع ظهور الآيات البينات فقد قال تعالى {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون}فهم بعد أن فرق بهم البحر وأغرق آل فرعون اتخذوا العجل بلا مدة فاصلة فجاء بمن فقال من بعده ولم يقل بعده ثم عفا عنهم من بعد ذلك ثم إنهم قالوا لموسى إنهم لن يؤمنوا بعد كل ذلك حتى يروا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فأماتتهم ثم بعثهم من بعد الموت ثم رفع فوقهم الطور ثم تولوا من بعد ذلك فجأة فما أقسى قلوبهم وما أضلهم وهذا دليل على تقلب قلوبهم وتمكن الضلال من نفوسهم يعصون من بعد الآيات فجأة وليس الأمر كذلك في آية أل عمران لأن الكلام مع النبيين وليس المقام مقام تبكيت ولا أنهم يتولون مباشرة من بعد الميثاق وإنما هو مقام ترهيب وتوعد لمن تولى بعد الميثاق والفرق واضح بين المقامين.
[14] قال ابن عاشور عند قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم: 31] وإدخال حرف الجر على اسم الزمان وهو (قبل) لتأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة.
[15] هذه الحالة مترتبة على الحالة السابقة وليست هي نفسها، لأن الابتداء يفيد الابتداء من أول اللحظات ثم قد يعم وقد لا يعم، فمثلا {ثم اتخذتم العجل من بعده} تفيد أنهم من أول أوقات ترك سيدنا موسى لهم اتخذوا العجل، وأما نحو {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم} تفيد الابتداء من أول الأوقات إلى آخرها أي تفيد مع الابتداء الاستيعاب.
[16] قال ابن عاشور عند تفسير{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)} “وتخصيص {من بعد نوح} إيجاز، كأنه قيل من قوم نوح فمن بعدهم”. وقال الطبري: وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قرونا كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به، وتكذيب رسله، على مثل الذي أنتم عليه، ولستم بأكرم على الله تعالى منهم.
قال ابن عاشور: وتخصيص {من بعد نوح} إيجاز، كأنه قيل من قوم نوح فمن بعدهم أبو حيان و {من} الأولى للتبيين والثانية لابتداء الغاية.
[17] قال ابن عاشور عند قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}: {من قبلك} يتعلق بـ{أرسلنا} فـ{من} لابتداء الأزمنة فصار ما صدق القبل الأزمنة السابقة، أي من أول أزمنة الإرسال “.قال ابن عاشور عند تفسير {ما تعبدون من بعدي} واقترن ظرف {بعدي} بحرف (من) لقصد التوكيد فإن (من) هذه في الأصل ابتدائية فقولك: جئت من بعد الزوال يفيد أنك جئت في أول الأزمنة بعد الزوال ثم عوملت معاملة حرف تأكيد.وقال ابن عاشور عند تفسير {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ}: {من بعد الصلاة} توقيت لإحضارهما وإمساكهما لأداء هذه الشهادة. والإتيانُ ب (مِن) الابتدائية لتقريب البَعديّة، أي قرب انتهاء الصلاة.
[18]قال محمد الأمين الخضري عند تفسير{لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه}: قال الرضي من في {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه}: “بمعنى في” قال محمد الأمين الخضري: ولنا أن نسأل إذا كانت من بمعنى في فما سر العدول عن الحرف الأصلي؟ ولم لم يقل في أول يوم؟ إنني أرى أراها في الآية على أصلها من الابتداء فمن في {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم} هي من الابتدائية ولها دلالات في أن هذا المسجد كان منذ اللبنة الأولى التي وضعت لتأسيسه مصحوبا بالتقوى مبالغة في صدق النوايا وإخلاص العمل لوجه أبان التفكير فيه ومن بداية العمل في بنائه فأنت حين تقول ذهبت إلى الحقل من أول اليوم عنيت أن ذهابك كان جد مبكر بحيث بدأ ببداية أول اليوم دون أن تنصرم منه لحظة من لحظاته وإذا قلت ذهبت إلى الحقل أول اليوم أفدت التبكير نعم لكنك لم تستوعب لحظات اليوم من بداية ما يقال له أول وعليه فإن (من) في الآية دالة على استيعاب وقت الأولية كله مبالغة في أن جزءا ولو ليسيرا من الوقت لم تكن التقوى مفارقة له وفي ذلك أبلغ الحسم للمرجفين الذين أرادوا الإساءة إلى هذا المسجد وحاولوا الإضرار به وضرب وحدة المؤمنين ببناء مسجد آخر ألا ترى إلى سياق الآية وما يحوطه من الحسم البالغ والتأكيدات المتتالية على سوء النوايا من المنافقين {والذين اتخذوا مسجدا ــ ـ أحق أن تقوم فيه}” اهـ. فالمراد الاستيعاب والتأكيد ليشمل جميع الوقت من أوله إلى آخره القبل مباشرة فما فوق فيدل على أن مبدأ القبل والبعد طرفه المضاف الذي يلي قبل وبعد فهي تفيد أنه من أول الشيء إلى آخره ونحو ذلك إفادة كل المسافة.
[19]قال في درة التنزيل: للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك} {وما أرسلنا قبلك} – فرق؟ ولأي معنى خص موضع ب من وموضع بحذفها، والجواب أن يقال: إن من لابتداء الغاية، وقبل اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: (وما أرسلناك من قبلك) فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل حدوثه، ويستوعب بذكر طرفيه ابتدائه وانتهائه. قال في درة التنزيل: والظروف إذا حدّت حقّقت، تقول سرت اليومَ، فإن قلت من أوله إلى آخره كان الحد تحقيقا لأنه قد يطلق لفظ اليوم وإن ذهبت ساعة أو ساعتان من أوله، وإن بقيت ساعة أو ساعتان من أوله، وإن بقيت ساعة أو ساعتان من آخره، فإذا وقع الحدّ زال هذا الوهم.
[20]قال في بصائر ذوي التمييز: قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} وفى الأَنبياءِ {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} بغير (مِن) لأَن (قبل) اسم للزَّمان السّابق على ما أُضيف إِليه، و (مِن) يفيد استيعاب الطَّرفين.
[21]النيسابوري- الحسن بن محمد: قال: {وما أرسلنا من قبلك} وفي ” الأنبياء ” {قبلك} [الأنبياء: 7] بغير ” من ” لأن قبلاً اسم للزمان السابق على ما أضيف إليه و ” من ” تفيد استيعاب الطرفين، وفي هذه السورة أريد الاستيعاب.
[22] قال ابن عرفة: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ… (109)}أفادت من أول أزمنة القبلية فهي أبلغ من قبل قبلك. قال ابن عرفة: زيادة «مِنْ» تنبيه على عموم ذلك في كل أمة من الأمم السالفة إلى حين: نزول هذه الآية.قال ابن عرفة عند تفسير: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) فإن قلت: ما أفاد «مِن بَعْدِهِ» مع أنّ (القبلية) تفيد معنى البعدية؟ قلت: لإفادة أول أزمنة البعدية إشارة إلى أنّ موسى عليه السلام من حين أرسله لم تزل شريعته باقية معمولا بها حتى أرسل رسولا آخرا فكان مقرر لها كيوشع بن نون أو ناسخا كعيسى. وعين موسى وعيسى دون غيرهما إما لأن المخاطبين بهذه الآية اليهود والنصارى، أو لأن المتبعين لشريعة موسى وعيسى باقون قيام الساعة، ولم يبق أحد (ممن) تشرع بشريعة غيرهما من الأنبياء. قال ابن عرفة: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ… (109)}أفادت من أول أزمنة القبلية فهي أبلغ من قبل قبلك. ابن عرفة عند تفسير {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم}: زيادة «مِنْ» تنبيه على عموم ذلك في كل أمة من الأمم السالفة إلى حين: نزول هذه الآية.قال ابن عرفة قال في التقييد للبسيلي عند تفسير قوله تعالى:{وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} فإن قلت: ما افاد (من قبل) وهو معلوم؟. قلت: للدلالة على أوّل أزمنة القَبْلَية إشارة إلى أن هذا أمر معهود فيما سبق، وأنه ليس بأوّل ما نزل، بل تقدمه كُتُب قبله، واستدام حكمها إلى أوّل أزمنة القَبْلِية، ويحتمل تعلقه بـ (هدى) أي: أن هداية التوراة، والإِنجيل كانت للناس من قبل، وهذا غير معلوم. قال ابن عرفة: قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)} مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ).قيل لابن عرفة: ما الفائدة في قوله: (مِنْ قَبْلُ) ولو أسقط لم يختل المعنى؛ لأنه معلوم أن إنزالها قبل، وأنها هدى للناس من قبل؟ فأجاب: بأنكم جعلتم (مِنْ قَبْلُ) متعلق بأنزل أو بالتوراة، وإنما يجعله متعلقا بهدى، فتقول: تضمنت الآية أن هداية التوراة والإنجيل كان للناس من قبل وذلك غير معلوم، إنما كان المعلوم أن إنزالها قبل الثاني، اقتضت من أول أزمنة القبلية إشارة إلى أن هذا أمر معهود فيما سبق، وأنه ليس بأول ما نزل بل تقدمت كتب قبله واستدام حكمها إلى أزمنة القبلية قال ابن عرفة: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ الآية لما تضمنت تشريف القسم المقابل كان تحريضا، إذ [هو] عام في البعدية إلى يوم القيامة أو مقابل قوله (مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)، وهذه البعدية صادقة في سائر الأزمان فينبغي للمكلف تحصيل صادقيتها ليكون أحد المقابلين للأفضل، ونص في الآية على نفي مساواة من جمع الوصفين، قبل الفتح لفعل مثله بعده، فمن أنفق قبله، ولم يقاتل، هل يساوي من قاتل بعده ولم ينفق؛ لأن بذل النفس أعظم ثوابا من بذل المال، فهل يعدل فضيلة ذلك فضل السبقية [أو لا؟] فيه نظر، فإن قلت: من في قوله (مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ)، وقوله (مِنْ بَعْدُ) لابتداء الغاية، فهي لأول أزمنة القبلية والبعدية، وتضمنت الآية نفي مساواة من أنفق في أول الأزمنة المتقدمة على الفتح، لمن أنفق في أول الأزمنة المتأخرة عنه، مع أن المساواة منتفية بين من أنفق قبله مطلقا، وبين من أنفق بعده مطلقا، فالجواب: أن كل ما ثبت لأحد المتساوين ثبت للآخر، و (مَن) إنما دخلت لتأكيد معنى السبقية.
[23]والبقاعي ذكر استيعاب الوقت لكن من خلال حمل من على التبعيض لكن في النهاية يرجع قوله لاستيعاب الوقت قال البقاعي عند تفسير: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ}ولما كان المراد إفهام نفي قليل الزمان وكثيره، أثبت الجار فقال: {من بعدهم}. قال البقاعي عند تفسير{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)}: ولما كان المراد أن غيره سبحانه لا يقدر على إمساكهما في زمن من الأزمان وإن قل، أثبت الجار فقال: {من بعده} أي بعد إزالته لهما، بل وإذا زلزلت الأرض اضطرب كل شيء عليها والأصنام من جملته، فدل ذلك قطعاً على أن الشركاء مفعولة لا فاعلة. “يقول علي هاني: وإن حمل من على التبعيض لكن في محصل المعنى هي للتعميم وقال البقاعي عند تفسير: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}ولما كان المراد الترهيب من الكتمان في وقت ما ولو قل أثبت الجار فقال {من بعد ما بيناه} أي بما لنا من العظمة. قال البقاعي عند تفسير: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ}: ولما كان المراد إفهام نفي قليل الزمان وكثيره، أثبت الجار فقال: {من بعدهم}.: قال البقاعي عند تفسير{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)}: ولما كان الذي يلامون عليه ترك ما أتاهم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما أوحاه الله سبحانه إليه من الشريعة، لا ما في غرائزهم من الملة التي يكفي في الهداية إليها نور العقل، وكان الذم لاحقاً بهم ولو كان ارتدادهم في أدنى وقت، أثبت الجار قال البقاعي عند تفسير{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}: {والذين جاؤوا} أي من أي طائفة كانوا، ولما كان المراد المجيء ولو في زمن يسير، أثبت الجار فقال: {من بعدهم} أي بعد المهاجرين والأنصار وهم من آمن بعد انقطاع الهجرة بالفتح وبعد إيمان الأنصار الذين أسلموا بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يوم القيامة.وكلمة من إما متعلقةٌ بادعوا فتكونُ لابتداءِ الغاية والظرفُ مستقرٌّ والمعنى ادعوا متجاوزين الله تعالى للاستظهار من حضَركم كائناً مَن كان لما أنهم يقولون جلس بين يديه وخلفَه بمعنى في لأنهما طرفان للفعل ومن بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفِه لأن الفعل إنما يقع في بعض تَيْنِك الجهتين كما تقول جئتُه من الليل تريد بعضَ الليل قال البقاعي عند تفسير{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}: ولما كان الإرسال إنما هو في بعض الزمان الماضي وإن كان بلوغ رسالة كل لمن بعده موجبة لانسحاب حكم رسالته إلى مجيء الرسول الذي يقفوه، أثبت الجار لإرادة الحقيقة فقال: (من قبلك) أي إلى أممهم ليبلغوا عنا ما أمرناهم به قال البقاعي عند تفسير{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}: ولما كان الإرسال إنما هو في بعض الزمان الماضي وإن كان بلوغ رسالة كل لمن بعده موجبة لانسحاب حكم رسالته إلى مجيء الرسول الذي يقفوه، أثبت الجار لإرادة الحقيقة فقال: (من قبلك) أي إلى أممهم ليبلغوا عنا ما أمرناهم به
[24]قال السامرائي: في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {7}) وهي تحتمل البعيد والقريب قال السامرائي: 221- ما دلالة ذكر وحذف (من) في قوله تعالى (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً) وقوله (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً)؟ قال تعالى في سورة يوسف (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {109}) وذكر (من) تفيد الابتداء أي ابتداء الغاية وهو امتداد من الزمن الذي قبلك مباشرة أي من زمان الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى زمن آدم. وليس هناك فاصل. قال السامرائي:. (من قبل أن يأتي أحدكم الموت) (من) الابتدائية وهي تشمل كل الفراغ بين الابتداء والنهاية كما في قوله تعالى (رواسي من فوقها) و (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ {9} يس) لو لم ترد (من) في آية سورة المنافقون كان ممكن أن يكون الزمن بعيد أما وجود (من) فيفيد أن كل لحظة يمكن أن تكون لحظة الموت وهذا يستدعي إعادة نظر في حياة الإنسان
[25]قال أبو حيان: وقد أثبت أصحابنا في معاني من أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد، وأن الشيء الواحد يكون محلاً لهما. قالوا: فمن تكون لابتداء الغاية فقط في أكثر المواضع، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معاً.
قال السمين الحلبي قوله: {مِن وَرَآءِ}: ” مِنْ ” لابتداءِ الغايةِ. وفي كلامِ الزمخشريِّ ما يمنعُ أنَّ ” مِنْ ” تكونُ لابتداءِ الغاية وانتهائِها. قال: ” لأنَّ الشيءَ الواحدَ لا يكونُ مَبْدَأً للفعلِ ومنتهىً له ” وهذا أثبتَه بعضُ الناس، وزعم أنَّها تَدُلُّ على ابتداءِ الفعلِ وانتهائِه في جهةٍ واحدةٍ نحو: ” أَخَذْتُ الدرهمَ من الكيس ” يقول علي هاني: تكون للابتداء والانتهاء بالمعنى الذي في الآية {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم} لكن الانتهاء ليس من لفظ من بل من السياق.
[26] نحو قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) (10/3) فيها بيان أن الشفاعة لا يمكن أن تكون إلا من بعد إذنه فهي متوقفة توقفا تاما على الإذن فمن تعطي أن ابتداء الشفاعة لا يحصل إلا بتحقق إذنه سبحانه مع التأكيد، ففيها معنى الابتداء وهو أن الشفاعة لا تنشأ و لا تبدأ إلا منطلقة متوقفة على الإذن. فهذه الآية فيها بيان لاستبداده تعالى في التدبير والتقدير ونفي للشفاعة على أبلغ وجه فإن نفي جميع أفراد الشفيع بمن الاستغراقية يستلزم نفي الشفاعة على أتم الوجوه،، وفي ذلك أيضاً تقرير لعظمته سبحانه إثر تقرير، والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات أي ما من شفيع يشفع لأحد في وقت من الأوقات إلا بعد إذنه تعالى المبني على الحكمة الباهرة وذلك عند كون الشفيع من المصطفين الأخيار والمشفوع له ممن يليق بالشفاعة. قال البيضاوي -. {ما من شفيع إلا من بعد إذنه} تقرير لعظمته وعز جلاله، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له الزمخشري -وأتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره، وكذلك قوله: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} دليل على العزة والكبرياء. ونحو {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله}،ومنها أيضا: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)}قالوا:الابتداء و التأكيد بخلاف {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}.
[27] تنبيه: لم يأت في القرآن {إلا بعد} بل كلها {إلا من بعد}.
[28] قال في مغني اللبيب: وَمن الدَّاخِلَة على عَن زَائِدَة عِنْد ابْن مَالك ولابتداء الْغَايَة عِنْد غَيره قَالُوا فَإِذا قيل قعدت عَن يَمِينه فَالْمَعْنى فِي جَانب يَمِينه وَذَلِكَ مُحْتَمل للملاصقة ولخلافها فَإِن جِئْت ب من تعين كَون الْقعُود ملاصقا لأوّل النَّاحِيَة.
[29]قال ابن عاشور: وَ (مِنْ) الدَّاخِلَةُ عَلَى (بَعْدَ) هُنَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ وَابْنِ مَالِكٍ مِنْ عَدَمِ انْحِصَارِ زِيَادَةِ (مِنْ) فِي خُصُوصِ جَرِّ النَّكِرَةِ بَعْدَ نَفْيٍ وَشِبْهِهِ، أَوْ هِيَ لِلِابْتِدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ ابْتِدَاءٌ صُورِيٌّ يُسَاوِي مَعْنَى التَّأْكِيدِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ بِ (مِنْ) فِي قَوْله تَعَالَى:{لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً}. قال ابن عاشور: كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الرّوم: 50] وَقَالَ: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الرّوم: 19].وَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ هُنَا فِي مَسَاقِ التَّقْرِيرِ كَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا لِلتَّأْكِيدِ بِزِيَادَة (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها إِلْجَاءً لَهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ دُونَ أَصْنَامِهِمْ فَلِذَلِكَ لم يكن مُقْتَضى لِزِيَادَةِ (مِنْ) فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي الْجَاثِيَةِ [5] فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها. قال ابن عاشور عند قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم: 31] وإدخال حرف الجر على اسم الزمان وهو (قبل) لتأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة. وقال ابن عاشور عند قوله تعالى {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} وَ (مِنْ) مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَبْلِهِمْ ابْتِدَائِيَّةٌ لِتَأْكِيدِ الْقَبْلِيَّةِ..قال ابن عاشور عند تفسير {ما تعبدون من بعدي} واقترن ظرف {بعدي} بحرف (من) لقصد التوكيد فإن (من) هذه في الأصل ابتدائية فقولك: جئت من بعد الزوال يفيد أنك جئت في أول الأزمنة بعد الزوال ثم عوملت معاملة حرف تأكيد.قال ابن عاشور عند {ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا}: وأكد ظرف (بعدُ) بإدخال من الزائدة عليه، ثم أكد عمومه بظرف {أبداً}
[30] قال في ملاك التأويل في التفريق بين {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم} {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم}.: والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية يوسف قد تقدمها قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف: 106)، وقوله: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108)، وقوة السياق في هذه الآي يدل على معنى القسم ويعطيه، فناسب ذلك زيادة ((من)) المقتضية الاستغراق، وكذلك قوله في سورة النحل: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) (النحل: 41) يؤكد ذلك المعنى، فناسبه زيادة ((من)) لاستغراق ما تقدم من الزمان. قال في ملاك التأويل: زيادة “من ” في قوله في العنكبوت: “من بعد موتها ” زيادة بيان وتأكيد نوسب به ما تقدم من قوله “من نزل ” فإن بنية فعل للمبالغة والتكثير وذلك مما يستجر البيان والتأكيد فنوسب بينهما ولما لم يقع في الآيتين الأخرتين إلا لفظ “أنزل ” ولا مبالغة فيها ولا تأكيد ولا انجر في الكلام ما يعطيه لم يكن فيهما ما يستدعى زيادة “من ” ليناسب بها فلم تقع في الآيتين ولو قدر ورود عكس الواقع بزيادة “من ” في آيتي البقرة والجاثية وسقوطها في آية البقرة لما ناسب ذلك أصلا فوضح تناسب الوارد وامتناع خلافه قال في أرشيف أهل الحديث: واما آية 63 من سورة العنكبوت, فان معرض الحديث عن انزال المطر وإحياء الارض من بعد موتها, فقد كان المشركون لا يدَّعُون أن الأصنام تُنزل المطر كما صرحت به الآية فقامت الحجة عليهم ولم ينكروها وهي تقرع أسماعهم, ولما كان سياق الكلام هنا في مساق التقرير كان المقام مقتضياً للتأكيد بزيادة {من} في قوله {من بعد موتها} إلجاء لهم إلى الإقرار بأن فاعل ذلك هو الله دون أصنامهم.
[31]قال النيسابوري: ولما امتد الكلام في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الإلهيات فقال:{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وفي العنكبوت: مِنْ بَعْدِ مَوْتِها [الآية: 63] لأن هنالك سؤال تقرير والتقرير يحتاج إلى التحقيق فقيد الظرف ب «من» للاستيعاب.
[32]الطبرسي: (من بعد ميثاقه): من مزيدة. وقيل: معناه ابتداء الغاية.
[33]قال ابن عرفة: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)}.قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِهِ) إن قلت: ما أفاد، وهو خص بالقسم الثاني دون الأول، فالجواب: أنه إشارة إلى ما قرره المتكلمون: من أن ما أراد الله تعالى كونه فلا بد من وقوعه باتفاق بين الجميع، ولذلك لم تحتج إلى تأكيد الأول بقوله (مِنْ بَعْدِهِ)، ولم يرد وقوعه، فنحن نقول: لَا يقع أصلا وفريق من المعتزلة يقولون بصحة وقوعه، لأن العبد عندهم يخلق أفعاله، والله.
[34] قال الآلوسي عند تفسير{من بعد قوة أنكاثا}: وقوله تعالى: {مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} متعلق بـ(نقضت) على أنه ظرف له لا حال و من زائدة مطردة في مثله أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامه.
[35]وقريب منه ما قاله السامرائي: حيث قال {إن كنتم في ريب من البعث ـ ـ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} الحج قال السامرائي: معناه أن الجهل يبدأ من بعد العلم بلا مهلة فهناك حالة علم تبدأ منها حالة الجهل التام ومن قال بالزيادة للتوكيد لأن المقام مقام توكيد فقوله ليس بمطرح لكن الاولى عدم إخراجها عن معناها ما أمكن

[36]قال البقاعي عند تفسير:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}
{وكانوا} أي والحال أنهم كانوا، ولما كان استفتاحهم في بعض الزمان أثبت الجار فقال: {من قبل} أي قبل مجيئه {يستفتحون}.قال البقاعي عند تفسير: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} ولما كان سؤالهم ذلك في زمن يسير أثبت الجار فقال: {من قبل} أي قبل هذا الزمان.قال البقاعي عند تفسير:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)} ولما كان قد ارتضع من أمه من حين ولدته إلى حين إلقائه في اليم، فلم يستغرق التحريم الزمان الماضي، أثبت الجار فقال: {من قبل} أي قبل أن تأمر أمه أخته بما أمرتها به وبعد إلقائها له، ليكون ذلك سبباً لرده إليها، فلم يرضع من غيرها قال البقاعي عند تفسير:{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} ولما كان كل من إتيانه وكفرهم لم يستغرق زمان القبل، أثبت الجار فقال: {من قبل} أي من قبل مجيء الحق على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم. وقال البقاعي عند تفسير قوله تعالى: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)}ولما كان هذا القول غير مستغرق لزمان البعد، أثبت الجار فقال تعالى: {من بعده} أي الإغراق {لبني إسراءيل. قال البقاعي عند تفسير {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ولما كان عواقب الدمار في بعض ما مضى من الزمان، أثبت الجار فقال: {من قبلهم}.قال البقاعي عند قوله تعالى {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)}: {من بعدهم} أي المتفرقين، وأثبت الجار لعدم استغراق الزمان.قال البقاعي عند قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} ولما لم يكن اختلافهم مستغرقاً لجميع الزمن الذي بعد الإيتاء، أثبت الجار فقال: {إلا من بعد ما جاءهم العلم}قال البقاعي عند تفسير{) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي}: وأثبت الجار لأن القرن لا ينخرم إلا بعد مدة طويلة، فالانخرام في ذلك غير مستغرق للزمان فقال: {من قبلي} أي قرناً بعد قرن وأمة بعد أمة وتطاولت الأزمان وأغلبهم يكذب بهذا الحديث فأنا مع الأغلب، وقال البقاعي عند تفسير قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ (3 /93):{من قبل} وأثبت الجار لأن تحريمه كان في بعض ذلك الزمان، لا مستغرقاً لهقال البقاعي عند تفسير{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)}: ولما كان الرسل إنما كان إرسالهم في بعض الأزمان الماضية ولم يستغرقوا جميعها بالفعل، أثبت الجارّ في قوله: {من قبلهم}قال البقاعي عند تفسير: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وأدخل الجار لعدم استغراق الزمان فقال: {من بعد ما جاءهم}.قال البقاعي عند تفسير: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)}ولما كان إنزال كتاب كل منهم غير مستغرق للزمان الآتي بعده أدخل الجار فقال: {من بعده}.