المقالة الخامسة من سلسلة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد قيلش – خلق الصبر

يقدم لنا فضيلة الشيخ رسماً مفصلاً لأجمل وأهم ما اتصف به رسولنا صلى الله عليه وسلم من الخلق الحميد، مستخرجاً القصص والأمثلة من سيرته العطرة المليئة بالمواقف التربوية والإرشادات الملهمة التي وجب علينا اتباعها، حتى يكون اقتداءنا به اقتداء حسناً دقيقاً نافعاً، اقتداء قول وعمل.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

استجاب النبي ﷺ لأمر ربه سبحانه {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: ۳٥]، فحاز قصب السبق في الصبر على أمهات البلايا وعظائمها؛ فعلى صعيد فَقْدِ الأهل فإنه ﷺ صبر على وفاةِ أحبِّ الناس إليه في عام واحد، وهما: عمه أبو طالب والسيدة خديجة زوجته ﷺ، وعلى صعيد فَقْدِ الولد فإنه ﷺ كان كلما ولد له ولدٌ ذَكَر لا يلبث بعد مدَّة قصيرة أن يموت، فصبر، وتوفيت كل بناته في حياته ﷺ إلا فاطمة رضي الله عنها فصبر. وعلى صعيد ظلم ذوي القربى وأذى العشيرة عاداه بنو عمومته وأخوالُه وجيرانه وأهل بلده وآذوه وظلموه حتى اضطروه إلى مفارقة بلده ووطنه وأحبِّ البقاع إليه ﷺ فصبر. وعلى صعيد الجوع بسبب حصار عشيرته له فإنه قد مرَّ عليه ﷺ ثلاث سنين لا يجد هو ومن يناصره في شعب أبي طالب ما يأكلونه حتى أكلوا أوراق الأشجار ثم أغصانها، فصبر، ثم الجوع وقلة الطعام في المدينة حتى كان يمر عليه ﷺ الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقَد في بيت من بيوته ﷺ نار، فكان طعامه التمر والماء، وحتى ربط على بطنه الشريف حجرين يوم الخندق من شدة الجوع فصبر. وعلى صعيد ضياع المال والأملاك فقد استولى عقيل ابن عمه أبي طالب على داره بعد هجرته ﷺ فصبر [1]. وعلى صعيد أذية الناس له واتهامه في عِرْضِه الشريف ﷺ اتُّهِمت أحبُّ نسائه ﷺ إلى قلبه بالزنا، وتكلم المنافقون وبعض المؤمنين في ذلك، وزاد في مرارة البلية أن الوحي تلبَّث عنه في تلك المدة فلم يعرف حقيقةَ الأمر فصبر حتى نزلت آيات التبرئة للسيدة عائشة رضي الله عنها. وعلى صعيد الصبر في مجال الدعوة والأذى الذي ناله ﷺ فقد عانى ما عانى حتى سلَّط عليه الكفارُ صبيانَهم وسفهاءهم فرموه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، فصبر، وحتى تآمر الكفار عليه في مكة ثم اليهود في المدينة ليقتلوه فصبر، بل إنه ﷺ كان يتحمَّل فوق ذلك تَشَكِّي أصحابه رضي الله عنهم، ويرشدهم إلى الصبر [2].

فمن أصيب من المسلمين بمصيبة فلينظر سيرة سيد الخلق ﷺ يجد فيها أنه ﷺ ابتلي بأشد منها في جنسها ونوعها فصبر، وبذلك كان ﷺ الأسوة والقدوة للمؤمنين إلى قيام الساعة: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: ۲۱].

ولما كان عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء فإنَّ الله تعالى ادَّخر للصابرين عنده: بشارة، ومعية نصر وتأييد، وتوفية أجر من غير حساب، وختم ذلك بالمحبة. قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: ۱٥٥]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: ۱٥۳]، وقال تعالى: {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: ۱٠]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: ۱٤٦].

 

[1] حديث استيلاء عقيل على أملاك النبي ﷺ في مكة متفق عليه. انظر الجامع الصحيح للبخاري، كتاب الحج، باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها، حديث رقم 1523. والمسند الصحيح لمسلم، كتاب الحج، باب النزول بمكة للحاج وتوريث دورها، رقم 1351.
[2] عن خباب بن الأرت، قال: (شكونا إلى رسول الله ﷺ، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). الجامع الصحيح للبخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم 3612.