من دروس الهجرة | توطين النفس على الانتقال | الشيخ محمد قيلش

 

تمر بنا ذكرى الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم وتحمل معها في أعماقها دررًا ولآلئ، ينبري لها غواصو المعاني وصيادو الفوائد، لينتفع بها الناس في حياتهم ومستقبلهم. 

ومن تلك الفوائد مسألة توطين النفس على الانتقال. فإننا إذا نظرنا إلى معنى الهجرة اللغويِّ وجدنا أنَّه ترْكُ شي إلى آخر، أو الانتقال من حالٍ إلى حال، أو من بلدٍ إلى بلد، يقول تعالى: ﴿والرُّجْزَ فَاهْجُرْ[المدثر، 5]، وقال أيضًا: ﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيْلا[المزمل، 10].

وتعني بمعناها الاصطلاحي: الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وهذه هي الهجرة المادِّيَّة، أمَّا الهجرة المعنويَّة فتعني الانتقالَ بالنفس من مرحلة إلى مرحلة أخرى، بحيث تعتبر المرحلة الثانية أفضل من الأولى، كالانتقال بالقلب من توطين الجوارح على الطاعات إلى توطين النفس على محاسن الأخلاق. أو تعتبر مكمِّلةً لها، كالانتقال بالقلب من رتبة الإيمان إلى الإحسان، ومن مراقبة الأكوان والتفاعل معها إلى مراقبة المكوِّن والقيام بمقتضيات العبودية بين يديه.

 

ومن هنا نرى قيمة الهجرة ترتفع وتنخفض بحسب غايتها، ونرى ذلك جليًّا في تقرير رسول الله  بقوله: «إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكِحُها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» صحيح البخاري. ومعلوم أنَّ ورود هذا الحديث كان بسبب رجل هاجر من مكة إلى المدينة ليتزوَّج امرأة تسمَّى أمَّ قيس، فسمِّي مهاجر أمِّ قيس؛ لأنَّ هجرته لم تكن عبادة، وإنَّما هاجر لأمر دنيويٍّ. ففاته ثواب الهجرة الذي ذكره الله تعالى في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[التوبة، 20]

 

وفي أيَّامنا هذه نرى هجرة المسلمين من بلادهم تتزايد، كما في الشام والعراق واليمن وغيرها، ونرى الناس يتركون ديارهم وأعمالهم وأموالهم بغية النجاة بأرواحهم، أو النجاة بدينهم، ويذهبون إلى بلاد أخرى يطلبون فيها الأمن، أو يفرُّون بدينهم خشية أن يكونوا مع الظالمين، وهؤلاء موعودون بالفرج في الدنيا، وبالفوز في الآخرة بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[النحل، 41].

 

وهذه الهجرات هي مذكِّرات للإنسان بهجرته التي لا بدَّ أن يقوم بها شاء أم أبى، وهي هجرته من دار الدنيا الفانية إلى دار الآخرة الباقية، وهي منبِّهات على أنَّ مبنى هذه الحياة الدنيا على التغيُّر والتبدُّل، وأنَّها لا تدوم على حال، فلا يفرح بحاضر محبوب ولا يحزن على فقدِ مرغوب، وإنَّما يستثمر ما بيده ليحصِّل أعلى ما يمكنه الوصول إليه في دار البقاء. 

 

وإنَّ المتبصِّر في تقلُّبات هذه الدار ليرى أنَّ مبنى حالها على التغيُّر والتحوُّل، فما ترى صفوة إلا وتكدَّرت، ولا عيشة حلوة إلا وتمرَّرت، فكيف يطمئن العاقل إلى عيش يزول، أو حال يحول، أو وصل عن قريب مفصول. 

ومن فهم عن الله تعالى في هذه العوارض علم أنَّ الهجرة إنما تشرع للارتقاء بالإنسان في حاله ومآله، وأنها إنَّما تكتسب قيمتها من كونها لأجل الله تعالى لا لأجل دنيا أو مال أو متاع زائل. فمن هاجر لأجل شيء من الدنيا فهو يقيم الحجة على نفسه؛ إذ يترك زائلاً في يده، لأجل زائل يأمل به. ويتناسى باقيًا متيَقَّنًا سيقدُم عليه، ويرى نتيجة ما قدَّمه بين يديه.