من دروس الهجرة | الثقة بوعد الله في التمكين | د. محمد أبو بكر باذيب

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى التحية وأتم التسليم. 

أما بعد؛ 

فإن دروسَ الهجرة النبوية الشريفة كثيرةٌ جداً، والسعيدَ من استفاد من تلك الدروس، وجعلها نصبَ عينيه في حياته، ليحمَد السرى عند رحيله ومماته. ذلك أن الاقتداءَ والائتساءَ بالحبيب الأعظم سيدنا محمد هو غايةٌ عظمى ومقصدٌ لكُلِّ مسلم، قال ربنا جل وعلا: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الأحزاب: 21].

وإن من دروس الهجرة النبوية الشريفة، درسٌ عظيمٌ في الثقة بوعْد الله تعالى ونصْره وتمكينه لعبَاده المؤمنين. ذلك أن سيدنا رسول الله خرج من أحب بلاد الله إليه، مكة المكرمة، بعد أن ضيّقت عليه قريشٌ، قبيلتُه التي ينتسب إليها، فلم تمكنه ولا أصحابَه من إقامة شعائِرهم الدينية، وفرضَت عليهم الحصَار، وشدّدت عليهم في المعيشة، فأقاموا في شعب أبي طالبٍ مدةً قوتُهم ورقُ الأشجارِ حتى تقرّحت أشداقُهم. 

ثم أذن الله لنبيه ، ولصحبه المسلمين، بالهجرة إلى المدينة، إيذاناً منه تعالى لهم بالخلاص من ذلك التعب، وتلك الشدة. فكانت الهجرةُ والانتقال من مكة إلى المدينة بدايةَ النصر، ونقطةَ الانطلاق.

 

لقد كان من مقاصد الهجرة النبوية المباركة البحثُ عن أرض طيبة لغرس بذرة الإيمان والتمكين للعقيدة الإسلامية، وتوفير الأمن للمؤمنين الذين اتبعوا هذا الدين القيّم، وإيجاد أنصار أقوياء أمناء يسهمون في بناء مجتمع إسلامي كما أمر الله. 

لقد ظهرت علامات اليقين وبوادر الثقة بوعد الله تعالى، في جميع مفاصل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ذلك الصاحب والرفيق المخلص، الذي شهدت له مواقفه العظيمة بعظم القدر، وقوة التحمل والصبر. 

 

من ذلك، موقفه عندما أدركهما الكفار وهما في الغار. قال رضي الله عنه: «كُنْتُ مع النبيِّ في الغارِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فإذا أنا بأَقْدامِ القَوْمِ، فَقُلتُ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، لو أنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنا، قالَ: اسْكُتْ يا أبا بَكْرٍ، اثْنانِ اللَّهُ ثالِثُهُما»

كان لذلك الجواب النابع عن مطلق الثقة بعناية الله ونصره، أعظم الأثر في قلب الصديق رضي الله عنه، إنه استشعار قيمة معية الله تعالى للمؤمن الصادق الناصر للحق القائم على الخير، فأنزل الله قرآنا يتلى إلى يوم القيامة يقول فيه الله تعالى: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40]. هذه الآية ينبغي أن تكون شعاراً للمسلم في وجه التحديات التي يجدها في حياته، ينبغي أن يستحضر معية الله تعالى ونصرته وحفظه للمؤمنين، يتوكل على الله تعالى ويجتهد في التخطيط المحكم والأخذ بالأسباب الدنيوية.

لقد جاءت بشائر كثيرة في سنة رسول الله ، تجدد الأمل وتثبت اليقين، منها وعد الله بأن يبلغ ملك الأمة المشارق والمغارب ومازالت هناك بقاع لم تقع تحت المسلمين، ولابد أن يفتحها الإسلام، كما في الحديث: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُويَ لي منها» رواه مسلم. فإذا عرفنا أن الأصل في الإسلام العلو والسيادة والتمكين، فلا نستيئس من ضعف المسلمين حينا من الدهر، فقد قال رسول الله : «الإسلام يعلو ولا يعلى» الطبراني والبيهقي والدارقطني. ومن بشريات النصر والتمكين قول رسول الله : «ولا يزال الإسلام يزيد وينقص الشرك وأهله، حتى تسير المرأتان لا تخشيان إلا جورا، والذي نفسي بيده لا تذهب الأيام والليالي، حتى يبلغ هذه الدين مبلغ هذا النجم» رواه الطبراني. فالأمل باق، وامتداد سلطان المسلمين مستمر بإذن الله.

وقد وردت أحاديث كثيرة تحمل البشريات، وتذيب كل يأس، وتدفع كل قنوط، وتريح قلب كل فاقد للأمل بأبناء هذا الدين. منها حديث: «بشِّرْ هذهِ الأُمَّةَ بالتيسيرِ ، والسناءِ و الرِّفعةِ بالدِّينِ ، و التَّمكينِ في البلادِ ، والنصرِ ، فمن عمِل منهم بعملِ الآخرةِ للدُّنيا ، فليس لهُ في الآخرةِ من نصيبٍ» أحمد والحاكم والبيهقي في الشعب.

إن راية الدين ستظل مرفوعة إلى يوم القيامة، والطائفة الظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: «لن يبرح هذا الدين قائما، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة» رواه مسلم. فلنتواص بالصبر والثبات، ولنكن رسل تثبيت وتأييد، لا نذُر شر وتثبيط. وليكن جوابنا للمثبطين والمستعجلين، قول النبي لأصحابه حينما اشتكوا من كثرة البلاء وشدته: «وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» رواه البخاري.

 

تلك الثقة التي يريدها المولى تعالى من عباده، هي الثقة التي تحققت في أم موسى عليه السلام حين قال عنها: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ[القصص: 7]. وهكذا ألقته في اليم ولم تخف ولم تحزن، مع أن اليم خطير على الطفل الرضيع عادة، وكتب الله له النجاة، وتلقى فرعون الطفل الرضيع، ولم يخف من كفالته في قصره، لأن الطفل الرضيع لا يخيف من رباه عادة، فكان هلاك فرعون على يديه.

هكذا تجري عجائب قدر الله… وقد حدَّث رسول الله عن ثلاثة أصناف من الناس لا خير فيهم: «ثلاثةٌ لا تَسألُ عنهمْ: رجلٌ يُنازِعُ اللهَ إِزارَهُ، و رجلٌ يُنازِعُ اللهَ رِداءَهُ، فإنَّ رِداءَهُ الكِبرياءُ، و إزارُهُ العِزُّ، ورجلٌ في شكٍّ من أمْرِ اللهِ، و القُنوطِ من رحمةِ الله». إن الأمة التي نخرها داء الشك والقنوط، لن تتقدم في حضارتها، ولا يرجى لها مستقبل قوي، ما لم تستعد الثقة واليقين بنصر رب العالمين. 

 

ولو تتبعنا كتب الحديث والسيرة النبوية، لوجدنا أن رسول الله قد وعد أصحابه بالنصر والفرج مرات كثيرة، وفي مناسبات عديدة. ألم يمر بآل ياسر وهم يعذبون، فكان يقول لهم: صبراً آل ياسر! ألم ينج عمار بن ياسر من ذلك العذاب وكانت له المكانة العظيمة في الإسلام. 

وذاك شيخ المؤذِّنِين، بلال بن رباح، ألم يكن يعذب في بطحاء مكة في شدة الرمضاء والحر الشديد، وتوضع على صدره الصخرة الكبيرة، وهو ثابت لا يتزحزح عن دينه! 

وغيرهم من أوائل المسلمين في مكة المكرمة، في بداية الدعوة المحمدية، يفتنون في دينهم، ويُضيَّق عليهم في حياتهم وأرزاقهم، فلا يتأثرون ولا يعطون الدنية في دينهم. رضي الله عنهم وأرضاهم.

 

لقد تحقق وعد الله ووعد رسوله ، فيما مضى، ولا تزال بشائر النصر والتمكين قائمة، قال تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة، 21]، فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.