فوائد إيمانية من قصة آدم للشيخ علي هاني

يبدأ الأستاذ اللغوي المفسر الشيخ علي هاني في تفسير سورة البقرة في الآيات المتعلقة بقصة آدم عليه السلام، ويبين من خلال تفسيره أن كيد الشيطان قد طاله قبل أن يكيد بالأبوين، ويتناول التفسير خلافة الإنسان في الأرض والحِكَم من وجوده خليفة، والحكمة من خروج آدم من الجنة، ومدى انعكاس ذلك على الأرض في وجود الشرور والآلام التي نتجت عن وجود الإنسان عليها، وإرادة النفس الإنسانية للخير والشر معا، والحكمة من إبقاء إبليس أبد الدهور وموت الأنبياء وعدم إبقائهم.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مختارات من كلام ابن القيم فيما يتعلق بقصة آدم عليه الصلاة والسلام

فصل في بيان كيد الشيطان لنفسه قبل كيده للأبوين:
ثم لم يقتصر على ذلك حتى كاد ذرية نفسه وذرية آدم فكان مشئوما على نفسه وعلى ذريته وأوليائه وأهل طاعته من الجن والإنس
أما كيده لنفسه:

فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عليه السلام كان في امتثال أمره وطاعته سعادته وفلاحه وعزه ونجاته فسولت له نفسه الجاهلة الظالمة: أن في سجوده لآدم عليه السلام غضاضة عليه وهضما لنفسه إذ يخضع ويقع ساجدا لمن خلق من طين وهو مخلوق من نار والنار بزعمه أشرف من الطين [فالمخلوق منه خير من المخلوق منها وخضوع الأفضل لمن هو دونه غضاضة عليه وهضم لمنزلته].

فلما قام بقلبه هذا الهوس وقارنه الحسد لآدم لما رأى ربه سبحانه قد خصه به من أنواع الكرامة فإنه خلقه بيده [1] ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وميزه بذلك عن الملائكة وأسكنه جنته فعند ذلك بلغ الحسد من عدو الله كل مبلغ.

وكان عدو الله يطيف به [أي يدور حوله] وهو صلصال كالفخار فيتعجب منه ويقول: لأمر عظيم قد خلق هذا ولئن سلط علي لأعصينه ولئن سلطت عليه لأهلكنه.

فلما تم خلق آدم عليه السلام في أحسن تقويم وأكمل صورة وأجملها وكملت محاسنه الباطنة بالعلم والحلم والوقار وتولى ربه سبحانه خلقه بيده فجاء في أحسن خلق وأتم صورة طوله في السماء ستون ذراعا قد ألبس رداء الجمال والحسن والمهابة والبهاء فرأت الملائكة منظرا لم يشاهدوا أحسن منه ولا أجمل فوقعوا كلهم سجودا له بأمر ربهم تبارك وتعالى فشق الحسود قميصه من دبر واشتعلت في قلبه نيران الحسد المتين ـ وقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ـ ثم أردف ذلك بالاعتراض على العليم الحكيم الذي لا تجد العقول إلى الاعتراض على حكمته سبيلا فقال:{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: ٦۲].

وتحت هذا الكلام من الاعتراض معنى: أخبرني لم كرمته على وغور هذا الاعتراض [2]: أن الذي فعلته ليس بحكمة ولا صواب وأن الحكمة كانت تقتضي أن يسجد هو لي لأن المفضول يخضع للفاضل فلم خالفت الحكمة.

ثم أردف ذلك بتفضيل نفسه عليه وإزرائه به فقال: أنا خير منه.

ثم قرر ذلك بحجته الداحضة في تفضيل مادته وأصله على مادة آدم عليه السلام وأصله فأنتجت له هذه المقدمات إباءه وامتناعه من السجود ومعصيته الرب المعبود فجمع بين الجهل والظلم والكبر والحسد والمعصية ومعارضة النص بالرأي والعقل.

فأهان نفسه كل الإهانة من حيث أراد تعظيمها ووضعها من حيث أراد رفعتها وأذلها من حيث أراد عزتها وآلمها كل الألم من حيث أراد لذتها ففعل بنفسه ما لو اجتهد أعظم أعدائه في مضرته لم يبلغ منه ذلك المبلغ.

ومن كان هذا غشه لنفسه فكيف يسمع منه العاقل ويقبل ويواليه قال تعالى:{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا} [الكهف: ٥٠].

******

فصل وأما كيده للأبوين:

فقد قص الله سبحانه علينا قصته معهما وأنه لم يزل يخدعهما ويعدهما ويمنيهما الخلود في الجنة حتى حلف لهما بالله جهد يمينه: إنه ناصح لهما حتى اطمأنا إلى قوله وأجاباه إلى ما طلب منهما فجرى عليهما من المحنة والخروج من الجنة ونزع لباسهما عنهما ما جرى وكان ذلك بكيده ومكره الذي جرى به القلم وسبق به القدر[3] ورد الله سبحانه كيده عليه وتدارك الأبوين برحمته ومغفرته فأعادهما إلى الجنة على أحسن الأحوال وأجملها [أي سيحدث ذلك يوم القيامة] وعاد عاقبة مكره عليه ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.

وظن عدو الله بجهله أن الغلبة والظفر له في هذه الحرب ولم يعلم بكمين جيش [4]: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: ۲۳] ولا بإقبال دولة [5] {ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} [طه: ۱۲۲].

وظن اللعين بجهله أن الله سبحانه يتخلى عن صفيه وحبيبه الذي خلقه بيده [6] ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء من أجل أكـْلة ٍأكلها وما علم أن الطبيب قد علـّم المريض الدواء قبل المرض فلما أحس بالمرض بادر إلى استعمال الدواء لما رماه العدو بسهم وقع في غير مقتل فبادر إلى مداواة الجرح فقام كأن لم يكن به قلبة [7]

بلي العدو[إبليس] بالذنب فأصر واحتج وعارض الأمر وقدح في الحكمة ولم يسأل الإقالة ولا ندم على الزلة وبلي الحبيب بالذنب فاعترف وتاب وندم وتضرع واستكان وفزع إلى مـَفـْزع [8]. الخليقة وهو التوحيد والاستغفار فأزيل عنه العتب وغفر له الذنب وقبل منه المتاب وفتح له من الرحمة والهداية كل باب ونحن الأبناء ومن أشبه أباه فما ظلم ومن كانت شيمته التوبة والاستغفار فقد هدي لأحسن الشيم.

قال ابن القيم:
لما طلب آدم الخلود فى الجنة من جانب الشجرة عوقب بالخروج منها ولما طلب يوسف الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤيا لبث فيه بضع سنين

******

كلام العلماء في إثبات العلة لله سبحانه وتعالى ونفيها:
قال الآلوسي:
واللام ظاهرة في التعليل وهي متعلقة بفتنا وما بعدها علة له والسلف كما قال شيخنا إبراهيم الكوراني وقاضي القضاة تقي الدين محمد التنوخي وغيرهما على إثبات العلة لافعاله تعالى استدلالا بنحو عشرة آلاف دليل على ذلك واحتج النافون لذلك بوجوه ردها الثاني في المختبر وذكر الأول في مسلك السداد ما يعلم منه ردها وهذا بحث قد فرغ منه وطوي بساطه وقال غير واحد
وقال الآلوسي:
{ليغفر لك الله}مذهب الأشاعرة القائلين بأن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض أن مثل هذه اللام للعاقبة أو لتشبيه مدخولها بالعلة الغائية في ترتبه على متعلقها وترتب المغفرة على الفتح من حيث أن فيه سعيا منه صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله تعالى بمكابدة مشاق الحروب واقتحام موارد الخطوب والسلف كما قال ابن القيم وغيره يقولون بتعليل أفعاله عز وجل وفي شرح المقاصد للعلامة سعد الدين التفتازاني أن من بعض أدلتهم أي الأشاعرة ومن وافقهم على هذا المطلب يفهم أنهم أرادوا عموم السلب ومن بعضها أنهم أرادوا سلب العموم ثم قال: الحق أن بعض أفعاله تعالى معلل بالحكم والمصالح وذلك ظاهر والنصوص شاهدة به وأما تعميم ذلك بأنه لا يخلو فعل من أفعاله سبحانه من غرض فمحل بحث وذكر الأصفهاني في شرح الطوالع في هذه المسئلة خلافا للمعتزلة وأكثر الفقهاء قال الآلوسي: وأنا أقول: بما ذهب إليه السلف لوجود التعليل فيما يزيد على عشرة آلاف آية وحديث والتزام تأويل جميعها خروج عن الأنصاف ما يذكره الحاضرون من ألأدلة يدفع بأدنى تأمل كما لا يخفى

******

قال ابن القيم: فصل الإنسان خليفة الله في الأرض:
• الله سبحانه مهد الأرض لآدم وذريته قبل خلقه فقال إني جاعل في الأرض خليفة
• وقضى أن يعرفه قدر المخالفة وأقام عذره بقوله فأزلهما الشيطان
• وتداركه برحمة بقوله {ثم اجتباه ربه} يا آدم لا تجزع من كأس ِ خطأ كان سبب كيسك [9] فقد استخرج منك داء العجب وألبسك رداء العبودية لو لم تذنبوا
لا تحزن بقولي لك اهبطوا منها فلك خلقتها [أي الأرض] ولكن اخرج إلى مزرعة المجاهدة واجتهد في البذر واسق شجرة الندم بساقية الدمع فإذا عاد العود أخضر فعد لما كان

******

قال ابن القيم في الفوائد:
قال تعالى {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: ۳٠-۳۳].
فهذه كالمناظرة من الملائكة والجواب عن سؤالهم:
• كأنهم قالوا إن استخلفت في الأرض خليفة كان منه الفساد وسفك الدماء وحكمتك تقتضي أن لا تفعل ذلك
• وإن جعلت فيها فتجعل فيها من يسبح بحمدك ويقدس لك ونحن نفعل ذلك
• فأجابهم تعالى عن هذا السؤال بأن له من الحكمة في جعل هذا الخليفة في الأرض ما لا تعلمه الملائكة وإن وراء ما زعمتم من الفساد مصالح وحكما لا تعلمونها أوصلها بعض العلماء إلى قريب من أربعين حكمة:
• فاستخرج تعالى من هذا الخليفة وذريته الأنبياء والرسل والأولياء والمؤمنين وعمر بهم الجنة وميز الخبيث من ذريته من الطيب فعمر بهم النار
• وكان في ضمن ذلك من الحكم والمصالح ما لم يكن للملائكة تعلمه، ثم إنه سبحانه أظهر فضل الخليفة عليهم بما خص به من العلم الذي لم تعلمه الملائكة وأمرهم بالسجود له تكريما له وتعظيما له وإظهار لفضله
وفي ضمن ذلك من الحكم ما لا يعلمه إلا الله:
1. فمنها امتحانهم بالسجود لمن زعموا أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء فأسجدهم له وأظهر فضله عليهم لما أثنوا على أنفسهم وذموا الخليفة كما فعل سبحانه ذلك بموسى لما أخبر عن نفسه أنه أعلم أهل الأرض فامتحنه بالخضر وعجزه معه في تلك الوقائع الثلاث وهذه سنته تعالى في خليقته وهو الحكيم العليم
• ومنها خبره [10] لهذا الخليفة وابتداؤه له بالإكرام والإنعام لما علم مما يحصل له من الإنكسار والمصيبة والمحنة فابتدأه بالجبر والفضل ثم جاءت المحنة والبلية والذل وكانت عاقبتها إلى الخير والفضل والإحسان فكانت المصيبة التي لحقته محفوفة بإنعامين إنعام قبلها وبعدها [11] ولذريته المؤمنين نصيب مما لأبيهم فإن الله تعالى أنعم عليهم بالإيمان ابتداء وجعل العاقبة لهم فما أصابهم بين ذلك من الذنوب والمصائب فهي محفوفة بإنعام قبلها وإنعام بعدها فتبارك الله رب العالمين
2. ومنها استخراجه تعالى ما كان كامنا في نفس عدوه إبليس من الكبر والمعصية الذي ظهر عند أمره بالسجود فاستحق اللعنة والطرد والإبعاد على ما كان كامنا في نفسه عند إظهاره
• والله تعالى كان يعلم منه ولم يكن ليعاقبه ويلعنه على علمه فيها بل على وقوع معلومة فكان أمره بالسجود له مع الملائكة مظهرا للخبث والكفر الذي كان كامنا فيه ولم تكن الملائكة تعلمه فأظهر لهم سبحانه ما كان يعلمه وكان خافيا عنهم من أمره فكان في الأمر بالسجود له:
أ‌- تكريما لخليفته الذي أخبرهم بجعله في الأرض وجبرا له
ب‌- وتأديبا للملائكة
ت‌- وإظهارا لما كان مستخفيا في نفس إبليس
ث‌- وكان ذلك سببا لتمييز الخبيث من الطيب وهذا من بعض حكمه تعالى في إسجادهم لآدم
3. ثم إنه سبحانه لما علم أدم ما علمه ثم امتحن الملائكة بعلمه فلم يعلموه فأنبأهم به آدم وكان في طي ذلك جوابا لهم عن كون هذا الخليفة لا فائدة في جعله في الأرض فإنه يفسد فيها ويسفك الدماء فأراهم من فضله وعلمه خلاف ما كان في ظنهم

******

الحكمة في إخراج آدم عليه السلام من الجنة:
قال ابن القيم: الوجه السابع والعشرون:
فإن قيل: فأي حكمة ومصلحة في إخراج آدم من الجنة إلى دار الابتلاء والامتحان؟
فالجواب:
أن يقال كم لله سبحانه في ذلك من حكمة وكل فيه من نعمة ومصلحة تعجز العقول عن معرفتها على التفصيل ولو استفرغت قواها كلها في معرفة ذلك:
1. وإهباط آدم وإخراجه من الجنة كان يعسر [12] كماله ليعود إليها على أحسن أحواله [13]
2. وهو سبحانه إنما خلقه ليستعمره وذريته في الأرض ويجعلهم خلفاء يخلف بعضهم بعضا

• فخلقهم سبحانه ليأمرهم وينهاهم ويبتليهم وليست الجنة دار ابتلاء وتكليف فأخرج الأبوين إلى الدار التي خلقوا منها وفيها ليتزودوا منها إلى الدار التي خلقوا لها فإذا وفوا تعب دار التكليف ونصبها عرفوا قدر تلك الدار وشرفها وفضلها ولو نشأوا في تلك الدار لما عرفوا قدر نعمته عليهم بها
• فأسكنهم دار الامتحان وعرضهم فيها لأمره ونهيه لينالوا بالطاعة أفضل ثوابه وكرامته
• وكان من الممكن أن يحصل لهم النعيم المقيم هناك لكن الحاصل عقيب الابتلاء والامتحان ومعانات الموت وما بعده وأهوال القيامة والعبور على الصراط نوع آخر من النعيم لا يدرك قدره وهو أكمل من نعيم من خلق في الجنة من الولدان والحور العين بما لا يشبه بينهما بوجه من الوجوه

3. ومن الحكم في ذلك أنه سبحانه أراد أن يتخذ من ذرية آدم رسلا وأنبياء وشهداء يحبهم ويحبونه وينزل عليهم كتبه ويعهد إليهم عهده ويستعبدهم له في السراء والضراء ويؤثرون محابه ومراضيه على شهواتهم وما يحبونه ويهوونه فاقتضت حكمته أن أنزلهم إلى دار ابتلاهم فيها بما ابتلاهم ليكملوا بذلك الابتلاء مراتب عبوديته ويعبدونه بما تكرهه نفوسهم وذلك محض العبودية وإلا فمن يعبد الله إلا بما يحبه ويهواه فهو في الحقيقة إنما يعبد نفسه وهو سبحانه يحب من أوليائه أن يوالوا فيه ويعادوا فيه ويبذلوا نفوسهم في مرضاته ومحابه وهذا كله لا يحصل في دار النعيم المطلق
4. ومن الحكمة في إخراجه من الجنة ما تقدم التنبيه عليه من اقتضاء أسماء الله الحسنى لمسمياتها ومتعلقاتها كالغفور الرحيم التواب العفو المنتقم الخافض الرافع المعز المذل المحيي المميت الوارث ولا بد من ظهور أثر هذه الأسماء ووجود ما يتعلق به فاقتضت حكمته أن إنزال الأبوين من الجنة ليظهر مقتضى أسمائه وصفاته فيهما وفي ذريتهما فلو تـَرَبـَّتْ الذرية في الجنة لفاتت آثار هذه الأسماء وتعلقاتها والكمال الإلهي يأبى ذلك
• فإنه الملك الحق المبين، والملك هو الذي يأمر وينهى ويكرم ويهين ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل فأنزل الأبوين والذرية إلى دار تجري عليهم هذه الأحكام
5. وأيضا فإنهم أنزلوا إلى دار يكون إيمانهم تاما فإن الإيمان قول وعمل [14] وجهاد وصبر واحتمال وهذا كله إنما يكون في دار الامتحان لا في جنة النعيم وقد ذكر غير واحد من أهل العلم منهم أبو الوفا بن عقيل [15] وغيره أن أعمال الرسل والأنبياء والمؤمنين في الدنيا أفضل من نعيم الجنة قالوا لأن نعيم الجنة حظهم وتمتعهم فأين يقاس إلى الإيمان وأعماله والصلوات وقراءة القرآن والجهاد في سبيل الله وبذل النفوس في مرضاته وإيثاره على هواها وشهواتها فالأيمان متعلق به سبحانه وهو حقه عليهم ونعيم الجنة متعلق بهم وهو حظهم فهم إنما خلقوا للعبادة والجنة دار نعيم لا دار تكليف وعبادة
6. وأيضا فإنه سبحانه سبق حكمه وحكمته بأن يجعل في الأرض خليفة وأعلم بذلك ملائكته فهو سبحانه قد أراد بكون هذا الخليفة وذريته في الأرض قبل خلقه لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة فلم يكن بد من إخراجه من الجنة إلى دار قدّر سكناهم فيها قبل أن يخلقه
وكان ذلك التقدير بأسباب وحكم:
أ‌- فمن أسبابه النهي عن تلك الشجرة وتخليته بينه وبين عدوه حتى وسوس إليه بالأكل وتخليته بينه وبين نفسه حتى وقع في المعصية وكانت تلك الأسباب موصلة إلى غايات محمودة مطلوبة يترتب على خروجه من الجنة ثم يترتب على خروجه أسباب أخر جعلت غايات لحكم أخر
ب‌- ومن تلك الغايات عوده إليها [أي إلى الجنة] على أكمل الوجوه [16] فذلك التقدير وتلك الأسباب وغاياتها صادرة عن محض الحكمة البالغة التي يحمده عليها أهل السماوات والأرض والدنيا والآخرة فما قدر أحكم الحاكمين ذلك باطلا ولا دبره عبثا ولا أخلاه من حكمته البالغة وحمده التام
7. وأيضا فإنه سبحانه قال للملائكة: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}
أ‌- ثم أظهر سبحانه من علمه وحكمته الذي خفي على الملائكة من أمر هذا الخليفة ما لم يكونوا يعرفونه: بأن جعل من نسله من أوليائه وأحبائه ورسله وأنبيائه من يتقرب إليه بأنواع التقرب ويبذل نفسه في محبته ومرضاته يسبح بحمده أناء الليل وأطراف النهار ويذكره قائما وقاعدا وعلى جنبه ويعبده ويذكره ويشكره في السراء والضراء والعافية والبلاء والشدة والرخاء فلا يثنيه عن ذكره وشكره وعبادته شدة ولا بلاء ولا فقر ولا مرض ويعبده مع معارضة الشهوة وغلبات الهوى وتعاضد الطباع لأحكامها ومعاداة بني جنسه وغيرهم له فلا يصده ذلك عن عبادته وشكره وذكره والتقرب إليه فإن كانت عبادتكم لي بلا معارض ولا ممانع فعبادة هؤلاء لي مع هذه المعارضات والموانع والشواغل
ب‌- وأيضا فإنه سبحانه أراد أن يظهر لهم ما خفي عليهم من شأن ما كانوا يعظمونه ويجلونه ولا يعرفون ما في نفسه من الكبر والحسد والشر[يعني إبليس]

فذلك الخير وهذا الشر كامن في نفوس لا يعلمونها فلا بد من إخراجه وإبرازه لكي يعلم حكمة أحكم الحاكمين في مقابلة كل منهما بما يليق به
8. وأيضا فإنه سبحانه لما خلق خلقه أطوارا وأصنافا وسبق في حكمه وحكمته تفضيل آدم وبنيه على كثير ممن خلق تفضيلا جعل عبوديتهم أكمل من عبودية غيرهم
• وكانت العبودية أفضل أحوالهم وأعلى درجاتهم أعني العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعا واختيارا لا كرها واضطرارا
• ولهذا أرسل الله جبريل إلى سيد هذا النوع الإنساني يخيره بين أن يكون عبدا رسولا أو ملكا نبيا فاختار بتوفيق ربه له أن يكون عبدا رسولا وذ َكـَرَه سبحانه بأتم العبودية في أشرف مقاماته وأفضل أحواله كمقام الدعوة والتحدي والإسراء وإنزال القرآن: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ}، {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} فأثنى عليه ونوه الله لعبوديته التامة له ولهذا يقول أهل الموقف حين يطلبون الشفاعة اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
• فلما كانت العبودية أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله وكان لها لوازم وأسباب مشروطة لا يحصل إلا بها كان من أعظم الحكمة أن أخرجوا إلى دار تجري عليهم فيها أحكام العبودية وأسبابها وشروطها وموجباتها فكان إخراجهم من الجنة:
أ‌- تنكيلا لهم ب) وإتماما لنعمته عليهم ج) مع ما في ذلك من محبوبات الرب تعالى فإنه يحب: إجابة الدعوات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات ومغفرة الزلات وتكفير السيئات ودفع البليات وإعزاز من يستحق العز وإذلال من يستحق الذل ونصر المظلوم وجبر الكسير ورفع بعض خلقة على بعض وجعلهم درجات ليعرف قدر فضله وتخصيصه
فاقتضى ملكه التام وحمده الكامل أن يخرجهم إلى دار يحصل فيها محبوباته سبحانه وإن كان لكثير منها طرق وأسباب يكرهها فالوقوف على الشيء لا بدونه وإيجاد لوازم الحكمة من الحكمة كما أن إيجاد لوازم العدل من العدل كما ستقف عليه

9. وأيضا أنه سبحانه أبرز خلقه من العدم إلى الوجود ليجري عليهم أحكام أسمائه وصفاته فيظهر كماله المقدس وإن كان لم يزل كاملا
فمن كماله ظهور: آثار كماله في خلقه وأمره وقضائه وقدره ووعده ووعيده ومنعه وإعطائه وإكرامه وإهانته وعدله وفضله وعفوه وإنعامه وسعة حلمه وشدة بطشه
• وقد اقتضى كماله المقدس سبحانه أنه كل يوم هو في شأن فمن جملة شؤونه: أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويشفي مريضا ويفك عانيا وينصر مظلوما ويغيث ملهوفا ويجبر كسيرا ويغني فقيرا ويجيب دعوة ويقيل عثرة ويعز ذليلا ويذل متكبرا ويقصم جبارا ويميت ويحيي ويـُضحـِك ويـُبـِكي ويخفض ويرفع ويعطي ويمنع ويرسل رسله من الملائكة ومن البشر في تنفيذ أوامره وسوق مقاديره التي قدرها إلى مواقيتها التي وقتها لها وهذا كله لم يكن ليحصل في ذات البقاء [أي البقاء في الجنة] وإنما اقتضت حكمته البالغة حصوله في دار الامتحان والابتلاء [الدنيا]
10. وأيضا إن كمال ملكه التام اقتضى كمال تصرفه فيه بأنواع التصرف ولهذا جعل الله سبحانه الدور ثلاثة:
• دارا أخلصها للنعيم واللذة والبهجة والسرور [الجنة]
• ودارا أخلصها للألم والنصب وأنواع البلاء والشرور [النار]
• ودارا خلط خيرها بشرها ومزج نعيمها بشقائها ومزج لذتها بألمها يلتقيان ويطالبان [دار الدنيا]
وجعل عمارة تينك الدارين[النار والجنة] من هذه الدار[دار الدنيا] وأجرى أحكامه على خلقه في الدور الثلاثة بمقتضى ربوبيته إلهيته وعزته وحكمته وعدله ورحمته فلو أسكنهم كلهم دار البقاء [الجنة] من حين أوجدهم لتعطلت أحكام هذه الصفات ولم يترتب عليها آثارها
11. وأيضا أن يوم المعاد الأكبر يوم مَـظـْهر الأسماء والصفات وأحكامها ولهذا يقول سبحانه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وقال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} وقال: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} حتى إن الله سبحانه ليتعرف إلى عباده ذلك اليوم بأسماء وصفات لم يعرفوها في هذه الدار فهو يوم ظهور المملكة العظمى والأسماء الحسنى والصفات العلى. فتأمل ما أخبر به والله ورسوله من شأن ذلك اليوم وأحكامه وظهور عزته تعالى وعظمته وعدله وفضله ورحمته وآثار صفاته المقدسة التي لو خلقوا في دار البقاء [الجنة] لتعطلت، وكماله سبحانه ينفي ذلك.
12. أن الله سبحانه يحب أن يعبد بأنواع التعبدات كلها، ولا يليق ذلك إلا بعظمته وجلاله ولا يحسن ولا ينبغي إلا له وحده
• ومن المعلوم أن أنواع التعبد الحاصلة في دار الابتلاء والامتحان [الدنيا] لا يكون في دار المجازاة [الجنة] وإن كان في هذه الدار[الدنيا] بعض المجازاة
• وكمالها وتمامها إنما هو في تلك الدار وليست دار عمل وإنما هي دار جزاء وثواب، أوجب كماله المقدس أن يجزي فيها الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى
• فلم يكن بد من دار تقع فيها الإساءة والإحسان ويجري على أهلها أحكام الأسماء والصفات ثم يعقبها دارا يجازي فيها المحسن والمسيء ويجري على أهلها فيها أحكام الأسماء والصفات فتعطيل أسمائه وصفاته ممتنع ومستحيل وهو تعطيل لربوبيته وإلهيته وملكه وعزه وحكمته ـ
13. وأيضا أنه كم لله سبحانه من حكمة وحمد وأمر ونهي وقضاء وقدر في جعل بعض عباده فتنة لبعض كما قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} [الأنعام: ٥۳]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}[الفرقان: ۲٠]:
• فهو سبحانه جعل أوليائه فتنة لأعدائه
• وأعداءه فتنته لأوليائه
• والملوك فتنة للرعية
• والرعية فتنة لهم
• والرجال فتنة للنساء وهن فتنة لهم
• والأغنياء فتنة للفقراء والفقراء فتنة لهم
• وابتلى كل أحد بضد جعله متقابلا
• فما استقرت أقدام الأبوين على الأرض إلا وضدهما مقابلهما واستمر الأمر في الذرية كذلك إلى أن يطوي الله الدنيا ومن عليها وكم له سبحانه في مثل هذا الابتلاء والامتحان من حكمة بالغة ونعمة سابغة وحكم نافذ وأمر ونهي وتصريف دال على ربوبيته وإلهيته وملكه وحمده وكذلك ابتلاء عباده بالخير والشر في هذه الدار هو من كمال حكمته ومقتضى حمده التام،

14. أنه لولا هذا الابتلاء والامتحان لما ظهر فضل الصبر والرضا والتوكل والجهاد والعفة والشجاعة والحلم والعفو والصفح
• والله سبحانه يحب أن يكرم أوليائه بهذه الكمالات ويحب ظهورها عليهم ليثني بها عليهم هو وملائكته وينالوا باتصافهم بها غاية الكرامة واللذة والسرور وإن كانت مـُرَّة َالمبادئ [17] فلا أحلى من عواقبها ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع
• وقد أجرى الله سبحانه حكمته بأن كمال الغايات تابعة لقوة أسبابها [18] وكمالها ونقصانها لنقصانها فمن كمل أسباب النعيم واللذة كملت له غاياتها ومن حرمها حرمها ومن نقصها نقص له من غاياتها وعلى هذا قام الجزاء بالقسط والثواب والعقاب وكفى بهذا العالم شاهدا لذلك فرب الدنيا والآخرة واحد وحكمته مطردة فيهما وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون يوضحه،
15. وهو أن أفضل العطاء وأجله على الإطلاق الإيمان وجزاؤه وهو لا يتحقق إلا بالامتحان والاختبار قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: ۲-٦].
• فذكر سبحانه [19] في هذه السورة أنه لا بد أن يمتحن خلقه ويفتنهم ليتبين الصادق من الكاذب والمؤمن من الكافر ومن يشكره ويعبده ممن يكفره ويعرض عنه ويعبد غيره وذكر أحوال الممتحنين في العاجل والآجل
• وذكر أئمة الممتحنين في الدنيا وهم الرسل وأتباعهم وعاقبة أمرهم وما صاروا إليه
• وافتتح بالإنكار على من يحسب أنه يتخلص من الامتحان والفتنة في هذه الدار إذا ادعى الإيمان
• وأن حكمته سبحانه وشأنه في خلقه يأبى ذلك
• وأخبر عن سر هذه الفتنة والمحنة وهو تبيين الصادق من الكاذب والمؤمن من الكافر
• وهو سبحانه كان يعلم ذلك قبل وقوعه ولكن اقتضى عدله وحمده أنه لا يجزي العباد بمجرد علمه فيهم بل بمعلومه إذا وجد وتحقق
• والفتنة هي التي أظهرته وأخرجته إلى الوجود فحينئذ حسن وقوع الجزاء عليه
• ثم أنكر سبحانه على من لم يلتزم الإيمانَ به ومتابعة َرسله خوف الفتنة والمحنة التي يمتحن بها رسله وأتباعهم ظنه وحسبانه أنه بإعراضه عن الإيمان وتصديق رسله يتخلص من الفتنة والمحنة فإن بين يديه من الفتنة والمحنة والعذاب أعظم وأشق مما فر عنه فإن المكلفين بعد إرسال الرسل إليهم بين أمرين:

أ‌- إما أن يقول أحدهم آمنت
ب‌- وإما أن لا يقول بل يستمر على السيئات
• فمن قال آمنت امتحنه الرب تعالى وابتلاه لتتحقق بالإيمان حجة إيمانه وثباته عليه وأنه ليس بإيمان عافية ورخاء بل إيمان ثابت في حالتي النعماء والبلاء
• ومن لم يؤمن فلا يحسب أنه يعجز ربه تعالى ويفوته بل هو في قبضته وناصيته بيده فله من البلاء أعظم مما ابتلى به من قال آمنت

• فمن آمن به وبرسله فلا بد أن يبتلي من أعدائه وأعداء رسله بما يؤلمه ويشق عليه
• ومن لم يؤمن به وبرسله فلا بد أن يعاقبه فيحصل له من الألم والمشقة أضعاف ألم المؤمنين
• فلا بد من حصول الألم لكل نفس مؤمنة أو كافرة لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا أشد ثم ينقطع الألم والمشقة وهكذا يحصل له اللذة والسرور ابتداء ويعقبه الألم والمشقة
• وهكذا حال الذين يتبعون الشهوات فيلتذون بها ابتداء ثم تعقبها الآلام بحسب ما نالوه منها
• والذين يصبرون عنها يألمون بفقدها ابتداء ثم يعقب ذلك الألم من اللذة والسرور بحسب ما صبروا عنه وتركوه منها
• فالألم واللذة أمر ضروري لكل إنسان لكن الفرق بين العاجل المنقطع اليسير والآجل الدائم العظيم بون ولهذا كان خاصة العقل النظر في العواقب والغايات فمن ظن أنه يتخلص من الألم بحيث لا يصيبه البتة فظنه أكذب الحديث فإن الإنسان خلق عرضة للذة والألم والسرور والحزن والفرح والغم وذلك من جهتين:
1. من جهة تركبه وطبيعته وهيئته فإنه مركب من أخلاط متفاوتة متضادة يمتنع عن حد الاعتدال من كل وجه بل لا بد أن يبغي بعضها على بعض فتخرج عن حد الاعتدال فيحصل الألم
2. ومن جهة بني جنسه فإنه مدني بالطبع لا يمكنه أن يعيش وحده بل لا يعيش إلا معهم وله ولهم لذاذات ومطالب متضادة ومتعارضة لا يمكن الجمع بينها بل إذا حصل منها شيء فات منها أشياء:
• فهو يريد منهم أن يوافقوه على مطالبه وإرادته
• وهم يريدون منه ذلك
• فإن وافقهم حصل له من الألم والمشقة بحسب ما فاته من إرادته
• وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وسعوا في تعطيل مراداته كما لم يوافقهم على مراداتهم فيحصل له من الألم والتعذيب بحسب ذلك
• فهو في ألم ومشقة وعناء ، وافقهم أو خالفهم، ولا سيما إذا كانت موافقتهم على أمور يعلم أنها عقائد باطلة وإرادات فاسدة وأعمال تضره في عواقبها ففي موافقتهم أعظم الألم وفي مخالفتهم حصول الألم
• فالعقل والدين والمروءة والعلم تأمره باحتمال أخف الألمين تخلصا من أشدهما وبإيثار المنقطع منهما [وهو العذاب الدنيوي] لينجو من الدائم المستمر[العذاب الأخروي]
أ‌- فمن كان ظهيرا للمجرمين من الظلمة على ظلمهم ـ ـ ـ ـ ـومن أهل الفجور والشهوات على فجورهم وشهواتهم ، ليتخلص بمظاهرتهم من ألم أذاهم أصابه من ألم الموافقة لهم عاجلا وآجلا أضعاف أضعاف ما فر منه
• وسنة الله في خلقه أن يعذبهم بإنذار من إيمانهم وظاهرهم
ب‌) وإن صبر على ألم مخالفتهم ومجانبتهم أعقبه ذلك لذة عاجلة وآجلة تزيد على لذة الموافقة بأضعاف مضاعفة
• وسنة الله في خلقه أن يرفعه عليهم ويذلهم به بحسب صبره وتقواه وتوكله وإخلاصه
• وإذا كان لا بد من الألم والعذاب فذلك في الله وفي مرضاته ومتابعة رسله أولى وأنفع منه في الناس ورضائهم وتحصيل مراداتهم
• ولما كان زمن التألم والعذاب صبره طويل، فأنفاسه ساعات، وساعاته أيام ،وأيامه شهوروأعوام، بلا [أي ابتلى] سبحانه الممتحنين فيه بأن ذلك الابتلاء آجلا ثم ينقطع وضرب لأهله أجلا للقائه يسليهم به ويشكر نفوسهم ويهون عليهم أثقاله فقال: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
• فإذا تصور العبد أجل ذلك البلاء وانقطاعه وأجل لقاء المبتلى سبحانه وإثباته هان عليه ما هو فيه وخف عليه حمله
• ثم لما كان ذلك لا يحصل إلا بمجاهدة للنفس وللشيطان ولبني جنسه وكان العامل إذا علم أن ثمرة علمه وتعبه يعود عليه وحده لا يشكره فيه
غيره ـ كان أتم اجتهادا وأوفر سعيا فقال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} وأيضا فلا يتوهم متوهم أن منفعة هذه المجاهدة والصبر والاحتمال يعود على الله سبحانه فإنه غني عن العالمين لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا منه عليهم بل أمرهم بما يعود نفعه ومصلحته عليهم في معاشهم ومعادهم ونهاهم عما يعود مضرته وعتيه عليهم في معاشهم ومعادهم فكانت ثمرة هذا الابتلاء والامتحان مختصة بهم
• واقتضت حكمته أن نصب ذلك سببا مقضيا إلى يميز الخبيث من الطيب والشقي من الغوي ومن يصلح له ممن لا يصلح قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فابتلاهم سبحانه بإرسال الرسل إليهم بأوامره ونواهيه واختياره فامتاز برسله طيبهم من خبيثهم وجيدهم من رديئهم فوقع الثواب والعقاب على معلوم أظهره ذلك الابتلاء والامتحان
• ثم لما كان الممتحن لا بد أن ينحرف عن طريق الصبر والمجاهدة لدواعي طبيعته وهواه وضعفه عن مقاومة ما ابتلي به وعده سبحانه أن يتجاوز له عن ذلك ويكفره عنه لأنه لما أمر به والتزم طاعته اقتضت رحمته أن كفر عنه سيئاته وجازاه بأحسن أعماله
• ثم ذكر سبحانه ابتلاء العبد بأبويه وما أمر به من طاعتهما وصبره على مجاهدتهما له على أن لا يشرك به فيصبر على هذه المحنة والفتنة ولا يطيعهما بل يصاحبهما على هذه الحال معروفا ويعرض عنهما إلى متابعة سبيل رسله وفي الإعراض عنهما وعن سبيلهما والإقبال على من خالفهما وعلى سبيله من الامتحان والابتلاء ما فيه
• ثم ذكر سبحانه حال من دخل في الإيمان على ضعف عزم وقلة صبر وعدم ثبات على المحنة والابتلاء وأنه إذا أوذي في الله كما جرت به سنة الله واقتضت حكمته من ابتلاء أوليائه بأعدائه وتسليطهم عليهم بأنواع المكاره والأذى لم يصبر على ذلك وجزع منه وفر منه ومن أسبابه كما يفر من عذاب الله فجعل فتنة الناس له على الإيمان وطاعة رسله كعذاب الله لمن يعذبه على الشرك ومخالفة رسله وهذا يدل على عدم البصيرة وأن الإيمان لم يدخل قلبه ولا ذاق حلاوته حتى سوى بين عذاب الله له على الإيمان بالله ورسوله وبين عذاب الله لمن لم يؤمن به وبرسله وهذا حال من يعبد الله على حرف واحد لم ترسخ قدمه في الإيمان وعبادة الله فهو من المفتونين المعذبين وإن فر من عذاب الناس له على الإيمان.
16. ثم قال ابن القيم:
• أخبرسبحانه أنه خلق السماوات والأرض العالم العلوي والسفلي ليبلونا أينا أحسن عملا
• وأخبر أنه زين الأرض بما عليها من حيوان ونبات ومعادن وغيرها لهذا الابتلاء
• وأنه خلق الموت والحياة لهذا الابتلاء
• فكان هذا الابتلاء غاية الخلق والأمر فلم يكن من بد من دار يقع فيها هذا الابتلاء وهي دار التكليف ولما سبق في حكمته أن الجنة دار نعيم لا دار ابتلاء وامتحان جعل قبلها دار الابتلاء جسرا يعبر عليه إليها ومزرعة يبذر فيها وميناء يزود منها
• وهذا هو الحق الذي خلق الخلق به ولأجله وهو أن يعبد وحده بما أمر به على ألسنة رسله فأمر ونهى على السنة ووعدنا بالثواب والعقاب ولم يخلق خلقه سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يتركهم هملا لا يثيبهم ولا يعاقبهم بل خلقوا للأمر والنهي والثواب والعقاب ولا يليق بحكمته وحمده غير ذلك.

******

قال ابن القيم في موضع آخر له:
قال صلى الله عليه وسلم: “لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن” فالقضاء كله خير لمن أعطي الشكر والصبر جالبا ما جلب
وكذلك ما فعله بآدم وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم من الأمور التي هي في الظاهر محن وابتلاء وهي في الباطن طرق خفية أدخلهم بها إلى غاية كمالهم وسعادتهم
• فتأمل قصة موسى وما لطف له من إخراجه في وقت ذبح فرعون للأطفال ووحيه إلى أمه أن تلقيه في اليم وسوقه بلطفه إلى دار عدوه الذي قدر هلاكه على يديه وهو يذبح الأطفال في طلبه فرماه في بيته وحجره على فراشه ثم قدر له سببا أخرجه من مصر وأوصله به إلى موضع لا حكم لفرعون عليه ثم قدر له سببا أوصله به إلى النكاح والغنى بعد العزوبة والعيلة ثم ساقه إلى بلد عدوه فأقام عليه به حجته ثم أخرجه وقومه في صورة الهاربين الفارين منه وكان ذلك عين نصرتهم على أعدائهم وإهلاكهم وهم ينظرون
• وهذا كله مما يبين أنه سبحانه يفعل ما يفعله لما يريده من العواقب الحميدة والحكم العظيمة التي لا تدركها عقول الخلق مع ما في ضمنها من الرحمة التامة والنعمة السابغة والتعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته
فكم في أكل آدم من الشجرة التي نهى عنها وإخراجه بسببها من الجنة من حكمة بالغة لا تهتدي العقول إلى تفاصيلها
• وكذلك ما قدره لسيد ولده محمد صلى الله عليه وسلم من الأمور التي أوصله بها إلى أشرف غاياته وأوصله بالطرق الخفية فيها إلى أحمد العواقب
• وكذلك فعله بعباده وأوليائه يوصل إليهم نعمة ويسوقهم إلى كمالهم وسعادتهم في الطرق الخفية التي لا يهتدون إلى معرفتها إلا إذا لاحت لهم عواقبها
• وهذا أمر يضيق الجنان [القلب]عن معرفة تفاصيله ويحصر اللسان عن التعبير عنه وأعرف خلق الله به أنبياؤه ورسله وأعرفهم به خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته في العلم به على مراتبهم ودرجاتهم ومنازلهم من العلم بالله وبأسمائه وصفاته

قال ابن القيم [20]:
فإن قيل في إيجاد الإنسان شرور كثيرة وآلام وإفساد وسفك للدماء؟
قيل من كمال الوجود خلقه كذلك، وكذلك كمال فاطرها ومبدعها اقتضى خلقها على هذه الصفة
• لما في ذلك من الحكم التي لا يحصيها إلا مبدعها سبحانه
• وإن كان في إيجاد هذه النفس شرا فهو شر جزئي بالنسبة إلى الخير الكلي الذي هو سبب إيجادها فوجودها خير من أن لا توجد
• فلو لم يخلق مثل هذه النفس لكان في الوجود نقصا وفوات حـِكـَم ومصالح عظيمة موقوفة على خلق مثل هذه النفس ولهذا لما اعترضت الملائكة على خلق الإنسان وقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} أجابهم سبحانه بأن في خلقه من الحكم والمصالح ما لا تعلمه الملائكة والخالق سبحانه يعلمه وإذا كانت الملائكة لا تعلم ما في خلق هذا الإنسان الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء من الحكم والمصالح فغيرهم أولى أن لا يحيط به علما
• فخلق هذا الإنسان من تمام الحكمة والرحمة والمصلحة وإن كان وجوده مستلزما لشر فهو شر مغمور بما في إيجاده من الخير كإنزال المطر والثلج وهبوب الرياح وطلوع الشمس وخلق الحيوان والنبات والجبال والبحار
• وهذا كما أنه في خلقه فهو في شرعه ودينه وأمره فإن ما أمر به من الأعمال الصالحة خيره ومصلحته راجح وإن كان فيه شر فهو مغمور جدا بالنسبة إلى خيره وما نهى عنه من الأعمال والأقوال القبيحة فشره ومفسدته راجح والخير الذي فيه مغمور جدا بالنسبة إلى شره
• فسنته سبحانه في خلقه وأمره فعل الخير الخالص والراجح والأمر بالخير الخالص والراجح فإذا تناقضت أسباب الخير والشرـ والجمع بين النقيضين محال ـ قدم أسباب الخير الراجحة على المرجوحة ولم يكن تفويت المرجوحة شرا ودفع أسباب الشر الراجحة بالأسباب المرجوحة ولم يكن حصول المرجوحة شرا بالنسبة إلى ما اندفع بها من الشر الراجح
• وكذلك سنته في شرعه وأمره فهو يقدم الخير الراجح وإن كان في ضمنه شر مرجوح ويعطل الشر الراجح وإن فات بتعطيله خير مرجوح هذه سنته فيما يحدثه ويبدعه في سماواته وأرضه وما يأمر به وينهى عنه وكذلك سنته في الآخرة وهو سبحانه قد أحسن كل شيء خلقه وقد أتقن كل ما صنع وهذا أمر يعلمه العالمون بالله جملة ويتفاوتون في العلم بتفاصيله
• وإذا عرف ذلك فالآلام والمشاق:
1) إما إحسان ورحمة
2) وإما عدل وحكمة
3) وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها
4) وإما لدفع ألم هو أصعب منها
5) وإما لتولدها عن لـَذ ّات ونـِعـَم يولدها عنها أمر لازم لتلك اللذات
6) وإما أن يكون من لوازم العدل أو لوازم الفضل والإحسان فيكون من لوازم الخير التي إن عطلت ملزوماتها فات بتعطيلها خير أعظم من مفسدة تلك الآلام
• والشرع والقدر أعدلا شاهد بذلك:
ـ فكم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر
ـ وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى كما سماه الله بقوله: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} [النساء: ١٠۲]
ـ وكم في هذا الحر والبرد والرياح من أذى موجب لأنواع من الآلام لصنوف من الحيوانات وأعظم لذات الدنيا لذة الأكل والشرب والنكاح واللباس والرياسة ومعظم آلام أهل الأرض أو كلها ناشئة عنها ومتولدة منها
ـ بل الكمالات الإنسانية لا تنال إلا بالآلام والمشاق كالعلم والشجاعة والزهد والعفة والحلم والمروءة والصبر والإحسان كما قال:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والأقدام قتال
• وإذا كانت الآلام أسبابا للذات أعظم منها وأدوم منها كان العقل يقضي باحتمالها وكثيرا ما تكون الآلام أسبابا لصحة لولا تلك الآلام لفاتت
• وهذا شأن أكبر أمراض الأبدان فهذه الحمى فيها من المنافع للأبدان مالا يعلمه إلا الله وفيها من إذابة الفضلات وإنضاج المواد الفجة [21] وإخراجها ما لا يصل إليه دواء غيرها وكثير من الأمراض إذا عرض لصاحبها الحمى استبشر بها الطبيب وأما انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض فأمر لا يحس به إلا من فيه حياة
• فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها وقد أحصيت فوائد الأمراض فزادت على مائة فائدة
• وقد حجب الله سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره وجعلها جسرا موصلا إليها كما حجب أعظم الآلام بالشهوات واللذات وجعلها جسرا موصلا إليها ولهذا قالت العقلاء قاطبة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم وأن الراحة لا تنال بالراحة وأن من آثر اللذات فاتته اللذات
• فهذه الآلام والأمراض والمشاق من أعظم النعم إذ هي أسباب النعم وما تنال الحيوانات غير المكلفة [22] منها فمغمور جدا بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها كما ينالها من حرّ الصيف وبرد الشتاء وحبس المطر والثلج وألم الحمل والولادة والسعي في طلب أقواتها وغير ذلك ولكن لذاتها أضعاف أضعاف آلامها وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام
• فسنة الله في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمال علمه وحكمته وعزته ولو اجتمعت عقول العقلاء كلهم على أن يقترحوا أحسن منها لعجزوا عن ذلك وقيل لكل منهم أرجع بصرالعقل فهل ترى من خلل: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: ۳]
• فتبارك الذي من كمال حكمته وقدرته أن أخرج الأضداد من أضدادها والأشياء من خلافها فأخرج الحي من الميت والميت من الحي والرطب من اليابس واليابس من الرطب فكذلك أنشأ اللذات من الآلام والآلام من اللذات فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها
• وبعد فاللذة والسرور والخير والنعم والعافية والمصلحة والرحمة في هذه الدار المملوءة بالمحن والبلاء أكثر من أضدادها بأضعاف والله سبحانه لم يخلق الآلام واللذات سدى ولم يقدرهما عبث
• ا ومن كمال قدرته وحكمته أن جعل كل واحد منهما يثمر الأخرى
• ولما كانت الآلام أدوية للأرواح والأبدان كانت كمالا للحيوان خصوصا لنوع الإنسان فإن فاطره وبارئه إنما أمرضه ليشفيه وإنما ابتلاه ليعافيه وإنما أماته ليحييه فهو سبحانه يسوق الحيوان والإنسان في مراتب كماله طورا بعد طور إلى آخر كماله بأسباب لا بد منها وكماله موقوف على تلك الأسباب ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع كوجود المخلوق بدون الحاجة والفقر والنقص ولوازم ذلك ولوازم تلك اللوازم
• ولكن أكثر النفوس جاهلة بالله وحكمته وعلمه وكماله فيفرض أمورا ممتنعة ويقدرها تقديرا ذهنيا ويحسب أنها أكمل من الممكن الواقع ومع هذا فربها يرحمها لجهلها وعجزها ونقصها فإن اعترفت بذلك واعترفت له بكماله وحمده وقامت بمقتضى هذين الاعترافين كان نصيبها من الرحمة أوفر
• والله سبحانه افتتح الخلق بالحمد وختم أمر هذا العالم بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وأنزل كتابه بالحمد وشرع دينه بالحمد وأوجب ثوابه وعقابه بالحمد فحمده من لوازم ذاته إذ يستحيل أن يكون إلا محمودا فالحمد سبب الخلق وغايته الحمد أوجبه وللحمد وجد فحمده واسع لما وسعه علمه ورحمته وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما فلم يوجد شيئا ولم يقدره ولم يشرعه إلا بحمده ولحمده وكل ما خلقه وشرعه فهو متضمن للغايات الحميدة ولا بد من لوازمها ولوازم لوازمها ولهذا ملأ حمده سماواته وأرضه وما بينهما وما شاء من شيء بعد مما خلقه ويخلقه بعد هذا الخلق فحمده ملأ ذلك كله وحمده تعالى أنواع:
1) حمد على ربوبيته
2) وحمد على تفرده بها
3) وحمد على ألوهيته وتفرده
4) وحمد على نعمته
5) وحمد على منته
6) وحمد على حكمته
7) وحمد على عدله في خلقه
8) وحمد على غناه عن إيجاد الولد والشريك والولي من الذل
9) وحمده على كماله الذي لا يليق بغيره
فهو محمود على كل حال وفي كل آن ونفس وعلى كل ما فعل وكل ما شرع وعلى كل ما هو متصف به وعلى كل ما هو منزه عنه وعلى كل ما في الوجود من خير وشر ولذة وألم وعافية وبلاء
• فكما أن الملك كله له والقدرة كلها له والعزة كلها له والعلم كله له والجمال كله له والحمد كله له كما في الدعاء المأثور “اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله واليك يرجع الأمر كله وأنت أهل لأن تحمد” وما عمرت الدنيا إلا بحمده ولا الجنة إلا بحمده ولا النار إلا بحمده حتى أن أهلها ليحمدونه كما قال الحسن: “لقد دخل أهل النار النار وإن قلوبهم لتحمده ما وجدوا عليه من حجة ولا سبيل”.

******

قال ابن القيم:
فإن قيل:
• أي حكمة في خلق النفس مريدة للخير والشر وهلا خلقت مريدة للخير وحده؟
• وكيف اقتضت الحكمة تمكينها من الشر مع القدرة على منعها منه؟
• وأي حكمة في إعطائها قوة وأسبابا يعلم المعطي أنها لا يفعل بها إلا الشر وحده؟
• وأي حكمة في إقرار هذه النفوس على غيها وظلمها وعدوانها ومعلوم أن يفعل لحكمة لا يفعل ذلك وأن من يفعل لحكمة إذا رأى عبيده يقتل بعضهم بعضا ويفسد بعضهم بعضا ويظلم بعضهم بعضا وهو قادر على منعهم فلا بدعة حكمته وهما لهم بحيث يتركهم كذلك فإما أن يكون عالما يما يأتون أو لا يكون قادرا على منعهم أو لا يكون ممن يفعل لغرض وحكمة والأولان مستحيلان في حق الرب تعالى فتعين الثالث؟
1. ومبنى هذه الشبهة على أصل فاسد وهو قياس الرب على خلقه وتشبيههم في أفعاله بحيث يحسن منه ما يحسن منهم ويقبح منه ما يقبح منهم وهذا الأصل الفاسد مما رده عليهم سائر العقلاء وقالوا:
قياس أفعال الرب على أفعال العباد من أفسد القياس وكذلك قياس حكمته على حكمتهم وصفاته على صفاتهم
2. ومن المعلوم أن الرب تعالى علم أن عباده يقع منهم الكفر والظلم والفسوق وكان قادرا على:
• أن لا يوجدهم
• وأن يوجدهم كلهم أمة واحدة على ما يحب ويرضى
• وأن يحول بينهم وبين بغي بعضهم
ولكن حكمته البالغة أبت ذلك واقتضت إيجادهم على الوجه الذي هم عليه وهو سبحانه خلق النفوس أصنافا:
أ‌- فصنف مريد للخير وحده وهي نفوس الملائكة
ب‌- وصنف مريدا للشر وحده وهي نفوس الشياطين
ت‌- وصنف فيه إرادة النوعين وهي النفوس البشرية
• فالأولى الخير لهم طباع وهي محمودة عليه
• والشر للنفوس الثانية طباع وهي مذمومة عليه
• والصنف الثالث بحسب الغالب عليه من الوصفين فمن غلب عليه وصف الخير التحق بالصنف الأول ومن غلب عليه وصف الشر التحق بالصنف الثالث فإذا اقتضت الحكمة وجود هذا الصنف الثالث فلأن يقتضي وجود الثاني أولى وأحرى

3. والرب تعالى اقتضت قدرته وعزته وحكمته إيجاد المتقابلات في الذوات والصفات والأفعال كما تقدم وقد نوع خلقه تنويعا دالا على كمال قدرته وربوبيته فمن أعظم الجهل والضلال أن يقول القائل هلا كان خلقه كلهم نوعا واحدا فيكون العالم علوا كله أو نورا كله أو الحيوان ملكا كله وقد يقع في الأوهام الفاسدة أن هذا كان أولى وأكمل ويعرض الوهم الفاسد ما ليس ممكنا كمالا.

******

قال ابن القيم:
فإن قيل: أي حكمة في خلق إبليس وجنوده؟
ففي ذلك من الحكم مالا يحيط بتفصيله إلا الله:
1. فمنها أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه ومخالفته ومراغمته في الله وإغاظته وإغاظة أوليائه والاستعاذة به منه والإلجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه وقدمنا أن الموقوف على الشيء لا يحصل بدونه
2. ومنها خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة الإبليسية يكون أقوى وأتم ولا ريب أن الملائكة لما شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى وخضوع آخر وخوف آخر كما هو المشاهد من حال عبيد الملك إذا رأوه قد أهان أحدهم الإهانة التي بلغت منه كل مبلغ وهم يشاهدونه فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد
3. ومنها أنه سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته وأصر على معصيته كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصى أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب وجعل هذا الأب عبرة لمن أصر وأقام على ذنبه وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه فلله كم في ضمن ذلك من الحكم الباهرة والآيات الظاهرة
4. ومنها أنه محك امتحن الله به خلقه ليتبين به خبيثهم من طيبهم فإنه سبحانه خلق النوع الإنساني من الأرض وفيها السهل والحزن والطيب والخبيث فلا بد أن يظهر فيهم ما كان في مادتهم
كما في الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعا {أن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على مثل ذلك منهم الطيب والخبيث والسهل والحزن وغير ذلك} فما كان في المادة الأصلية فهو كائن في المخلوق منها فاقتضت الحكمة الإلهية إخراجه وظهوره فلا بد إذا من سبب يظهر ذلك وكان إبليس محكا يميز به الطيب من الخبيث كما جعل أنبيائه ورسله محكا لذلك التمييز قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فأرسله إلى المكلفين وفيهم الطيب والخبيث فانضاف الطيب إلى الطيب والخبيث إلى الخبيث واقتضت حكمته البالغة أن خلطهم في دار الامتحان فإذا صاروا إلى دار القرار يميز بينهم وجعل لهؤلاء دارا على حدة ولهؤلاء دارا على حدة حكمة بالغة وقدرة قاهرة
5. ومنها أن يظهر كمال قدرته في خلق مثل جبريل والملائكة وإبليس والشياطين وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه فإنه خالق الأضداد كالسماء والأرض والضياء والظلام والجنة والنار والماء والنار والحر والبرد والطيب والخبيث ومنها أن خلق أحد الضدين من كمال حسن ضده فإن الضد إنما يظهر حسنه بضده فلولا القبيح لم تعرف فضيلة الجميل ولولا الفقر لم يعرف قدر الغنا كما تقدم بيانه قريبا
6. ومنها أنه سبحانه يحب أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن ليحصل لهم بدونه فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها وبين شكره بعد أن ابتلي بعدوه ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله ومنها أن المحبة والإنابة والتوكل والصبر والرضاء ونحوها أحب العبودية إلى الله سبحانه وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد وبذل النفس لله وتقديم محبته على كل ما سواه فالجهاد ذروة سنام العبودية وأحبها إلى الرب سبحانه فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يحصى حكمها وفوائدها وما فيها من المصالح إلا فالله
7. ومنها أن في خلق من يضاد رسله ويكذبهم ويعاديهم من تمام ظهور آياته وعجائب قدرته ولطائف صنعه ما وجوده أحب إليه وأنفع لأوليائه من عدمه كما تقدم من ظهور آية الطوفان والعصا واليد وفلق البحر وإلقاء الخليل في النار وأضعاف أضعاف ذلك من آياته وبراهين قدرته وعلمه وحكمته فلم يكن بد من وجود الأسباب التي يترتب عليها ذلك كما تقدم
8. ومنها أن المادة النارية فيها الإحراق والعلو والفساد وفيها الإشراق والإضاءة والنور فأخرج منها سبحانه هذا وهذا كما أن المادة الترابية الأرضية فيها الطيب والخبيث والسهل والحزن والأحمر والأسود والأبيض فأخرج منها ذلك كله حكمة باهرة وقدرة قاهرة وآية دالة على أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
9. ومنها أن من أسمائه الخافض الرافع المعز المذل الحكم العدل المنتقم وهذه الأسماء تستدعي متعلقات يظهر فيها أحكامها كأسماء الإحسان والرزق الرحمة ونحوها ولا بد من ظهور متعلقات هذه وهذه ومنها أنه سبحانه الملك التام الملك ومن تمام ملكه عموم تصرفه وتنوعه بالثواب والعقاب والإكرام والإهانة والعدل والفضل والإعزاز والإذلال فلا بد من وجود من يتعلق به أحد النوعين كما أوجد من يتعلق به النوع الآخر

10. ومنها أن من أسمائه الحكيم والحكمة من صفاته سبحانه وحكمته تستلزم وضع كل شيء موضعه الذي لا يليق به سواه فاقتضت خلق المتضادات وتخصصي كل واحد منها لا يليق به غيره من الإحكام والصفات والخصائص وهل تتم الحكمة إلا بذلك فوجود هذا النوع من تمام الحكمة كما أنه من كمال القدرة ومنها أن حمده سبحانه تام كامل من جميع الوجوه فهو محمود على عدله ومنعه وخفضه وانتقامه وإهانته كما هو محمود على فضله وعطائه ورفعه وإكرامه فلله الحمد التام الكامل على هذا وهذا وهو يحمد نفسه على ذلك كله ويحمده عليه ملائكته ورسله وأوليائه ويحمده عليه أهل الموقف جميعهم وما كان من لوازم كمال حمده وتمامه فله في خلقه وإيجاده الحكمة التامة كما له عليه الحمد التام فلا يجوز تعطيل حمده كما لا يجوز تعطيل حكمته
11. ومنها أنه سبحانه يحب أن يظهر لعباده حلمه وصبره وأناته وسعة رحمته وجوده فاقتضى ذلك خلق من يشرك به ويضاده في حكمه ويجتهد في مخالفته ويسعى في مساخطه بل يشبهه سبحانه وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات ويرزقه ويعاقبه ويمكن له من أسباب ما يلتذ به من أصناف النعم ويجيب دعاءه ويكشف عنه السوء ويعامله من بره وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءته فلله [23] كم في ذلك من حكمة وحمد ويتحبب إلى أوليائه ويتعرف بأنواع كمالاته
• كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له الولد وهو يرزقهم ويعاقبهم” وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه: “شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك أما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي له ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته” وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذب ويعاقبه ويدفع عنه ويدعوه إلى جنته ويقبل توبته إذا تاب إليه ويبدله بسيئاته حسنات ويلطف به في جميع أحواله ويؤهله لإرسال رسله ويأمرهم بأن يلينوا له القول ويرفقوا به
• قال الفضيل بن عياض: “ما من ليلة يختلط ظلامها إلا نادى الجليل جل جلاله من أعظم مني جودا الخلائق لي عاصون وأنا أكلأهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا أجود بالفضل على العاصي وأتفضل على المسيء من ذا الذي دعاني فلم ألبه ومن ذا الذي سألني فلم أعطه أنا الجواد ومني الجود أنا الكريم ومني الكرم ومن كرمي أني أعطي العبد ما سألني وأعطيه ما لم يسألني ومن كرمي أني أعطي التائب كأنه لم يعصني فأين عني يهرب الخلق وأين عن بابي يتنحى العاصون” وفي أثر إلهي: “إني والإنس والجن في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي”
• وفي أثر حسن: “ابن آدم ما أنصفتني: خيري إليك نازل وشـَرّ ُك إلى صاعد
كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك وكم تتبغض إلى بالمعاصي وأنت فقير إلي ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح”
• وفي الحديث الصحيح: “لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم- يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم”
• فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته اقتضى حمده وحكمته أن يخلق خلقا يظهر فيهم أحكامها وآثارها
• فلمحبة للعفو خلق من يحسن العفو عنه
• ولمحبته للمغفرة خلق من يغفر له ويحلم عنه ويصبر عليه ولا يعاجله بل يكون يحب أمانه وإمهاله
• ولمحبته لعدله وحكمته خلق من يظهر فيهم عدله وحكمته
• ولمحبته للجود والإحسان والبر خلق من يعامله بالإساءة والعصيان وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان
• فلولا خلق من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات لفاتت هذه الحكم والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ذو الحكمة البالغة والنعم السابغة الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته وله في كل شيء حكمة باهرة كما أن له فيه قدرة قاهرة وهدايات إنما ذكرنا منه قطرة من بحر وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه
• فكم حصل بسبب هذا المخلوق البغيض للرب المسخوط له من محبوب له تبارك وتعالى يتصل في حبه ما حصل به من مكروهه والحكيم الباهر الحكمة هو الذي يحصل أحب الأمرين إليه باحتمال المكروه الذي يبغضه ويسخطه إذا كان طريقا إلى حصول ذلك المحبوب ووجود الملزوم بدون لازمه محال فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من السرور والمعاصي ما حصل فكم حصل بسبب وجوده ووجود جنوده من طاعة هي أحب إلى الله وأرضى له من جهاد في سبيله ومخالفة هوى النفس وشهوتها له ويحتمل المشاق والمكاره في محبته ومرضاته وأحب شيء للحبيب أن يرى محبه يتحمل لأجله من الأذى والوصب ما يصدق محبته من أجلك قد جعلت خدي أرضا للشامت والحسود حتى ترضا
• وفي أثر إلهي: “بغيتي ما يتحمل المتحملون من أجلي” فلله ما أحب إليه احتمال محبيه أذى أعدائه لهم فيه وفي مرضاته
• وما أنفع ذلك الأذى لهم وما أحمدهم لعاقبته وماذا ينالون به من كرامة حبيبهم وقربه قرة عيونهم به ولكن حرام على منكري محبة الرب تعالى أن يشموا لذلك رائحة أو يدخلوا من هذا الباب أو يذوقوا من هذا الشراب:
فقل للعيون العمى للشمس أعين سواك يراها في مغيب ومطلع
وسامح يؤسا لم يؤهل لحبهم فما يحسن التخصيص في كل موضع
• فإن أغضب هذا المخلوق ربه فقد أرضاه فيه أنبياؤه ورسله وأولياؤه وذلك الرضاء أعظم من ذلك الغضب
• وإن أسخطه ما يجري على يديه من المعاصي والمخالفات فإنه سبحانه أشد فرحا بتوبة عبده من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه إذا وجدها في المفاوز المهلكات
• وإن أغضبه ما جرى على أنبيائه ورسله من هذا العدو فقد سره وأرضاه ما جرى على أيديهم من حربه ومعصيته ومراغمته وكبته وغيظه وهذا الرضاء أعظم عنده وأبر لديه من فوات ذلك المكروه المستلزم لفوات هذا المرضي المحبوب
• وإن أسخطه أكل آدم من الشجرة فقد أرضاه توبته وإنابته وخضوعه وتذلله بين يديه وانكساره له
• وإن أغضبه إخراج أعدائه لرسوله من حرمه وبلدته ذلك الخروج فقد أرضاه أعظم الرضاء دخوله إليها ذلك الدخول
• وإن أسخطه قتلهم أوليائه وأحبائه وتمزيق لحومهم وإراقة دمائهم فقد أرضاه نيلهم الحياة التي لا أطيب منها ولا أنعم ولا ألذ في قربه وجواره وإن أسخطه معاصي عباده فقد أرضاه شهود ملائكته وأنبيائه ورسله وأوليائه سعة وما منهما الإله فيه حكمة يقصر عن إدراكها كل باحث

******

قال ابن القيم:

فإن قيل: أي حكمة في إبقاء إبليس إلى آخر الدهر وإماتة الرسل؟
فكم لله في ذلك من حكمة تضيق بها الأوهام:
1. فمنها أنه سبحانه لما جعله محكا ومحنة يخرج به الطيب من الخبيث ووليه من عدوه اقتضت حكمته إبقاءه ليحصل الغرض المطلوب بخلقه ولو أماته لفات ذلك الغرض كما أن الحكمة اقتضت بقاء أعدائه الكفار في الأرض إلى آخر الدهر ولو أهلكهم البتة لتعطلت الحكم الكثيرة في إبقائهم فكما اقتضت حكمته امتحان أبي البشر اقتضت امتحان أولاده من بعده به فتحصل السعادة لمن خالفه وعاداه وينحاز إليه من وافقه ووالاه
2. ومنها أنه لما سبق حلمه وحكمته أنه لا نصيب له في الآخرة وقد سبق له طاعة وعبادة جزاه بها في الدنيا بأن أعطاه البقاء فيها إلى آخر الدهر فإنه سبحانه لا يظلم أحدا حسنة عملها:
• فأما المؤمن فيجزيه بحسناته في الدنيا وفي الآخرة
• وأما الكافر فيجزيه بحسنات ما عمل في الدنيا فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له شيء كما ثبت هذا المعنى في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم
3. ومنها أن إبقاءه لم يكن كرامة في حقه فإنه لو مات كان خيرا له وأخف لعذابه وأقل لشره ولكن لما غلظ ذنبه بالإصرار على المعصية ومخاصمة من ينبغي التسليم لحكمه والقدح في حكمته والخلف على اقتطاع عباده وصدهم عن عبوديته كانت عقوبة الذنب أعظم عقوبة بحسب تغلظه فأبقى في الدنيا وأملى له ليزداد هذا إثما على أثم ذلك الذنب فيستوجب العقوبة التي لا تصلح لغيره فيكون رأس أهل الشر في العقوبة كما كان رأسهم في الشر والكفر ولما كان مادة كل شر فعنه ينشأ جوزي في النار مثل فعله فكل عذاب ينزل بأهل النار يبدأ به فيه ثم يسري منه إلى أتباعه عدلا ظاهرا أو حكمة بالغة
4. ومنها أنه قال في مخاصمته لربه {أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا}وعلم سبحانه أن في الذرية من لا يصلح لمساكنته في داره ولا يصلح إلا لما يصلح له الشوك والروث أبقاه له وقال له بلسان القدر هؤلاء أصحابك وأولياؤك فاجلس في انتظارهم وكلما مر بك واحد منهم فشأنك به فلو صلح لي لما ملكتك منه فإني أتولى الصالحين وهم الذي يصلحون لي وأنت ولي المجرمين الذين غنوا عن موالاتي وابتغاء مرضاتي قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}

فأما إماتة الأنبياء والمرسلين فلم يكن ذلك لهوانهم عليه ولكن ليصلوا إلى محل كرامته ويستريحوا من نكد الدنيا وتعبها ومقاساة أعدائهم وأتباعهم وليحي الرسل بعدهم يرى رسولا بعد رسول فإماتتهم أصلح لهم وللأمة
أما هم فلراحتهم من الدنيا ولحوقهم بالرفيق الأعلى في أكمل لذة وسرور ولا سيما وقد خيرهم ربهم بين البقاء في الدنيا واللحاق به
وأما الأمم فيعلم أنهم لم يطيعوهم في حياتهم خاصة بل أطاعوهم بعد مماتهم كما أطاعوهم في حياتهم وأن أتباعهم لم يكونوا يعبدونهم بل يعبدون الله بأمرهم ونهيهم والله هو الحي الذي لا يموت فكم في إماتتهم من حكمة ومصلحة لهم وللأمم هذا وهم بشر ولم يخلق الله البشر في الدنيا على خلقة قابلة للدوام بل جعلهم خلائف في الأرض يخلف بعضهم بعضا فلو أبقاهم لفاتت المصلحة والحكمة في جعلهم خلائف ولضاقت بهم الأرض فالموت كمال لكل مؤمن ولولا الموت لما طاب العيش في الدنيا ولا هناء لأهلها بها فالحكمة في الموت كالحكمة في الحياة.

******

قال ابن القيم:
باب: في ذكر مناظرة إبليس عدو الله في شأن آدم وإبائه من السجود له وبيان فسادها وقد كرر الله تعالى ذكرها في كتابه وأخبر فيها:
• أن امتناع إبليس من السجود كان كبرا منه وكفرا ومجرد إباء
• وإنما ذكر الشبهة تعنتا وإلا فسبب معصيته الاستكبار والإباء والكفر وإلا فليس في أمره بالسجود لآدم ما يناقض الحكمة بوجه
• وأما شبهته الداحضة وهي أن أصله وعنصره النار وأصل آدم وعنصره التراب ورتب علي ذلك أنه خير من آدم ثم رتب على هاتين المقدمين أنه لا يحسن منه الخضوع لمن هو فوقه وخير منه فهي باطلة من وجوه عديدة:
أ‌- الوجه الأول: منها أن دعواه كونه خيرا من آدم دعوى كاذبة باطلة واستدلالة عليها بكونه مخلوقا من نار وآدم من طين استدلال باطل وليست النار خيرا من الطين والتراب بل التراب خير من النار وأفضل عنصرا من وجوه
1) أحدها: أن النار طبعها الفساد وإتلاف ما تعلقت به بخلاف التراب
1) الثاني: أن طبعها الخفة والحدة والطيش والتراب طبعه الرزانة والسكون والثبات
2) الثالث: أن التراب يتكون فيه أرزاق الحيوان وأقواتهم ولباس العباد وزينتهم والآت معايشهم ومساكنهم والنار لا يتكون فيها شيء من ذلك
3) الرابع: أن التراب ضروري للحيوان لا يستغني عنه البتة ولا عن ما يتكون فيه ومنه والنار يستغني عنها الحيوان البهيم مطلقا وقد يستغنى عنها الإنسان الأيام والشهور فلا تدعوه إليها الضرورة فأين انتفاع الحيوان كله بالتراب إلى انتفاع الإنسان بالنار في بعض الأحيان
4) الخامس: أن التراب إذا وضع فيه القوت أخرجه أضعاف أضعاف ما وضع فيه فمن بركته يؤدي إليك ما تستودعه فيه مضاعفا ولو استودعته النار لخانتك وأكلته ولم تبق ولم نذر
5) السادس: أن النار لا تقوم بنفسها بل هي مفتقرة إلى محل تقوم به فيكون حاملا لها والتراب لا يفتقر إلى حامل فالتراب أكمل منها
6) السابع: أن النار مفتقرة إلى التراب وليس بالتراب فقر إليها فإن المحمل الذي تقوم به النار لا يكون إلا مكونا من التراب أو فيه فهي الفقيرة إلى التراب وهو الغني عنها
7) الثامن: أن المادة الإبليسية هي المارج من النار وهو ضعيف يتلاعب به الهوى فيميل معه كيفما مال ولهذا غلب الهوى على المخلوق منه فأسره وقهره ولما كانت المادة الآدمية التراب وهو قوي لا يذهب مع الهوى أينما ذهب وقهر هواه وأسره ورجع إلى ربه فاجتباه واصطفاه فكان الهوى الذي مع المادة الآدمية عارضا سريع الزوال فزال وكان الثبات والرزانة أصليا له فعاد إليه وكان إبليس بالعكس من ذلك فرجع كل من الأبوين إلى أصله وعنصر آدم إلي أصله الطيب الشريف واللعين إلى أصله الردىء
8) التاسع: أن النار وإن حصل بها بعض المنفعة والمتاع فالشر فيها لا يصدها عنه إلا قسرها وحبسها ولولا القاسر والحابس لها لأفسدت الحرث والنسل وأما التراب فالخير والبر والبركة كامن فيه كلما أثير وقلب ظهرت بركته وخيره وثمرته فأين احدهما من الآخر
9) العاشر: أن الله تعالى أكثر ذكر الأرض في كتابه وأخبر عن منافعها وخلقها وأنه جعلها مهادا وفراشا وبساطا وقرارا وكفاتا للأحياء والأموات ودعا عباده إلى التفكر فيها والنظر في آياتها وعجائب ما أودع فيها ولم يذكر النار إلا في معرض العقوبة والتخويف والعذاب إلا موضعا أو موضعين ذكرها فيه بأنها تذكرة ومتاع للمقوين تذكرة بنار الآخرة ومتاع لبعض أفراد الإنسان وهم المقوون النازلون بالأرض الخالية إذانزلها المسافر تمتع بالنار في منزلة فأين هذا من أوصاف الأرض في القرآن
10) الحادي عشر: أن الله تعالى وصف الأرض بالبركة في غير موضع من كتابة خصوصا وأخبر أنه بارك فيها عموما فقال {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ} [فصلت: ٩-١٠]
فهذه بركة عامة
وأما البركة الخاصة ببعضها فكقوله {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: ٧١]، وقوله {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة} وقوله {ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها} وأما النار فلم يخبر أنه جعل فيها بركة أصلا بل المشهور أنها مذهبة للبركة ما حقه لها فأين المبارك في نفسه المبارك فيما وضع فيه إلى مزيل البركة وما حقها
11) الثاني عشر: أن الله تعالى جعل الأرض محل بيوته التي يذكر فيها اسمه ويسبح له فيها بالغدو والآصال عموما وبيته الحرام الذي جعله قياما للناس مباركا فيه وهدى للعالمين خصوصا ولو لم يكن في الأرض إلا بيته الحرام لكفاها ذلك شرفا وفضلا على النار
12) الثالث عشر: أن الله تعالى أودع في الأرض من المنافع والمعادن والأنهار والعيون والثمرات والحبوب والأقوات وأصناف الحيوانات وأمتعتها والجبال والجنان والرياض والمراكب البهية والصور البهيجة ما لم يودع في النار شيئا منه فأي روضة وجدث في النار أو جنة أو معدن أو صورة أو عين فوارة أو نهر مطرد أو ثمرة لذيذة أو زوجة حسنة أو لباس وسترة
13) الرابع عشر: أن غاية النار أنها وضعت خادمة لما في الأرض فالنار إنما محلها محل الخادم لهذه الأشياء المكمل لها فهي تابعة لها خادمة فقط إذا استغنت عنها طردتها وأبعدتها عن قربها وإذا احتاجت إليها استدعتها استدعاء المخدوم لخادمة ومن يقضي حوائجه
14) الخامس عشر: أن اللعين لقصور نظره وضعف بصيرته رأى صورة الطين ترابا ممتزجا بماء فاحتقره ولم يعلم أن الطين مركب من أصلين:
أ‌- الماء الذي جعل الله تعالى منه كل شيء حي
ب‌- والتراب الذي جعله خزانة المنافع والنعم هذا وكم يجىء من الطين من المنافع وأنواع الأمتعة فلو تجاوز نظره صورة الطين إلى مادته ونهايته لرأى أنه خير من النار وأفضل

وإذا استقريت الوجوه التي تدلك على أن التراب أفضل من النار وخير منها وجدتها كثيرة جدا وإنما أشرنا إليها إشارة

ب) الوجه الثاني:
ثم لو سلم بطريق الفرض الباطل أن النار خير من الطين لم يلزمه من ذلك أن يكون المخلوق منها خيرا من المخلوق من الطين:
• فإن القادر على كل شيء يخلق من المادة المفضولة من هو خير ممن خلقه من المادة الفاضلة والاعتبار بكمال النهاية لا ينقص المادة فاللعين [إبليس] لم يتجاوز نظره محل المادة ولم يعبر منها إلى كمال الصورة ونهاية الخلقة فأين الماء المهين الذي هو نطفة ومضغة واستقذار النفوس له إلى كمال الصورة الإنسانية التامة المحاسن خلقا وخلقا
• وقد خلق الله تعالى الملائكة من نور وآدم من تراب ومنه ذرية آدم من هو خير من الملائكة وإن كان النور أفضل من التراب
فهذا وأمثاله مما يدلك على ضعف مناظرة اللعين وفساد نظره وإدراكه وأن الحكمة كانت توجب عليه خضوعه لآدم فعارض حكمة الله وأمره برايه الباطل ونظره الفاسد فقياسه باطل نصا وعقلا، فالعالم يتدبر سر تكرير الله تعالى لهذه القصة مرة بعد مرة ـ ـ ــفقد اقسم عدو الله أنه ليغوين بنى آدم أجمعين إلا المخلصين منهم وصدق تعالى ظنه عليهم وأخبر أن المخلصين لا سبيل له عليهم والمخلصون هم الذين أخلصوا العبادة والمحبة والإجلال والطاعة لله والمتابعة

******

قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة:
أما بعد فإن الله سبحانه لما اهبط آدم أبا البشر من الجنة لما له في ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن معرفتها والالسن عن صفتها فكان إهباطه منها عين كماله ليعود اليها على احسن احواله فأراد سبحانه ان يذيقه وولده من نصب الدنيا وغمومها وهمومها وأوصا بها ما يعظم به عندهم مقدار دخولهم اليها في الدار الآخرة فإن الضد يظهر حسنه الضد ولو تربوا في دار النعيم لم يعرفوا قدرها وأيضا فإنه سبحانه اراد أمرهم ونهيهم وابتلاءهم واختبارهم وليست الجنة دار تكليف فاهبطهم إلى الارض وعرضهم بذلك لافضل الثواب الذي لم يكن لينال بدون الامر والنهي وأيضا فإنه سبحانه أراد ان يتخذ منهم انبياء ورسلا وأولياء وشهداء يحبهم ويحبونه فخلى بينهم وبين اعدائه وامتحنهم بهم فلما آثروه وبذلوا نفوسهم واموالهم في مرضاته ومحابه نالوا من محبته روضوانه والقرب منه ما لم يكن لينال بدون ذلك اصلا فدرجة الرسالة والنبوة والشهادة والحب فيه والبغض فيه وموالاة اوليائه ومعاداة اعدائه عنده من افضل الدرجات ولم يكن ينال هذا الا على الوجه الذي قدره وقضاه من إهباطه إلى الارض وجعل معيشته ومعيشة اولاده فيها وأيضا فإنه سبحانه له الاسماء الحسنى فمن اسمائه الغفور الرحيم العفو الحليم الخافض الرافع المعز المذل المحيي المميت الوارث الصبور ولا بد من ظهور آثار هذه الاسماء فاقتضت حكمته سبحانه ان ينزل آدم وذريته دارا يظهر عليهم فيها اثر اسمائه النى فيغفر فيها لمن يشاء ويرحم من يشاء ويخفض من يشاء ويرفع من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء وينتقم ممن يشاء ويعطى ويمنع ويبسط إلى غير ذلك من ظهور اثر اسمائه وصفاته وأيضا فإنه سبحانه الملك الحق المبين والملك هو الذي يأمر وينهى ويثيب ويعاقب ويهين ويكرم ويعز ويذل فاقتضى ملكه سبحانه ان انزل آدم وذريته دارا تجرى عليهم فيها احكام الملك ثم ينقلهم الى دار يتم عليهم فيها ذلك وأيضا فإنه سبحانه أنزلهم إلى دار يكون إيمانهم فيها بالغيب والايمان بالغيب هو الايمان النافع وأما الايمان بالشهادة فكل احد يؤمن يوم القيامة يوم لا ينفع نفسا إلا ايمانها في الدنيا فلو خلقوا في دار النعيم لم ينالوا درجة الايمان بالغيب واللذة والكرامة الحاصلة بذلك لا تحصل بدونه بل كان الحاصل لهم في دار النعيم لذة وكرامة غير هذه وأيضا فإن الله سبحانه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض والارض فيها الطيب والخبيث والسهل والحزن والكريم واللئيم فعلم سبحانه ان في ظهره من لا يصلح لمساكنته في داره فأنزله إلى دار استخرج فيها الطيب والخبيث من صلبه ثم ميزهم سبحانه بدارين فجعل الطيبين اهل جواره ومساكنته في داره وجعل الخبيث اهل دار الشقاء دار الخبثاء قال الله تعالى ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم اولئك هم الخاسرون فلما علم سبحانه ان في ذريته من ليس بأهل لمجاورته انزلهم دارا استخرج منها اولئك والحقهم بالدار التي هم لها اهل حكمة بالغة ومشيئة نافذة ذلك تقدير العزيز العليم وأيضا فإنه سبحانه لما قال للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك اجابهم بقوله إني اعلم ما لا تعلمون ثم اظهر سبحانه علمه لعباده ولملائكته بما جعله في الارض من خواص خلقه ورسله وأنبيائه وأوليائه ومن يتقرب إليه ويبذل نفسه في محبته ومرضاته مع مجاهدة شهوته وهواه فيترك محبوباته تقربا الي ويترك شهواته ابتغاء مرضاتي ويبذل دمه ونفسه في محبتي وأخصه بعلم لا تعلمونه يسبح بحمدي آناء الليل وأطراف النهار ويعبدني مع معارضات الهوى والشهوة والنفس والعدو إذ تعبدوني انتم من غير معارض يعارضكم ولا شهوة تعتريكم ولا عدو أسلطه عليكم بل عبادتكم لي بمنزلة النفس لاحدهم وأيضا فإني اريد ان اظهر ما خفى عليكم من شأن عدوي ومحاربته لي وتكبره عن أمري وسعيه في خلاف مرضاتي وهذا وهذا كانا كامنين مستترين في ابي البشر وأبي الجن فأنزلهم دارا اظهر فيها ما كان الله سبحانه منفردا بعلمه لا يعلمه سواه وظهرت حكمته وتم امره وبدا للملائكة من علمه ما لم يكونوا يعلمون وأيضا فإنه سبحانه لما كان يحب الصابرين ويحب المحسنين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الشاكرين وكانت محبته اعلى انواع الكرامات اقتضت حكمته ان أسكن آدم وبنيه دارا يأتون فيها بهذه الصفات التي ينالون بها أعلى الكرامات من محبته فكان إنزالهم إلى الارض من اعظم النعم عليهم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم وأيضا فإنه سبحانه أراد ان يتخذ من آدم ذرية يواليهم ويودهم ويحبهم ويحبونه فمحبتهم له هي غاية كمالهم ونهاية شرة ولم يمكن تحقيق هذه المرتبة السنية الا بموافقة رضاه وأتباع امره وترك إرادات النفس وشهواتها التي يكرهها محبوبهم فأنزلهم دارا امرهم فيها ونهاهم فقاموا بأمره ونهيه فنالوا درجة محبتهم له فأنالهم درجة حبه إياهم وهذا من تمام حكمته وكمال رحمته وهو البر الرحيم وأيضا فإنه سبحانه لما خلق خلقه اطوارا وأصنافا وسبق في حكمه تفضيله آدم وبنيه على كثير من مخلوقاته جعل عبوديته افضل درجاتهم اعنى العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعا واختيارا لا كرها واضطرارا وقد ثبت ان الله سبحانه ارسل جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخيره بين ان يكون ملكا نبيا او عبدا نبيا فنظر إلى جبريل كالمستشير له فاشار إليه ان تواضع فقال بل ان اكون عبدا نبيا فذكره سبحانه باسم عبوديته في أشرف مقاماته في مقام الاسراء ومقام الدعوة ومقام التحدي فقال في مقام الاسراء سبحان الذي اسرى بعبده ليلا ولم يقل برسوله ولا نبيه إشارة إلى انه قام هذا المقام الاعظم بكمال عبوديته لربه وقال في مقام الدعوة وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا وقال في مقام التحدي وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وفي الصحيحين في حديث الشفاعة وتراجع الانبياء فيها وقول المسيح صلى الله عليه وسلم اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فدل ذلك على انه نال ذلك المقام الاعظم بكمال عبوديته لله وكمال مغفرة الله له وإذا كانت العبودية عند الله بهذه المنزلة اقتضت حكمته ان اسكن آدم وذريته دارا ينالون فيها هذه الدرجة بكمال طاعتهم لله وتقربهم إليه بمحابه وترك مألوفاتهم من اجله فكان ذلك من تمام نعمته عليهم وإحسانه اليهم وأيضا فإنه سبحانه أراد ان يعرف عباده الذين انعم عليهم تمام نعمته عليهم وقدرها ليكونوا اعظم محبةوأكثر شكرا واعظم التذاذا بما اعطاهم من النعيم فأراهم سبحانه فعله بأعدائه وما اعد لهم من العذاب وانواع الالام واشهدهم تخليصهم من ذلك وتخصيصهم بأعلى انواع النعيم ليزداد سرورهم وتكمل غبطتهم ويعظم فرحهم وتتم لذتهم وكان ذلك من إتمام الانعام عليهم ومحبتهم ولم يكن بد في ذلك من إنزالهم إلى الارض وامتحانهم واختبارهم وتوفيق من شاء منهم رحمة منه وفضلا وخذلان من شاء منهم حكمة منه وعدلا وهو العليم الحكيم ولا ريب ان المؤمن إذا رأى عدوه ومحبوبه الذي هو أحب الاشياء إليه في أنواع العذاب والالام وهو يتقلب في انواع النعيم واللذة ازداد بذلك سرورا وعظمت لذته وكملت نعمته وأيضا فإنه سبحانه إنما خلق الخلق لعبادته وهي الغاية منهم قال تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ومعلوم ان كمال العبودية المطلوب من الخلق لا يحصل في دار النعيم والبقاء إنما يحصل في دار المحنة والابتلاء وأما دار البقاء فدار لذة ونعيم لا دار ابتلاء وامتحان وتكليف وما كان اكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم فأخبر سبحانه ان ذلك صادر عن عزته المتضمنة كمال قدرته وحكمته المتضمنة كمال علمه ووضعه الاشياء مواضعها اللائقة بها ما وضع نعمته ونجاته لرسله ولاتباعهم ونقمته وإهلاكه لاعدائهم الا في محلها اللائق بها لكمال عزته وحكمته ولهذا قال سبحانه عقيب إخباره عن قضائه بين اهل السعادة والشقاوة ومصير كل منهم إلى ديارهم التي لا يليق بهم غيرها ولا تقتضى حكمته سواها وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين وأيضا فإنه سبحانه اقتضت حكمته وحمده ان فاوت بين عباده اعظم تفاوت وابينه ليشكره منهم من ظهرت عليه نعمته وفضله ويعرف انه قد حبى بالانعام وخص دون غيره بالاكرام ولو تساووا جميعهم في النعمة والعافية لم يعرف صاحب النعمة قدرها ولم يبذل شكرها إذ لا يرى احدا إلا في مثل حاله ومن أقوى أسباب الشكر وأعظمها استخرجا له من العبد ان يرى غيره في ضد حاله الذي هو عليها من لاكمال والفلاح وفي الاثر المشهور ان الله سبحانه لما أرى آدم ذريته وتفاوت مراتبهم قال يا رب هلا سويت بين عبادك قال إني احب ان اشكر فاقتضت محبته سبحانه لان يشكر خلق الاسباب التي يكن شكر الشاكرين عندها اعظم وأكمل وهذا هو عين الحكمة الصادرة عن صفة الحمد وأيضا فإنه سبحانه لا شيء احب إليه من العبد من تذلله بين يديه وخضوعه وافتقاره وإنكساره وتضرعه إليه ومعلوم ان هذا المطلوب من العبد إنما يتم بأسبابه التي تتوقف عليها وحصول هذه الاسباب في دار النعيم المطلق والعافية الكاملة يمتنع إذ هو مستلزم للجمع بين الضدين وأيضا فإنه سبحانه له الخلق والامر والامر هو شرعه وأمره ودينه الذي بعث به رسله وانزل به كتبه وليست الجنة دار تكليف تجرى عليهم فيها أحكام التكليف ولوازمها وإنما هي دار نعيم ولذة واقتضت حكمته سبحانه استخراج آدم وذريته إلى دار تجرى عليهم فيها احكام دينه وأمره ليظهر فيهم مقتضى الامر ولوازمه فإن الله سبحانه كما ان افعاله وخلقه من لوازم كمال اسمائه الحسنى وصفاته العلى فكذلك امره وشرعه وما يترتب عليه من الثواب والعقاب وقد ارشد سبحانه إلى هذا المعنى في غير موضع من كتابه فقال تعالى ايحسب الانسان ان يترك سدى أي مهملا معطلا لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب وهذا يدل على ان هذا مناف لكمال حكمته وان ربوبيته وعزته وحكمته تأبى ذلك ولهذا اخرج الكلام مخرج الانكار على من زعم ذلك وهو يدل على ان حسنه مستقر في الفطر والعقول وقبح تركه سدا معطلا ايضا مستقر في الفطر فكيف ينسب إلى الرب ما قبحه مستقر في فطركم وعقولكم وقال تعالى أفحسبتم انما خلقناكم عبثا وأنكم الينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله الا هو رب العرش الكريم نزه نفسه سبحانه عن هذا الحسبان الباطل المضاد لموجب اسمائه وصفاته وانه لا يليق بجلاله نسبته إليه ونظائر هذا في القرآن كثيرة وأيضا فإنه سبحانه يحب من عباده امورا يتوقف حصولها منهم على حصول الاسباب المقتضية لها ولا تحصل الا في دار الابتلاء والامتحان فإنه سبحانه يحب الصابرين ويحب الشاكرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ويحب التوابين ويحب المتطهرين ولا ريب ان حصول هذه المحبوبات بدون اسبابها ممتنع كامتناع حصول الملزوم بدون لازمه والله سبحانه أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في ارض دوية مهلكة إذا وجدها كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل من فيارض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش ثم قال ارجع إلى المكان الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته عليها زاده وطعامه وشرابه فالله اشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا الحديث وذكر سر هذا الفرح بتوبة العبد والمقصود ان هذا الفرح المذكور إنما يكون بعد التوبة من الذنب فالتوبة والذنب لا زمان لهذا الفرح ولا يوجد الملزوم بدون لازمه وإذا كان هذا الفرح المذكور إنما يحصل بالتوبة المستلزمة للذنب فحصوله في دار النعيم التي لا ذنب فيها ولا مخالفة ممتنع ولما كان هذا الفرح احب إلى الرب سبحانه من عدمه اقتضت محبته له خلق الاسباب المفضية إليه ليترتب عليها المسبب الذي هو محبوب له وأيضا فإن الله سبحانه جعل الجنة دار جزاء وثواب وقسم منازلها بين اهلها على قدر اعمالهم وعلى هذا خلقها سبحانه لما له في ذلك من الحكمة التي اقتضتها اسماؤه وصفاته فان الجنة درجات بعضها فوق بعض وبين الدرجتين كما بين السماء والارض كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال ان الجنة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والارض وحكمة الرب سبحانه مقتضية لعمارة هذه الدرجات كلها وإنما تعمر ويقع التفاوت فيها بحسب الاعمال كما قال غير واحد من السلف ينجون من النار بعفو الله ومغفرته ويدخلون الجنة بفضله ونعمته ومغفرته ويتقاسمون المنازل بأعمالهم وعلى هذا حمل غير واحد ما جاء من إثبات دخول الجنة بالاعمال كقوله تعالى وتلك الجنة التي اورثتموها بما كنتم تعملون وقوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون قالوا وأما نفي دخلوها بالاعمال كما في قوله صلى الله عليه وسلم لن يدخل الجنة احد بعمله قالوا ولا انت يا رسول الله قال ولا انا فالمراد به نفي اصل الدخول واحسن من هذا ان يقال الباء المقتضية للدخول غير الباء التي نفى معها الدخول فالمقتضية هي باء السببية الدالة على ان الاعمال سبب للدخول مقتضية له كاقتضاء سائر الاسباب لمسبباتها والباء التي نفى بها الدخول هي باء المعاوضة والمقابلة التي في نحو قولهم اشتريت هذا بهذا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ان دخول الجنة ليس في مقابلة عمل احد وانه لولا تغمد الله سبحانه لعبده برحمته لما أدخله الجنة فليس عمل العبد وان تناهى موجبا بمجرده لدخول الجنة ولا عوضا لها فإن اعماله وإن وقعت منه على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه فهي لا تقاوم نعمة الله التي انعم بها عليه في دار الدنيا ولا تعادلها بل لو حاسبه لوقعت اعماله كلها في مقابلة اليسير من نعمه وتبقى بقية النعم مقتضية لشكرها فلو عذبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم له ولو رحمه لكانت رحمته خيرا له من عمله كما في السنن من حديث زيد بن ثابت وحذيفة وغيرهما مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم انه قال ان الله لو عذب أهل سمواته وأهل ارضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من اعمالهم والمقصود ان حكمته سبحانه اقتضت خلق الجنة درجات بعضها فوق بعض وعمارتها بآدم وذريته وإنزالهم فيها بحسب اعمالهم ولازم هذا إنزالهم إلى دار العمل والمجاهدة وأيضا فإنه سبحانه خلق آدم وذريته ليستخلفهم في الارض كما اخبر سبحانه في كتابه بقوله اني جاعل في الارض خليفة وقوله وهو الذي جعلكم خلائف الارض وقال ويستخلفكم في الارض فأراد سبحانه ان ينقله وذريته من هذا الاستخلاف إلى توريثه جنة الخلد وعلم سبحانه بسابق علمه انه لضعفه وقصور نظره قد يختار العاجل الخسيس على الاجل النفيس فإن النفس مولعة بحب العاجلة وإيثارها على الآخرة وهذا من لوازم كونه خلق من عجل وكونه خلق عجولا فعلم سبحانه ما في طبيعته من الضعف والخور فاقتضت حكمته ان ادخله الجنة ليعرف النعيم الذي اعد له عيانا فيكون إليه اشوق وعليه احرص وله اشد طلبا فإن محبة الشيء وطلبه والشوق إليه من لوازم تصوره فمن باشر طيب شيء ولذته وتذوق به لم يكد يصبر عنه وهذا لان النفس ذواقة تواقة فإذا ذاقت تاقت ولهذا إذا ذاق العبد طعم حلاوة الايمان وخالطت بشاشته قلبه رسخ فيه حبه ولم يؤثر عليه شيئا ابدا وفي الصحيح من حديث ابي هريرة رضى الله عنه المرفوع ان الله عز وجل يسأل الملائكة فيقول ما يسألني عبادي فيقولون يسألونك الجنة فيقول وهل رأوها فيقولون لا يا رب فيقول كيف لو رأوها فيقولون لو رأوها لكانوا أشد لها طلبا فاقتضت حكمته ان اراها أباهم وأسكنه إياها ثم قص على بنيه قصته فصاروا كأنهم مشاهدون لها حاضرون مع ابيهم فاستجاب من خلق لها وخلقت له وسارع اليها فلم يثنه عنها العاجلة بل يعد نفسه كانه فيها ثم سباه العدو فيراها وطنه الاول فهو دائم الحنين إلى وطنه ولا يقر له قرار حتى يرى نفسه فيه كما قيل:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى … ما الحب إلا للحبيب الاول كم منزل في الارض يألفه الفتى … وحنينه ابدا لاول منزل ولي من ابيات تلم بهذا المعنى:
وحى على جنات عدن فإنها … منازلك الاولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى … نعود إلى اوطاننا ونسلم
فسر هذه الوجوه انه سبحانه وتعالى سبق في حكمه وحكمته ان الغايات المطلوبة لا تنال الا باسبابها التي جعلها الله اسبابا مفضية اليها ومن تلك الغايات اعلى انواع النعيم وافضلها وأجلها فلا تنال الا باسباب نصبها مفضية اليها وإذا كانت الغايات التي هي دون ذلك لاتنال لا باسبابها مع ضعفها وانقطاعها كتحصيل المأكول والمشروب والملبوس والولد والمال والجاه في الدنيا فكيف يتوهم حصول اعلى الغايات واشرف المقامات بلا سبب يفضى إليه ولم يكن تحصيل تلك الاسباب الا في دار المجاهدة والحرث فكان اسكان آدم وذريته هذه الدار التي ينالون فيها الاسباب الموصلة إلى أعلى المقامات من إتمام انعامه عليهم وسرها ايضا انه سبحانه جعل الرسالة والنبوة والخلة والتكليم والولاية والعبودية من اشرف مقامات خلقه ونهايات كمالهم فأنزلهم دارا اخرج منهم الانبياء وبعث فيها الرسل واتخذ منهم من اتخذ خليلا وكلم موسى تكليما واتخذ منهم اولياء وشهداء وعبيدا وخاصة يحبهم ويحبونه وكان إنزالهم إلى الارض من تمام الانعام والاحسان وأيضا انه اظهر لخلقه من آثار اسمائه وجريان احكامها عليهم ما اقتضته حكمته ورحمته وعلمه وسرها ايضا انه تعرف إلى خلقه بافعاله واسمائه وصفاته وما احدثه في اوليائه واعدائه من كرامته وانعامه على الاولياء واهانته واشقائه للاعداء ومن اجابته دعواتهم وقضائه حوائجهم وتفريج كرباتهم وكشف بلائهم وتصريفهم تحت أقداره كيف يشاء وتقليبهم في أنواع الخير والشر فكان في ذلك اعظم دليل لهم على انه ربهم ومليكهم وانه الله الذي لا إله الا هو وأنه العليم الحكيم السميع البصير وأنه الاله الحق وكل ما سواه باطل فتظاهرت ادلة ربوبيته وتوحيده في الارض وتنوعت وقامت من كل جانب فعرفه الموفقون من عباده وأقروا بتوحيده إيمانا واذعانا وجحده المخذولون على خليقته واشركوا به ظلما وكفرانا فهلك من هلك عن بينة وحيي من حى بينة والله سميع عليم ومن تأمل آياته المشهودة والمسموعة في الارض ورأى آثارها علم تمام حكمته في اسكان آدم وذريته في هذه الدار إلى أجل معلوم فالله سبحانه إنما خلق الجنة لآدم وذريته وجعل الملائكة فيها خدما لهم ولكن اقتضت حكمته ان خلق لهم دارا يتزودون منها إلى الدار التي خلقت لهم وأنهم لاينالونها الا بالزاد كما قال تعالى في هذه الدار وتحمل اثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه الا بشق الانفس إن ربكم لرؤوف رحيم فهذا شأن الانتقال في الدنيا من بلد إلى بلد فكيف الانتقال من الدنيا إلى دار القرار وقال تعالى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى فباع المغبونون منازلهم منها بأبخس الحظ وأنقص الثمن وباع الموفقون نفوسهم واموالهم من الله وجعلوها ثمنا للجنة فربحت تجارتهم ونالوا الفوز العظيم قال الله تعالى ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة فهو سبحانه ما اخرج آدم منها الا وهو يريد ان يعيده اليها اكمل اعادة كما قيل على لسان القدر يا آدم لا تجزع من قولي لك اخرج منها فلك خلقتها فإني انا الغني عنها وعن كل شيء وانا الجواد الكريم وانا لا اتمتع فيها فإني اطعم ولا اطعم وانا الغني الحميد ولكن انزل إلى دار البذر فإذا بذرت فاستوى الزرع على سوقه وصار حصيدا فحينئذ فتعال فاستوفه احوج ما انت إليه الحبة بعشر امثالها إلى سبعمائة ضعف إلى اضعاف كثيرة فإني اعلم بمصلحتك منك وانا العلي الحكيم فإن قيل ما ذكرتموه من هذه الوجوه وأمثالها إنما يتم إذا قيل إن الجنة التي اسكنها آدم وأهبط منها جنة الخلد التي اعدت للمتقين والمؤمنين يوم القيامة وحينئذ يظهر سر اهباطه واخراجه منها ولكن قد قالت طائفة منهم ابو مسلم
وقال ابن القيم في موصع آخر:
تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ان لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ فأما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى والاية نفت مسمى الضلال والشقاء عن متبع الهدى مطلقا فاقتضت الاية انه لا يضل في الدنيا ولا يشقى ولا يضل في الآخرة ولا يشقى فيها فإن المراتب اربعة هدى وشقاوة في الدنيا وهدى وشقاوة في الآخرة لكن ذكر ابن عباس رضى الله عنهما في كل دار اظهر مرتبتيها فذكر الضلال في الدنيا إذ هو اظهر لنا وأقرب من ذكر الضلال في الآخرة وأيضا فضلال الدنيا اضل ضلال في الآخرة وشقاء الآخرة مستلزم للضلال فيها فنبه بكل مرتبة على الأخرى فنبه بنفي ضلال الدنيا على نفي ضلال الآخرة فإن العبد يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه قال الله تعالى في الاية الأخرى ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وقال في الاية الاخرى ومن كان في هذه اعمى فهو في الآخرة اعمى وأضل سبيلا فأخبر ان من كان في هذه الدار ضالا فهو في الآخرة اضل واما نفي شقاء الدنيا فقد يقال انه لما انتفى عنه الضلال فيها وحصل له الهدى والهدى فيه من برد اليقين وطمأنينة القلب وذاق طعم الايمان فوجد حلاوته وفرحة القلب به وسروره والتنعيم به ومصير القلب حيا بالايمان مستنيرا به قويا به قد نال به غذاؤه ورواءه وشفاءه وحياته ونوره وقوته ولذته ونعيمه ما هو من اجل انواع النعيم واطيب الطيبات واعظم اللذات قال الله تعالى من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون فهذا خبر اصدق الصادقين ومخبره عند اهله عين اليقين بل هو حق اليقين ولا بد لكل من عمل صالحا ان يحييه الله حياة طيبة بحسب إيمانه وعمله ولكن يغلط الجفاة الاجلاف في مسمى الحياة حيث يظنونها التنعم في أنواع المآكل والمشارب والملابس والمناكح او لذة الرياسة والمال وقهر الاعداء والتفنن بأنواع الشهوات ولا ريب ان هذه لذة مشتركة بين البهائم بل قد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الانسان فمن لم تكن عنده لذة الا اللذة التي تشاركه فيها السباع والدواب والانعام فذلك ممن ينادي عليه من مكان بعيد ولكن اين هذه اللذة من اللذة بأمر إذا خالط بشاشته القلوب سلى عن الابناء والنساء والاوطان والاموال والاخوان والمساكن ورضى بتركها كلها والخروج منها رأسا وعرض نفسه لانواع المكاره والمشاق وهو متحل بهذا منشرح الصدر به يطيب له قتل ابنه وأبيه وصاحبته واخيه لا تأخذه في ذلك لومة لائم حتى ان احدهم ليتلقى الرمح بصدره ويقول فزت ورب الكعبة ويستطيل الاخر حياته حتى يلقى قوته من يده ويقول انها لحياة طويلة ان صبرت حتى أكلها ثم يتقدم إلى الموت فرحا فصل والمقصود ان الله سبحانه وتعالى لما اقتضت حكمته ورحمته إخراج
آدم وذريته من الجنة اعاضهم افضل منها وهو ما اعطاهم من عهده الذي جعله سببا موصلا لهم إليه وطريقا واضحا بين الدلالة عليه من تمسك به فاز واهتدى ومن اعرض عنه شقى وغوى ولما كان هذا العهد الكريم والصراط المستقيم والنبأ العظيم لا يوصل إليه ابدا إلا من باب العلم والارادة فالارادة باب الوصول إليه والعلم مفتاح ذلك الباب المتوقف فتحه عليه وكمال كل انسان إنما يتم بهذين النوعين همة ترقيه وعلم يبصره ويهديه فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين او من احداهما اما ان لا يكون له علم بها فلا يتحرك في طلبها او يكون عالما بها ولا تنهض همته اليها فلا يزال في حضيض طبعه محبوسا وقلبه عن كماله الذي خلق له مصدودا منكوسا قد أسام نفسه مع الانعام راعيا مع الهمل واستطاب لقيعات الراحة والبطالة واستلان فراش العجز والكسل لا كمن رفع له علم فشمر إليه وبورك له في تفرده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه قد ابت غلبات شوقه الا لهجرة إلى الله ورسوله ومقتت نفسه الرفقاء الا ابن سبيل يرافقه في سبيله ولما كان كمال الارادة بحسب كمال مرادها وشرف العلم تابع لشرف معلومه كانت نهاية سعادة العبد الذي لا سعادة له بدونها ولا حياة له إلا بها ان تكون إرادته متعلقة بالمراد الذي لا يبلى ولا يفوت وعزمات همته مسافرة إلى حضرة الحي الذي لا يموت ولا سبيل له إلى هذا المطلب الاسني والحظ الاوفى الا بالعلم الموروث عن عبده ورسوله وخليله وحبيبه الذي بعثه لذلك داعيا وأقامه على هذا الطريق هاديا وجعله واسطة بينه وبين الانام وداعيا لهم بإذنه إلى دار السلام وأبى سبحانه ان يفتح لاحد منهم الاعلى يديه او يقبل من احد منهم سعيا الا ان يكون مبتدأ منه ومنتهيا إليه

******

قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة:
وقوله صحبوا الدنيا بابدان ارواحها معلقة بالملأ الاعلى وفي رواية بالمحل الاعلى الروح في هذا الجسد بدار غربة ولها وطن غيره فلا تستقر الا في وطنها وهي جوهر علوي مخلوق من مادة علوية وقد اضطرت إلى مساكنة هذا البدن الكثيف فهي دائما تطلب وطنها في المحل الاعلى وتحن إليه حنين الطير إلى اوكارها وكل روح ففيها ذلك ولكن لفرط اشتغالها بالبدن وبالمحسوسات المالوفة اخلدت إلى الارض ونسيت معلمها ووطنها الذي لا راحة لها في غيره فإنه لا راحة للمؤمن دون لقاء ربه والدنيا سجنه حقا فلهذا تجدالمؤمن بدنه في الدنيا وروحه في المحل الاعلى وفي الحديث المرفوع إذا نام العبد وهو ساجد باهي الله به الملائكة فيقول انظروا إلى عبدي بدنه في الارض وروحه عندي رواه تمام وغيره وهذا معني قول بعض السلف القلوب جوالة فقلب حول الحشر وقلب يطوف مع الملائكة حول العرش فأعظم عذاب الروح انغماسها وتدسيسها في أعماق البدن واشتغالها بملاذه وانقطاعها عن ملاحظة ما خلقت له وهيئت له وعن وطنها ومحلها ومحل انسها ومنزل كرامتها ولكن سكر الشهوات يحجبها عن مطالعة هذا الالم والعذاب فإذا صحت من سكرها وافاقت من غمرتها اقبلت عليها جيوش الحسرات من كل جانب فحينئذ تتقطع حسرات على ما فاتها من كرامة الله وقربه والانس به والوصول إلى وطنها الذي لا راحة لها الا فيه كما قيل:
صحبتك اذ عيني عليها غشاوة … فلما انجلت قطعت نفسي الومها ولو تنقلت الروح في المواطن كلها والمنازل لم تستقر ولم تطمئن الا في وطنها ومحلها الذي خلقت له كما قيل:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى … ما الحب الا للحبيب الاول كم منزل في الارض يألفه الفتى … وحنينه ابدا لاول منزل وإذا كانت الروح تحن ابدا إلى وطنها من الارض مع قيام غيره مقامه في السكنى وكثيرا ما يكون غير وطنها احسن واطيب منه وهي دائما تحن إليه مع انه لا ضرر عليها ولا عذاب في مفارقته إلى مثله فكيف بحنينها إلى الوطن الذي في فراقها له عذابها وآلامها وحسرتها التي لاتنقضي فالعبد
المؤمن في هذه الدار سبي من الجنة إلى دار التعب والعناء ثم ضرب عليه الرق فيها فكيف يلام على حنينه إلى داره التي سبى منها وفرق بينه وبين من يحب وجمع بينه وبين عدوه فروحه دائما معلقة بذلك الوطن وبدنه في الدنيا ولى من ابيات في ذلك
وحي على جنات عن فانها … منازلك الاولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى … نعود إلى اوطاننا ونسلم وكلما اراد منه العدو نسيان وطنه وضرب الذكر عنه صفحا وايلافه وطنا غيره ابت ذلك روحه وقلبه كما قيل:
يراد من القلب نسيانكم … وتأبى الطباع على الناقل ولهذا كان المؤمن غريبا في هذه الدار اين حل منها فهو في دار غربة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كن في الدنيا كانك غريب او عابر سبيل ولكنها غربة تنقضى ويصير إلى وطنه ومنزله وانما الغربة التي لا يرجى انقطاعها فهي غربة في دار الهوان ومفارقة وطنه الذي كان قد هيء واعد له وامر بالتجهيز إليه والقدوم عليه فابى الا اغترابه عنه ومفارقته له فتلك غربة لا يرجى ايابها ولا يجبر مصابها ولا تبادر إلى انكار كون البدن في الدنيا والروح في الملأ الاعلى فللروح شأن والبدن شأن والنبي صلى الله عليه وسلم كان بين اظهر اصحابه وهو عند ربه يطعمه ويسقيه فبدنه بينهم وروحه وقلبه عند ربه وقال ابو الدرداء اذا نام العبدعرج بروحه إلى تحت العرش فان كان طاهرا اذن لها بالسجود وان لم يكن طاهرا لم يؤذن لها بالسجود فهذه والله أعلم هي العلة التي امر الجنب لاجلها ان يتوضأ إذا أراد النوم وهذا الصعود إنما كان لتجرد الروح عن البدن بالنوم فإذا تجردت بسبب آخر حصل لها من الترقي والصعود بحسب ذلك التجرد وقد يقوى الحب بالمحب حتى لا يشاهد منه بين الناس الا جسمه وروحه في موضع آخر عند محبوبه وفي هذا من شاعار الناس وحكاياتهم ما هو معروف وقوله اولئك خلفاء الله في ارضه ودعائه إلى دينه هذا حجة احد القولين في انه يجوز ان يقال فلان خليفة الله في ارضه واحتج اصحابه ايضا بقوله تعالى للملائكة إني جاعل في الارض خليفة واحتجوا بقوله تعالى وهو الذي جعلكم خلائف في الارض وهذا خطاب لنوع الانسان وبقوله تعالى امن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض وبقول موسى لقومه عسى ربكم ان يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون ويقول النبي صلى الله عليه وسلم ان الله ممكن لكم في الارض ومستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء واحتجوا بقول الراعي يخاطب ابا بكر رضي الله عنه:

خليفة الرحمن انام معشر … حنفاء نسجد بكرة واصيلا

وبكلام الإمام ابن القيم: يكون قد أجاب عما استشكله الرازي:
الفخر الرازي – 606هـ:المسألة السادسة: للعقلاء في قوله تعالى {وكان من الكافرين} قولان: أحدهما: أن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقا كافرا وفي تقرير هذا القول وجهان، أحدهما: حكى محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول كتابه المسمى «بالملل والنحل » عن ماري شارح الأناجيل الأربعة وهي مذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود قال إبليس للملائكة إني أسلم أن لي إلها هو خالقي، وموجدي، وهو خالق الخلق، لكن لي على حكمة الله تعالى أسئلة سبعة، الأولى: ما الحكمة في الخلق لاسيما إن كان عالما بأن الكافر لا يستوجب عند خلقه الآلام؟ الثاني: ثم ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود منه ضر ولا نفع وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟ الثالث: هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني السجود لآدم؟ الرابع: ثم لما عصيته في ترك السجود لآدم فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه، ولي فيه أعظم الضرر؟ الخامس: ثم لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة ووسوست لآدم عليه السلام؟ السادس: ثم لما فعلت ذلك فلم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم؟ السابع: ثم لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك، فلم أمهلني. ومعلوم أن العالم لو كان خاليا عن الشر لكان ذلك خيرا؟ قال شارح الأناجيل: فأوحى الله تعالى إليه من سرادقات الجلال والكبرياء: يا إبليس إنك ما عرفتني، ولو عرفتني لعلمت أنه لا عتراض علي في شيء من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل. واعلم أنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا عن هذه الشبهات مخلصا وكان الكل لازما، أما إذا أجبنا بذلك الجواب الذي ذكره الله تعالى زالت الشبهات واندفعت الاعتراضات وكيف لا وكما أنه سبحانه واجب الوجود في ذاته واجب الوجود في صفاته فهو مستغن في فاعليته عن المؤثرات والمرجحات إذ لو افتقر لكان فقيرا لا غنيا فهو سبحانه مقطع الحاجات ومنتهي الرغبات ومن عنده نيل الطلبات وإذا كان كذلك لم تتطرق اللمية إلى أفعاله ولم يتوجه الاعتراض على خالقيته وما أحسن ما قال بعضهم: جل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال فهذا القائل أجرى قوله تعالى {وكان من الكافرين} على ظاهره وقال إنه كان كافرا منافقا منذ كان.
[أقول أجاب ابن القيم بإجابات أحسن] ويراجع الشيخ بلال النجار

 

[1] قال أبو السعود: {قَالَ يا إِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} أَي خلقتُه بالذَّاتِ من غير توسُّطِ أبٍ وأمَ والتَّثنيةُ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بخلقِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المستدعِي لإجلالِه وإعظامِه قَصْداً إلى تأكيدِ الإنكارِ وتشديدِ التَّوبيخِ.
قال سيد طنطاوي: ومذهب السلف فى مثل هذا التعبير، أن اليد – مفردة أو غير مفردة – إذا وصف الله تعالى بها ذاته، فهى ثابتة له، على الوجه الذى يليق بكماله، مع تنزهه – سبحانه – عن مشابهته للحوداث .
ومذهب الخلف: تأويل اليد بالقدرة أو النعمة. والتثنية في يدى، للتأكيد الدال على مزيد القدرة في خلقه. أى: قال الله – تعالى قال التحرير والتنوير: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، آي خلقا خاصا دفعة ومباشرة لأمر التكوين، فكان تعلق هذا التكوين أقرب من تعلقه بإيجاد الموجودات المرتبة لها أسباب تباشرها من حمل وولادة كما هو المعروف في تخلق الموجودات عن أصولها. ولا شك في آدم فيه عناية زائدة وتشريف اتصال أقرب.فاليدان تمثيل لتكون آدم من مجرد أمر التكوين للطين بهيئة صنع الفخَّاري للإناء من طين إذ يسويه بيديه. وكان السلف يقرون أن اليدين صفة خاصة لله تعالى لورودهما في القرآن مع جزمهم بتنزيه الله عن مشابهة المخلوقات وعن الجسمية وقصدهم الحذر من تحكيم الآراء في صفات الله.أو أن تحمل العقول القاصرة صفات الله على ما تعارفته {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: ۳٩]وقال مرة: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: ٤٨].
[2] أي عمق هذا الاعتراض أي حاصل هذا الاعتراض وحقيقته
[3] هذا الموضوع سيأتي له بحث مستقل إن شاء الله
[4] شبه توبة العبد ورجوعه إلى الله بأنه جيش يهزم مكر الشيطان وتدبيراته وينصب له كمينا
[5] جعل هنا مغفرة الله لعبده بأنه نصر قد رجع بعد الهزيمة لأن من معاني الدولة كما في المصباح: تَدَاوَلَ الْقَوْمُ الشَّيْءَ تَدَاوُلًا وَهُوَ حُصُولُهُ فِي يَدِ هَذَا تَارَةً وَفِي يَدِ هَذَا أُخْرَى وَالِاسْمُ الدَّوْلَةُ وَدَالَتْ الْأَيَّامُ تَدُولُ مِثْلُ: دَارَتْ تَدُورُ وَزْنًا وَمَعْنًىى. فالمراد أن إبليس هزم آدم عليه السلام في المرة الأولي ثم دالت الدولة ورجع النصر بعد الهزيمة ورجع النصر بسبب اجتباء الله عز وجل لآدم عليع السلام
[6] تقدم الكلام عليها فراجعه
[7] المعنى كأن لم يكن به علة وداء وإصابة قال علماء اللغة: وما به قلبةٌ: داء يتقلّب منه على فراشه وقولهم: ما به قَلبَةٌ، قالوا: معناه ليست به عِلّة يُقْلب لها فيُنْظَر إليه. فانْطَلَق يَمْشِي، ما بِهِ قَلَبَةٌ، أَي: أَلَمٌ وعِلّةٌ
[8] أي المكان الذي يهرب إليه الشخص ويجد ملجأ وحماية ونجاة
[9] [الصلاح والظرف والعقل]
[10] هكذا في المطبوع بالباء خبره ولعلها خيره بالياء
[11] يريد أن يقول لما علم سبحانه أنه سبتلى وتصيبه المصيبة والمحنة بالإخراج من الجنة بعد المعصية جبر سبحانه مصيبته وأكرمه قبل مصيبته بأن علمه الأسماء وفضله على الملائكة وأسجد ملائكته له وغيرها من النعم ثم بعد الذنب أكرمه بقبول التوبة ودخول الجنة مرة ثانية وجعله خليفة في الأرض وأكرمه بعز الطاعة الاختيارية وغيرها من النعم فكانت مصيبته محفوفة بإنعامين
[12]هكذا في الموسوعة والمطبوع لكن أظن أن في العبارة تقديما وتأخيرا والأصل كم لله سبحانه في ذلك من حكمة وكل فيه من نعمة ومصلحة تعجز العقول عن معرفتها على التفصيل ولو استفرغت قواها كلها في معرفة ذلك كان يعسر وإهباط آدم وإخراجه من الجنة ليعود إليها على أحسن أحواله انتهى والله أعلم أو يقال في العبارة حذف والأصل: وإهباط آدم وإخراجه من الجنة كان يعسر كماله بدونه فأخرجه منها ليعود إليها على أحسن أحواله
[13] قال ابن القيم في موضع آخر: فلله كم من تقدير الذنب من حكمة وكم فيه مع تحقيق التوبة للعبد من مصلحة ورحمة التوبة من الذنب كشرب الدواء للعليل ورب علة كانت سبب الصحة
لعل عتبك محمود عواقبه … وربما صحت الأجساد بالعلل
لولا تقدير الذنب هلك ابن آدم من العجب ذنب يذل به احب اليه من طاعة يدل بها عليه شمعة النصر انما تنزل في شمعدان الانكسار لا يكرم العبد نفسه بمثل اهانتها ولا يعزها بمثل ذلها ولا يريحها بمثل تعبها كما قيل
سأتعب نفسي أو أصادف راحة … فان هوان النفس في كرم النفس
[14] هذه مسألة بين الأشاعرة وابن القيم ومن معه ، أعني مسألة هل العمل يدخل في حقيقة الإيمان: قال السادة الأشاعرة العمل شرط كمال أي كمال الإيمان وليس شطرا ولا جزءا من حقيقة الإيمان قال الباجوري في شرح الجوهرة: الإيمان شرعا هو التصديق بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مما علم من الدين بالضرورة إجمالا في الإجمالي وتفصيلا في التفصيلي وأما العمل فشرط كمال على المختار عند أهل السنة فمن أتى بالعمل فقد حصل الكمال ومن تركه فهو مؤمن لكنه فوت على نفسه الكمال إذا لم يكن مع ذلك استحلال أو عناد للشارع أو شك في مشروعيته وإلا فهو كافر فيما علم من الدين بالضرورة وذهبت المعتزلة إلى أن العمل شطر من الإيمان [أي جزء من الأيمان] فمن ترك العمل فليس بمؤمن انتهى ولكن ما ذكره ابن القيم من الفائدة السادسة يأتي أيضا على قول الأشاعرة
قال ابن القيم في تقرير مذهبه: وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد وقول اللسان وهوالتكلم بكلمة الإسلام, والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه, وعمل الجوارح، فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة.
[15] شيخ الحنابلة ببغداد فى وقته قال عنه ابن حجر: نعم كان معتزليا، ثم أشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك وصحت توبته، له تصانيف كثيرة، منها ـ كتاب الفنون ـ الذى يزيد على أربعمائة مجلد، توفى سنة 315هـ وينقل عنه ابن الجوزي كثيرا ويعظمه
[16] يعني عوده يوم القيامة بعد العمل والاجتهاد في الدين
[17] أي أن أول هذه الأمور مر لكنه في العاقبة حلو
[18] أي كلما كان الأخذ بالأسباب أكمل كلما كانت النتيجة أحسن وكذلك الأسباب كلما كملت كملت النتائج
[19] سبين ابن القيم كيف سارت سورة العنكبوت وسيستعرض السورة وموضوعاتها وطريقة علاجها لموضوعها
[20] تنبيه: تكلم البوطي في كتابه هل الإنسان مسير أم مخير عن هذا الموضوع وسأنقل كلامه إن شاء في الأيام الآتية إن شاء الله تعالى
[21] (الفج) من كل شيء مالم ينضج
[22] هذا جواب سؤال تقديره ما الحكمة في إيلام الحيوانات غير المكلفة كالبقر والغزلان والأسود وغيرها أقول وقد بين علماء الأحياء المعاصرون حكما كثيرة لما تفعله الحيوانات أو يحصل معها فلتراجع كتبهم
[23] أسلوب تعجب