فوائد إيمانية من قصة آدم : {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} للشيخ علي هاني

فضيلة الشيخ الأستاذ المفسر علي هاني يواصل تفسيره لسورة البقرة، ويتناول في هذا الجزء التفسيري ذكر مناسبة تفسير قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، ويبين من خلال هذا التفسير علم الله تعالى بدواعي خلافة الإنسان على الآرض، وإرشاد الملائكة أن يقفوا عند حدود الأدب اللائق بمقام الحالق عز وجل، ثم سرد أقوال المفسرين للآية.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المناسبة

قال نظم الدرر:
أعلمنا سبحانه لنشكره أنه حاجَّ ملائكته عنا، فبين لهم أن الأمر على خلاف ما ظنوا بقوله استئنافاً: (قال إني أعلم) فقد رد اللّه – تعالى – على الملائكة بقوله: { ِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ}. أى: إنى أعلم من دواعي الخلافة فيه والمعاني المستدعية للخلافة فيه والحكم والمصالح العظيمة والمصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم وأعلم أن صلاحه يحصل منه المقصد من تعمير الأرض وأن فساده لا يأتي على المقصد بالإبطال فإنى سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والمحبون له – تعالى – المتبعون رسله ما خفي عليكم وأعلم ما سيكون منهم من الخير والرشد والعلم والحفظ، والطاعة وأنتم لا تعلمون.

فبيّن سبحانه وتعالى لهم أولاً على وجه الإجمالِ والإبهامِ أن فيه فضائلَ غائبة عنهم ليستشرفوا إليها، ثم أبرَزَ لهم طرفاً منها ليعاينوه جَهرةً ويظهَرَ لهم بديعُ صنعِه وحكمتِه وينزاحَ شبهتُهم بالكلية في قوله {وعلم آدم ـ ـ ـ فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ـ ـ ـ}

وقد كان قول الله تعالى {إني أعلم ما لا تعلمون} تنهية للمحاورة وإجمالا للحجة على الملائكة بأن سعة علم الله تحيط بما لم يحط به علمهم وأنه حين أراد أن يجعل آدم خليفة كانت إرادته عن علم بأنه أهل للخلافة فإخباره بأنه يجعل في الأرض خليفة يقتضي التسليم له والرجوع إليه فيما أراد أن يفعله والرضا بذلك لأن علمه محيط بما لا يحيط به علم عالم، جل اللّه وعز

فالجملة الكريمة:
– إرشاد لهم إلى الأمر الذي من شأنه أن يقف بهم عند حدود الأدب اللائق بمقام الخالق – عز وجل –
– وتنبيه إلى أنه – تعالى – عالم بما لا يحيط به علم أحد من خلقه، فله أن يفعل ما يشاء ويأمر بما يشاء، وليس من أدب المؤمنين بأنه العليم الحكيم أن يسألوه حين يأمرهم بشيء، أو يعلمهم بأنه سيفعل شيئا، عن حكمة ما أمر به أو ما سيفعله، بل شأنهم أن يتجهوا إلى استطلاع حكمة الأفعال والأوامر من أنفسهم، فإذا أدركوها فقد ظفروا بأمنيتهم، وان وقفت عقولهم دونها، ففي تسليمهم لقدر اللّه، وامتثالهم لأوامره الكفاية في القيام بحق التكليف والفوز برضا اللّه، الذي هو الغاية من الإيمان به والإقبال على طاعته

قال السعدي:
قال الله للملائكة: “إني أعلم” من هذا الخليفة “ما لا تعلمون” لأن كلامكم بحسب ما ظننتم وأنا عالم بالظواهر والسرائر وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر … فلولم يكن في ذلك … إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ولتظهر آياته للخلق ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة … كالجهاد وغيره وليظهر ما كن من غرائز المكلفين من الخير والشر بالامتحان وليبين عدوه من وليه وحزبه من حزبه وليظهر ما كان في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه واتصف به فهذه حكم عظيمة يكفي بعضها في ذلك.

قال النورسي:
إن في {إني} للتحقيق ورد التردد والشبهة وهو إنما يكون في حكم نظري ليس بمسلم مع بداهة ومسلمية علم الله تعالى بما لا يعلم الخلق وحاشاهم عن التردد في هذا فحينئذ يكون {إن} منارا على سلسلة جمل لخصها القرآن وأجملها وأوجزها بطريق بياني مسلوك أي أن في البشر مصالحا وخيرا كثيرا تغمر في جنبها معاصيه التي هي شر قليل فالحكمة تنافي ترك ذلك لهذا وإن في البشر لسرا أهله للخلافة غفلت عنه الملائكة وقد علمه خالقه ــ وإن فيه حكمة رجحته عليهم لا يعلمونها ويعلمها من خلق.

ثم إنه قد ذكر في تحقيق هذا الجواب الإجمالي أن الله عليم حكيم لا تخلو أفعاله عن حكم ومصالح فالموجودات ليست محصورة في معلومات الخلق فعدم العلم لا يدل على العدم وأن الله تعالى لما خلق الخير المحض أعني الملائكة والشر المحض أعني الشياطين وما لا خير عليه ولا شر أعني البهائم اقتضت حكمته [الحكيم العليم] وجود القسم الرابع الجامع بين الخير والشر إن انقادت القوة الشهوية والغضبية للقوة العقلية فاق البشر الملائكة بسبب المجاهدة وإن انعكست القضية صار أنزل من البهائم لعدم العذر.

قال ابن كثير:
{قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} قال قتادة: فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنون.

قال أبو السعود:
وإنما لم يقتصِرْ على بيان تحققِها فيه عليه السلام بأن قيل مثلاً: إن فيه ما يقتضيه من غير تعرّضٍ لإحاطته تعالى وغفلتِهم عنه تفخيماً لشأنه وإيذاناً بابتناء أمرِه تعالى على العلم الرصينِ والحكمةِ المتقنة وصدورِ قولِهم عن الغفلة

قال المنار:
وَالْمَلَائِكَةُ أَعْلَمُ مِنَّا بِشَأْنِ اللهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَنَّهُ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، فَهُمْ وَإِنْ فَاجَأَهُمُ الْعَجَبُ مِنْ خَلْقِ الْخَلِيقَةِ، يَرُدُّهُمْ إِلَى الْيَقِينِ أَدْنَى التَّنْبِيهِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى:- {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} جَوَابًا مُقْنِعًا أَيَّ إِقْنَاعٍ وَإِنَّمَا تَسْكُنُ النَّفْسُ بِبُرُوزِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَتْ تَعْجَبُ مَنْ بُرُوزِهِ إِلَى عَالَمِ الْوُجُودِ وَوُقُوفِهَا عَلَى أَسْرَارِهِ وَحِكَمِهِ بِالْفِعْلِ

قال عمدة القاري:
فقال الله تعالى في جوابهم {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ۳۰] أي إني أعلم بالمصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها فإني سأجعل فيهم الأنبياء والرسل ويوجد فيهم الصديقيون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار المقربون والعلماء العاملون والخاشعون والمتبعون رسله

قال أبو زهرة:
ولكن فى الإنسان ما يجعله جديرا بالخلافة فى الأرض ليبلوه فيما آتاه الله تعالى من خيرها، فهو يعلمه ويعلمهم، ويعلم الجدير منهم بأن يجعله فى الأرض، ولذلك قال تعالى ردا لاستغرابهم بقوله: (إني أعلم ما لا تعلمون} هو أعلم الجدير بما أعطى وغير الجدير.

وقد بين الله تعالى ما أودعه نفس الإنسان من العلم بالأشياء أو الاستعداد للعلم بها، أو أودع نفسه الاستعداد بعلمه بالأشياء كلها مما لا يعلمون هم، فقال تعالى:{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) }

قال القشيري:
– ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من محبتي لهم وأنتم تظهرون أحوالكم وأنا أخفي عليهم أسراري فيهم وفي معناه أنشدوا: –
ما حطك الواشون عن رتبة عندي ولا ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا ولم يعلموا عليك عندي بالذي عابوا
– ويقال {إني أعلم ما لا تعلمون} من انكسار قلوبهم وإن ارتكبوا قبيح أفعالهم وصولة [1] قلوبكم عند إظهار تسبيحكم وتقديسكم … فأنتم في رتبة وفاقكم وفي عصمة أفعالكم، وفي تجميل تسبيحكم وهو منكرون عن شواهدهم … متذللون بقلوبهم وإن انكسار قلوب العباد عندنا لذماما [2] قويا
– ويقال أي خطر [3] لتسبيحكم لولا فضلي، وأي ضرر من ذنوبهم إذا كان عفوي
– ويقال لبستكم طاعتكم ولبستهم رحمتي فأنتم في صدار طاعتكم وفي حلة تقديسكم وتسبيحكم، وهم في تغمد عفوي وفي ستر رحمتي ألبستهم ثوب كرمي وجللتهم رداء عفوي.
– ويقال: إن أسعدتكم عصمتي فلقد أدركتهم رحمتي وإيصال عصمتي بكم عنده وجودكم وتعلق رحمتي بهم في أزلي.
– ويقال: لئن كان محسنكم عتيق العصمة فإن مـُجـْرمهم غريق الرحمة
– إني أعلم ما لا تعلمون من صفاء عقائد المؤمنين منهم في محبتنا وذكاء سرائرها في حفظ عهودنا وإن تدنس بالعصيان ظاهرهم … كما قيل وإذا الحبيب أتي بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع

قال النسفي:
و«ما» بمعنى «الذي» وهو مفعول أعلم والعائد محذوف أي ما لا تعلمونه. أعلم فعل مضارع لا أفعل تفضيل

قال ابن عطية:
الأظهر أن {أعلم} فعل مستقبل

قال التحرير:
وتأكيد الجملة بإن في قوله تعالى {إني أعلم ما لا تعلمون} لتنزيل الملائكة في مراجعتهم وغفلتهم عن الحكمة منزلة المترددين

قال المراغي:
توكيد الخبر في {إني أعلم ما لا تعلمون} لإزالة ما في نفوس الملائكة من دهشة واستغراب من أمر الاستخلاف الذي غابت عنهم حكمته

قال الرازي:
وثالثها: أن الشرور وإن كانت حاصلة في تركيب هذا العالم السفلي إلا أنها من لوازم الخيرات الحاصلة فيه وخيراتها غالبة على شرورها وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فالملائكة ذكروا تلك الشرور، فأجابهم اللّه تعالى بقوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يعني أن الخيرات الحاصلة من أجل تراكيب العالم السفلي أكثر من الشرور الحاصلة فيها والحكمة تقتضي إيجاد ما هذا شأنه لا تركه وهذا جواب الحكماء.

وقال الرازي:
كأنه قال فأنتم علمتم ظاهرهم وهو الفساد والقتل وما علمتم باطنهم وأنا أعلم ظاهرهم وباطنهم فأعلم من بواطنهم أسراراً خفية وحكماً بالغة تقتضي خلقهم وإيجادهم

قال المنار:
فَأَوَّلُ مَا أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ وُجُوبُ الْخُضُوعِ وَالتَّسْلِيمِ لِمَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ؛ لِأَنَّ مَا يَضِيقُ عَنْهُ عِلْمُ أَحَدٍ وَيَحَارُ فِي كَيْفِيَّتِهِ يَتَّسِعُ لَهُ عِلْمُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَمِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يُسَلِّمَ لِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ مَا يَتَصَدَّى لَهُ مَهْمَا يَكُنْ بَعِيدَ الْوُقُوعِ فِي اعْتِقَادِهِ، وَمَـثـَّلَ الْأُسْتَاذُ محمد عبده لِذَلِكَ بِمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ مَعَ مُرِيدِيهِمْ.

قال ابن كثير:
وقد ثبت في الصحيح: أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام: “يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل” فقولهم: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}

قال ابن القيم:
قال تعالى {قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها يفسك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}
• فأجابهم تعالى عن هذا السؤال بأن له من الحكمة في جعل هذا الخليفة في الأرض ما لا تعلمه الملائكة وإن وراء ما زعمتم من الفساد مصالح وحكما لا تعلمونها أوصلها بعض العلماء إلى قريب من أربعين حكمة:
1. فاستخرج تعالى من هذا الخليفة وذريته الأنبياء والرسل والأولياء والمؤمنين وعمر بهم الجنة وميز الخبيث من ذريته من الطيب فعمر بهم النار.
2. وكان في ضمن ذلك من الحكم والمصالح ما لم يكن للملائكة تعلمه.
3. ثم إنه سبحانه أظهر فضل الخليفة عليهم بما خص به من العلم الذي لم تعلمه الملائكة وأمرهم بالسجود له تكريما له وتعظيما له وإظهار لفضله.

وفي ضمن ذلك من الحكم ما لا يعلمه إلا الله:
4. فمنها امتحانهم بالسجود لمن زعموا أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء فأسجدهم له وأظهر فضله عليهم لما أثنوا على أنفسهم وذموا الخليفة كما فعل سبحانه ذلك بموسى لما أخبر عن نفسه أنه أعلم أهل الأرض فامتحنه بالخضر وعجزه معه في تلك الوقائع الثلاث وهذه سنته تعالى في خليقته وهو الحكيم العليم.
5. ومنها خبره [4] لهذا الخليفة وابتداؤه له بالإكرام والإنعام لما علم مما يحصل له من الانكسار والمصيبة والمحنة فابتدأه بالجبر والفضل ثم جاءت المحنة والبلية والذل وكانت عاقبتها إلى الخير والفضل والإحسان فكانت المصيبة التي لحقته محفوفة بإنعامين إنعام قبلها وبعدها [5] .
6. ولذريته المؤمنين نصيب مما لأبيهم فإن الله تعالى أنعم عليهم بالإيمان ابتداء وجعل العاقبة لهم فما أصابهم بين ذلك من الذنوب والمصائب فهي محفوفة بإنعام قبلها وإنعام بعدها فتبارك الله رب العالمين.
7. ومنها استخراجه تعالى ما كان كامنا في نفس عدوه إبليس من الكبر والمعصية الذي ظهر عند أمره بالسجود فاستحق اللعنة والطرد والإبعاد على ما كان كامنا في نفسه عند إظهاره.
8. والله تعالى كان يعلم منه ولم يكن ليعاقبه ويلعنه على علمه فيها بل على وقوع معلومه فكان أمره بالسجود له مع الملائكة مظهرا للخبث والكفر الذي كان كامنا فيه ولم تكن الملائكة تعلمه فأظهر لهم سبحانه ما كان يعلمه وكان خافيا عنهم من أمره فكان في الأمر بالسجود له:
أ‌- تكريما لخليفته الذي أخبرهم بجعله في الأرض وجبرا له
ب‌- وتأديبا للملائكة
ت‌- وإظهارا لما كان مستخفيا في نفس إبليس
9. ثم إنه سبحانه لما علم آدم ما علمه ثم امتحن الملائكة بعلمه فلم يعلموه فأنبأهم به آدم وكان في طي ذلك جوابا لهم عن كون هذا الخليفة لا فائدة في جعله في الأرض فإنه يفسد فيها ويسفك الدماء فأراهم من فضله وعلمه خلاف ما كان في ظنهم.
10. وأيضا فإنه سبحانه قال للملائكة: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ثم أظهر سبحانه من علمه وحكمته الذي خفي على الملائكة من أمر هذا الخليفة ما لم يكونوا يعرفونه بأن جعل من نسله من أوليائه وأحبائه ورسله وأنبيائه من يتقرب إليه بأنواع التقرب ويبذل نفسه في محبته ومرضاته يسبح بحمده أناء الليل وأطراف النهار ويذكره قائما وقاعدا وعلى جنبه ويعبده ويذكره ويشكره في السراء والضراء والعافية والبلاء والشدة والرخاء فلا يثنيه عن ذكره وشكره وعبادته شدة ولا بلاء ولا فقر ولا مرض ويعبده مع معارضة الشهوة وغلبات الهوى وتعاضد الطباع لأحكامها ومعاداة بني جنسه وغيرهم له فلا يصده ذلك عن عبادته وشكره وذكره والتقرب إليه فإن كانت عبادتكم لي بلا معارض ولا ممانع فعبادة هؤلاء لي مع هذه المعارضات والموانع والشواغل.
11. وأيضا أنه سبحانه أبرز خلقه من العدم إلى الوجود ليجري عليه أحكام أسمائه وصفاته فيظهر كماله المقدس وإن كان لم يزل كاملا فمن كماله ظهور آثار كماله في خلقه وأمره وقضائه وقدره ووعده ووعيده ومنعه وإعطائه وإكرامه وإهانته وعدله وفضله وعفوه وإنعامه وسعة حلمه وشدة بطشه وقد اقتضى كماله المقدس سبحانه أنه كل يوم هو في شأن فمن جملة شؤونه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويشفي مريضا ويفك عانيا وينصر مظلوما ويغيث ملهوفا ويجبر كسيرا ويغني فقيرا ويجيب دعوة ويقيل عثرة ويعز ذليلا ويذل متكبرا ويقصم جبارا و يميت ويحيي ويضحك ويبكي ويخفض ويرفع ويعطي ويمنع ويرسل رسله من الملائكة ومن البشر في تنفيذ أوامره وسوق مقاديره التي قدرها إلى مواقيتها التي وقتها لها.

فائدة:

قال الدكتور ياسر برهامي في قصة آدم:
وفي قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} مفزع لكل مؤمن يرى في الأرض من أنواع الفساد والشر ما قد يضيق به

 

[1] الصولة نقيض انكسار القلب وأصل الصولة في اللغة ( الصولة ) السطوة في الحرب ونحوها قال ابن فارس : (صول) الصاد والواو واللام أصلٌ صحيحٌ، يدلُّ على قَهْرٍ وعُلُوّ. يقال: صال عليه يَصُول صَولةً، إذا استطال.
[2] قال المعجم الوسيط : الذمام ) العهد والأمان والكفالة والحق والحرمة
[3] أي أي مكانة وقدر قال المعجم الوسيط : ( خطر ) خطرا وخطورا وخطورة عظم وارتفع قدره
[4] هكذا في المطبوع بالباء خبره ولعلها خيره بالياء
[5] يريد أن يقول لما علم سبحانه أنه سبتلى وتصيبه المصيبة والمحنة بالإخراج من الجنة بعد المعصية جبر سبحانه مصيبته و أكرمه قبل مصيبته بأن علمه الأسماء وفضله على الملائكة وأسجد ملائكته له وغيرها من النعم ثم بعد الذنب أكرمه بقبول التوبة ودخول الجنة مرة ثانية وجعله خليفة في الأرض وأكرمه بعز الطاعة الاختيارية وغيرها من النعم فكانت مصيبته محفوفة بإنعامين