سلسلة يا باغي الخير أقبل | المحاضرة الرابعة | تاج الشهور وبركة الأيام | الشيخ أنس الموسى



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فهذا هو اللقاء الرابع من سلسلة: “يا باغي الخير أقبل” نتحدث فيها عن مكانة رمضان والصيام فيه، وقد تحدثنا في اللقاء الماضي عن أهمية ومكانة شرعة الصيام بغض النظر عن كونه في رمضان أو في غيره، واليوم سنتحدث عن مكانة شهر رمضان على وجه الخصوص، وسيكون عنوان هذا اللقاء: “تاج الشهور وبركة الأيام”.

 

والحق أيها الإخوة أنه لم يبق جانب من جوانب الصيام إلا وتحدث عنه الباحثون المسلمون، فالناس يتحدثون عن مكانة الصيام وفوائده مُذ فرضه الله عز وجل إلى الآن، وفي كل فائدة من فوائده يزداد المسلم يقيناً وثقةً بدينه إلى حكمة الله سبحانه في تشريع هذه الفريضة، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا في هذا اللقاء لمعرفتها والدلالة عليها.

 

نقول وبالله التوفيق:

– هناك صورتان لشهر رمضان يرى الناس من خلالهما شهر الصيام، ولكن كلٌ بمنظاره:

  • الصورة الأولى: شهر رمضان الذي يُلْزِم النفسَ الجوع والعطش، ويمنعها مألوفاتها ومرغوباتها من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فيُلزمُ المدخّنَ ترك دَخِيَنِته التي تعلّق بها، والجائعُ والعَطِشُ يرى الطعام والماء أمامه ويُمنع من تناوله، والشاب تتوق نفسه لأهله وهي بجانبه فيؤمر بالإمساك والكفّ والامتناع، بل ويسُبُّك شخصٌ تحسبه تافهًا ويشتمك فتؤمرُ بكظم غيظك وكبت غضبك، بل لا تزيد في الرد عليه إلا قولُك: إني صائم، إني صائم.

إلى غير ذلك من ألوان المنع، فهو لون من الحرمان الإلزامي الإجباري، يُضْجِرُ الإنسانَ فيحتال للتغلب عليه، فهو شهر مزعج ثقيل أتى يحمل جوع البطن وعطشها، وجوع الجوارح أيضًا، لهذا: فما إن يضرب مدفع الإفطار حتى يشعر الصائم بشعور مسجون قد فُكَّ إساره فينطلق إلى ما مُنِع عنه ورَغب فيه وقت الصيام، فيقبل عليه إقبال المحروم المنتقم الساخط، وكأنه يرغب بالانتقام، كما قال الشاعر:

إذا رمضان جاءهم أعدوا

مطاعم ليــــس يُـدْركـهـــا انـهضــــام

وقــالوا يا نهــار لئن تُجِعْنـا

فإن اللـيـــــل منـــك لـنــــا انتـقـــــامُ
هكذا ترى شريحة من الناس الصورة الأولى لشهر رمضان.

 

  • لكن هناك صورة أخرى تراها أيضا شريحة كبيرة من الناس، وترى أن هذه الصورة جديرة أن تمحو كل آثار الصورة الأولى القاتمة المزعجة، فهم يرون رمضان بأنه:
  1. الشهر الذي يذلل النفس، ويطبعها على الطاعة حتى تكون طوع اليدين، ولا تكاد تعصي للصائم أمرًا، ولا تأبى عليه مرادًا، فشهر رمضان يروّض الصائم أياما كل عام على ضبط الإرادة وتوثيق العزم.
  2. شهر رمضان جعله الله شهرًا يتدرب المؤمن فيه على حُكم نفسه ليأخذ بناصية هواه وشهواته، وليكون ممن هُيِّئُوا للحسنى وزيادة، فطوبى لمن ترك شهوةً حاضرةً لموعد غَيْبٍ لم يَره.

  3. شهر رمضان شهر كلفة ومشقة لا شك في هذا ولا ريب، ولكنها مشقة لا بد منها وحرمان لا فِكاك عنه لرياضة النفوس وتهذيبها، فهو عظيم الأثر في توطين الإنسان على ما يكره، فقَلَّ أن يَحمل الإنسان نفسَه على ما تكره إلا في رمضان، وقلّ أن يغيّر الإنسان أسلوب عيشه ويخرج من هذه الدائرة المفرغة إلا في رمضان.
  4. شهر رمضان الذي يدرب على السيادة والقيادة، سيادة النفس وقيادتها وضبط زمامها، فقد شرع الحق شهر رمضان لإعداد هذا الكائن البشري، وتهيئته للكمال المقدّر له في الحياة الأخرى.
    لقد كان بالأمس يصون لسانه عن قبيح القول، فأصبح بالصوم يصونه حتى عن رد الإساءة وإجابة التحرش والاستفزاز، ولا يزيد على قول: إني صائم، ففائدة الجوع والحرمان – أيها الإخوة – إنما هو سبيل التهذيب الخلقي والكمال الإنساني، فكل مشقة فيه محبَّبَة، والكريه سائغ مقبول.

  5. شهر رمضان ينشر في المجتمع روح العبودية لله عز وجل فقط، فهو يجرد الصائم من عبادة شهواته واسترقاقه لعاداته، ويسمو بنفسه أن تخضع عبودية لغير الخالق سبحانه؛ فالإنسان الذي تحكمه عاداته يصبح عبدًا لها، ويتخلى عن شيم الأحرار الذين يعملون في حرية واختيار؛ فشهر رمضان يؤهل الصائم ليصبح ملكا؛ لأن صاحب الشهوة عبدٌ، وإذا ملك الشهوة أضحى ملكًا.
    يخاطب الصائم العبدُ الحرَّ شهواتِه قائلا:

تنحي عن طــــريقي إن روحي

 
لتأبى أن تُــكـبّـــــل بالــقـيـــــــــودِ

على حرب الهوى عاهدتُ ربي

 
وإني لــــــســتُ أنكثُ بالعهـــــــودِ

فالله ليس محتاجًا أن ندع طعامنا وشرابنا، ولكن ليشهد حالنا أن نداء السماء أعز علينا من شهوة الجسد، فرمضان هو المعلم الذي يبرهن على أن ترك المباحات إنما هي رسائل لغايات أهم وأجل، وهي إثبات العبودية لله، وحسن الخلافة في الأرض.


6. شهر رمضان الذي يؤوب فيه الناس لربهم فتمتلئ المساجد بالمصلين الذاكرين، دخلوا بيوت الله بقلوب ملؤها الرجاء، قطعوا أسبابهم من عالم الأرض وتوجهوا إلى الله وحده، علموا أن شهر رمضان هو الشهر الذي إذا جاء:

أ- فتحت أبواب الجنة، وغلِّقت أبواب النار، وصفدت الشياطين.

ب- من صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.

ج- فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم.

د- فيه عند كل فطر عتقاء، وذلك في كل ليلة.

7. فقليل هم الذين يعرفون من دهرهم ساعات السَّحر ونسمات الفجر، لكنهم يعيشونها ويتعرفون عليها في شهر رمضان، ينادَى على الصائم فيها:

يا بـــاغي الخير هذا شهر مكرمة

 

أقبل بصــــدق جزاك الله إحســــــــانًا

أقــــبـل بجودٍ ولا تبخل بـــــنافلةٍ

 
واجــعل جبينك بالســـــجدات عنوانًا
 

8. فيتجلى في شهر رمضان شرف الزمان حيث تعظم الأجور، فعمرة في رمضان كحِجة مع رسول الله ، والصدقة فيه ليست كأي صدقة، ومأدبة القرآن ليست كأي مأدبة.

9. شهر رمضان الذي تتحقق فيه معاني الإنسانية والمساواة بين الناس، فلا يجوع واحد ويُتْخَمُ آخر، بل يشترك الجميع في الحرمان، فيشعر الغني بلذعة الجوع ليتذكر فيما بعد قول السائل: إني جائع، ويتعرف الفقير أيضا نعم الله عليه عندما يعلم أنه حتى الغني يتمنى رغيف الخبز، وجرعة الماء.

فهو شهر يخرجنا من أنانيتنا، ويأخذنا قسرا إلى الضعيف والمحتاج وذا الحاجة، نحس بجوعهم ومعاناتهم إحساسا شعوريا وجدانيا، فمن عاين ورأى ليس كمن سمع.

 

10. شهر رمضان الذي يُعْطى فيه السائل ويُغْفر الله فيه للتائب، وترتبط الحبال وتتصل بحبل الله الذي لا ينقطع، فتحس القلوب والأرواح والأسرار حرارة القرب، وتشعر بلذة الرضا والقبول لذة لا تعادلها لذاذات الدنيا كلها.

11. وأخيرًا: أتى رمضان، وسيمضي كما مضى غيره من الشهور.

 ألا خاطبٌ في هذا الشهر للرحمن..؟ ألا راغبٌ فيما أعده الله للطائعين في الجنان؟ ألا طالبٌ لما أخبر الله به من النعيم المقيم مع أنه ليس الخبر كالعيان؟

 

اللهم كما بلغتنا رمضان، أعنّا فيه على الصيام والقيام وغضّ البصر وحفظ اللسان، وحقّقنا بأسراره ومعانيه.

آمين آمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.