سلسلة يا باغي الخير أقبل | المحاضرة الخامسة | خيرُ الزَّاد | الشيخ أنس الموسى



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا، ونبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.

 وبعد:

فهذا هو اللقاء الخامس من سلسلة “يا باغي الخير أقبل” نتحدث فيه عن مكانة، وأهمية شهر رمضان، واليوم بمشيئة الله سنتحدث عن الغاية الأولى للصوم، وسيكون عنوان لقاءنا ..خيرُ الزادِ

 

يقول الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة، 183].

إذا سمعت الله ينادي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، فارْعِ للنداء سمعك؛ فإنه خيرٌ تُؤْمر به، أو شرٌّ تُنْهَى عنه.   

﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: التقوى التي لا تكاد تمرُّ علينا خطبةٌ أو موعظةٌ إلا وتُذْكر، هي الغاية الأولى للصوم.

  1. فالغاية الأولى للصوم هي إعداد قلوب الصائمين للتقوى؛ لأن العبادة إذا لم يكن لها أثر في إثارة دافع الخير لا فائدة من إتعاب الجسد بها؛ لهذا كان من قول رسول الله «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْل فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
  2. التقوى هي الغاية التي تتطلع إليها أرواح الصائمين وتهفو إليها أسرار الصالحين المخبتين، والصيام أداة من أدواتها، وطريق موصل لها؛ فالصيام مدرسة تعليم التقوى.

  3. لقد اختلفت تعابير العلماء في تعريف التقوى لكنها جميعاً تدل على: أن يأخذ العبد وقايته من سَخَط الله، وعذابه. فالصيام جُنَّةٌ من النار، ووقاية من سخط الله.
  4. التقوى التي أوصى بها جميع الأنبياء أقوامهم كما قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ[الشعراء، 106]، وقال : ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ[الشعراء، 142]،وقال : ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء، 161]، وقال : ﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ۝ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ[الصافات، 123- 124] لقد ذكرت التقوى في القرآن أكثر من مئتين وأربعين مرة.

  5. التقوى هي التي أوصى بها رسول الله أصحابه بعد أن وعظهم موعظةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون فقال: «أوصيكم بتقوى الله» [أبو داوُد 4607، أحمد 17144].
  6. التقوى التي كان رسول الله يسألها ربه في سفره فيقول: «اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى» [مسلم 1345].

  7. التقوى هي المادة المميزة لأولياء الله بعد الإيمان به ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ[يونس، 62- 63].
  8. التقوى هي سبب معية الله ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ[النحل، 128].

  9. التقوى هي سبب دخول الجنة ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ[آل عمران، 133].
  10. دخل سيدنا علي المقبرة فقال: (يا أهل القبور ما الخبر عندكم؟ إنَّ الخبرَ عندنا أنَّ أموالكم قد قُسِمَت، وأن بيوتكم قد سُكِنَتْ، وأن زوجاتكم قد زُوِّجت ثم بكى، ثم قال: والله لو استطاعوا أن يجيبوا لقالوا: إنا وجدنا أن خير الزاد التقوى).حقاً أيها الإخوة: إنَّ خير زادٍ يتزود به المؤمن للقاء ربه سبحانه هو التقوى ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ [البقرة، 197].

  11. التقوى هي وصية الفاروق عمر رضي الله عنه لابنه عبد الله يقول له: (أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله؛ فإن من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، واجعل التقوى نُصْبَ عينيك وجِلاءَ قلبك).
  12. بل هي وصية رسول الله عندما قال: «اتّق الله حيثما كنت» [أحمد 21354].

  13. فالتقوى أيها الإخوة يحتاجها كل أحد؛ فيحتاجها الأب في تربية ولده، والزوجة في إدارة بيتها وتربية أولادها، يحتاجها العلماء قبل العامة، يحتاجها الكهل والشاب، والذكر والأنثى.
  14. رحم الله الإمام الغزالي إذ يقول: “أليس الله تعالى أعلمَ بصلاح العبد من كل أحد؟ ولو كانت في العالم خَصلة هي أصلحُ للعبد، وأجمعُ للخير وأعظم للأجر، وأجلُّ في العبودية، وأولى في الحال، وأنجح في المآل من هذه الخصلة التي هي التقوى؛ لكان الله أمر بها عباده”.

  15. التقوى هي الغاية التي لا مُتَجَاوزَ عنها، ولا مقصود دونها، الكافيةُ لجميع المهمات، المبلِّغةُ أعلى الدرجات.
  16. التقوى التي نتحدث عنها أيها الإخوة: ليست شعوراً جامداً محبوساً في قلب العبد لا أثر له ولا ثمر، بل هي حارس قائم في أعماق الضمير تحمل المؤمن على امتثال أمر ربه وترك نهيه، فكل حركة وسكون لا بدَّ فيها من تقوى الحي القيوم.
  17. إنّ علامة وجود التقوى ظهور أثرها على الجوارح.

  18. بعضهم لو قلت له اتّق الله لنظر إليك شَذَرَ مَذَر، ولرفع عقيرته وقال بلسان الواثق بنفسه ضاربًا بيده على صدره: التقوى هاهنا..التقوى هاهنا.
    كلّا أيها الإخوة: إنها كلمة حقٍّ أريد بها باطل؛ رسول الله يريد من كلامه أن التقوى هاهنا: أن أصلها، ومستقرها في القلب، فإذا نزلت في صدور أصحابها؛ ارتسمت بها أقوالهم، وأعمالهم، وأثمرت الفضائل والفوائد بما يصلح شأن الإنسان في الدنيا والآخرة.
  19. التقوى المنشودة أيها الإخوة ليست مسبحة درويش، ولا عمامة متمشيخ، ولا صومعة زاهد؛ بل هي إتقان وإحسان، علم وعمل..فيا أيها المسكين أنهكتك بوارق الشهوات، وأجهدتك قيود السيئات، ثم تقول: التقوى هاهنا!! انهض من فراش غفلتك، وابك على ذنوبك، واثأر من شيطانك، وحاصر سيئاتك ثم اضرب على صدرك ما شئت، وقل: التقوى هاهنا.

  20.  كما قال عمر بن عبد العزيز: “ليست التقوى بصيام النهار، ولا بقيام الليل والتّخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله: ترك ما حَرَّم الله، وأداء ما افترض الله”.
  21. التقوى التي تستيقظ في القلوب، وهي تؤدي هذه الفريضة هي التي تحرس قلوب الصائمين من إفساد صومهم بالمعصية حتى تلك التي تهجس في بالهم.

  22. التقوى لا تقوم إلا على ساق الصبر فإذا لم يكن من الحكم الخفيّة التي يتضاءل بجانبها ألم الجوع والعطش، والصبر عن الشهوات المباحة إلا الوصول للتقوى لكفى.
  23. وأخيراً إذا أناخت الجوارح رحالها عبوديةً لله، وتخففت من الرذائل واستجمع القلب قواه لطرد الإصرار على العصيان؛ فإن جنود البدن تصيح صيحة تكبير تهتز لها أركان الجسد كله معلنة انتصارها على النفس والشيطان : الله أكبر فزت وربّ الكعبة.

تلك عاقبة التقوى التي أراد الله أن يرشحنا لها بالصيام كنز عزيز.. هي أكرمُ ما أسررنا.. وأَزْين ما أظهرنا، وأفضل ما ادخرنا.

أعاننا الله وإياكم على تحصيلها في رمضان وأوجب لنا بها جزيل الثواب.

اللهم أعنا على الصيام، والقيام وغض البصر وحفظ اللسان، وحققنا بـ (لعلكم تتقون).. آمين.. آمين. 

وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.