سلسلة يا باغي الخير أقبل | المحاضرة الثالثة | مكانة الصيام | الشيخ أنس الموسى

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

موعدنا اليوم مع المحاضرة الثالثة من سلسلة حلقات: (يا باغي الخير أقبل)، نتحدث فيها عن مكانة رمضان والصيام فيه، واليوم سنتناول الحديث عن مكانة الصيام، الصيام الذي يكون في شهر رمضان وفي غيره.

 

1- الحقيقة أيها الإخوة: أن العالم يعيش مادية طاغية، أوغلت حتى مسختْ مشاعر الإنسان فأصبحت الكلمات الجميلة: (سامح، اعفُ، اصفح ولو سابّوك أو شتموك)؛ أصبحت هذه الكلمات دليلا على البساطة والسذاجة.

أصبحت معاني الرحمة والتواضع للمؤمنين، والرأفة بهم عناوين على الذين يعيشون أحلامها البريئة، وعناوين تخلفهم عن ركب حياة عارمة لا رحمة فيها للمتخلفين.

2- الصيام مدرسة، وأي مدرسة؟ دار للتقوى والرحمة، وأي دار؟ يعيدُ للقلوبِ الصدئةِ والقاسيةِ صفاءَها ورقتَها، ويذكر الغافلين الناسين معاني الرحمة والعفو والصفح ولين الجانب من جديد.

 

3- لقد وصف رسول الله الصيام بأنه باب من أبواب الخير، فقال لمعاذ رضي الله عنه: «ألا أدلك على أبواب الخير؟»، قال: قلت بلى يا رسول الله، قال: «الصوم جُنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النارَ» [1].

4- بل لقد أوصى رسول الله أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه أنْ يلزم الصوم، عندما قال يا رسول الله: مرني بأمر ينفعني الله به، فقال له «عليك بالصوم فإنه لا مثل له»، وفي رواية: «فإنه لا عِدل له» [2]، يقول رجاء بن حيوة راوي الحديث عن أبي أمامة: فما رؤي أبو أمامة ولا امرأتُه ولا خادمُه إلا صياماً، وكان أبو أمامة لا يُرى الدخان في بيته نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف، فإذا رأوا الدخان نهاراً عرفوا أنهم قد اعتراهم ضيف.

 

 هذا هو الصوم لا مثل له في إصلاح القلوب وزكاة النفوس، ولا مثل له في الانتصار على شياطين الجن والإنس.

 ولا مثل له في رفع الدرجات وتكفير السيئات، ولا مثل له في تربية النفوس وإصلاحها، والتساوي بين الناس.

ولا مثل له في إصلاح الأبدان وحفظ عافيتها، ولا مثل له في كسر الشهوة ودفع النفس الأمارة والشيطان.

 ولا مثل له في كثرة الثواب.

 

5- كما أن الصيام يُذْهِبُ بِغشِّ القلوب ووساوسها وأحقادها وما يحصل فيها من الكدورات كالغيظ والغضب والغل والحسد، قال رسول الله ﷺ: «صوم يشهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وَحَر الصدر» [3]، ألا ما أجملك يا مدرسة الصيام!

6- ليست الغاية من الصيام هُزال الأجساد وضعفُها، بل الوصول للتقوى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة، 183].

 التقوى هي غاية الصيام، التقوى: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضى بالقليل، والتزود ليوم الرحيل.

 

7- الصيام يربّي الرقابة في العبد للرقيب الأجلِّ الأعلى سبحانه وتعالى، فيدفعه إلى إتقان العمل مع الله، ففي الحديث الإلهي: «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» [4]، فالناس تراقب ظاهر الصائم ويغيب عنهم باطنه.

8- الصيام فيه خصلة وخلّة من خلال الخير التي اختصت بها أمة سيدنا محمد ، ولقد أقسم رسول الله بالله على وجود الخلة فقال: «والذي نفس محمد بيده لخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» [5].

 

9- الصيام حصن من الشهوات، لهذا ندب رسول الله الشباب العاجز عن النكاح التزام الصيام فقال: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضّ للطرف وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» [6]؛ لأن الصيام يضيّق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر سَوْرة الشهوة.

10- الصيام يربي في الصائم ملكة الصبر، وقوة ضبط النفس واحتمال الشدائد، والجَلَد أمام العقبات ومكارِه الحياة، فهو يهذب النفوس ويسمو بالأرواح، ويعلمنا كيف نترفع عن مظاهر الحيوانية التي همها الأكل والشرب؛ لهذا فالصيام كما وصفه رسول الله ﷺ «جنة وحصن من النار» [7].

 

11- الصيام يباعد النار عن وجه الصائمين سبعين سنة، فمن «صام يوما في سبيل الله بَعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً» [8].

– وهو مكفر للذنوب أيضا، فقد قال رسول الله ﷺ: «فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» [9].

والصيام يباعد الله به عن الصائم مسافة ما بين السماء والأرض لقول رسول الله ﷺ: «من صام يوما في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقا كما بين السماء والأرض» [10].

12- ويكفي الصيام منزلة أن جعله كفارة لبعض النقص والتقصير الحاصل من الإنسان، فهو كفارة الظهار والحنث باليمين، وكفارة حلق رأس المحرم بالحج، وغير ذلك مما يشكل الصيام فيه جبرا للنقص والتقصير.

 

13- ألا ما أبرك الصوم! فقد ذكر رسول الله أن «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم» [11].

14- بل من ختم له بصيام يوم في سبيل الله دخل الجنة، قال رسول الله : «من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوما ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة» [12].

 

15- لقد فرض الله الصيام قبل أن يفرض صوم رمضان، فقد أمر الأوائل أن يصوموا يوم عاشوراء، ثم أمر الرسول بصيامه حتى فُرِض رمضان.

16- هذه المعاني السامية هي بعض مزايا الصوم وثمراته، فأنعم بالصوم خير مربٍّ للإنسان! يَسلّ من النفس أضغانها، ويدفعها للإخلاص في العمل، ويعودها على الجد والحزم وقوة العزم، فهو بحق باب من أبواب الخير لا مثل له ولا عدل له.

فيا قومنا أجيبوا داعي الله…، ويا همم المؤمنين أسرعي… فطوبى لمن أجاب فأصاب … وويل لمن طُرد عن الباب وما دعي.



اللهم أعنّا على الصيام والقيام وغضّ البصر وحفظ اللسان..آمين ..آمين

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

___________________________________________

[1] سنن الترمذي 2616.         

[2] النسائي، كتاب الصيام برقم 220- 2221، مسند أحمد 5/ 255.      

[3] مسند البزار 1057.                                                 

[4] البخاري 1904 ومسلم 1151.                                    

[5] البخاري 1894 و1904.                                                         

[6] البخاري كتاب الصوم باب الصوم 1905.                                

[7] مسند أحمد 9225.

[8] البخاري كتاب الجهاد والسير باب فضل الصوم 2840.

[9] البخاري كتاب الصلاة باب الصلاة كفارة 525.

[10] الترمذي كتاب فضائل الجهاد باب فضل الصوم 1624.   

[11] ابن ماجة باب في الصائم لاترد دعوته 1752.

[12] مسند أحمد 5/391.