سلسلة من أدبه قبل علمه | علاقة الآداب بالأخلاق | المقال الرابع | الشيخ أنس الموسى

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيِّدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا. 

وبعد:

فهذا هو اللقاء الرابع في سلسلة من أدبه قبل علمه، وقد تحدثنا في اللقاء الماضي عن أهمية الأدب في حياة المسلم من خلال ذكر أمثلة من سيرة سلفنا الصالح تبين ذلك وتوضِّحُه، واليوم بمشيئة الله تعالى سيكون حديثنا عن تعريف الأدب وعلاقته بالأخلاق. 

ومن الطبيعي قبل أن نبسُط الحديث بذكر الآداب وأنواعها وتفاصيلها أن نتعرف على معنى هذه الكلمة الراقية، وعلاقتها بالأخلاق، وفي سبيل ذلك لابد أن نحدد معنى الأدب ونحدد معنى الأخلاق.

الحقيقة أن علاقة الأدب بالأخلاق هي كعلاقة الجسد بالروح لا ينفك أحدهما عن الآخر إلا بالموت فصاحب الأدب هو صاحب الخُلُق الحسن، وصاحبُ الخُلق الحسن هو المؤدب.

 

  • وقد عُرِّف الأدب بتعاريف كثيرة كلها تدل على تمازج الأخلاق بالآداب، فقد عُرِّفَ الأدبُ بأنَّهُ:
  • استعمال ما يُحمَدُ قولًا وفعلًا. 
  • وبأنَّه: مَلَكةٌ تعصِم من قامت به عما يُشِينُه.
  • وبأنه: تعظيم مَنْ فوقَك، والرِّفْقُ بِمَن دُوْنَك
  • وبأنه: اجتماع خِصَال الخير في العبد.
  • وقد يطلق الأدب ويرادُ به الزجرُ والتأديبُ كما في الحديث: «اجعل السوط في البيت فإنه أدبٌ لهم»
  • وقد يعبَّرُ العلماء عن الآداب بالقِيَمِ والسلوك.

 ولا يفوتنا ونحن نعرف الأدب أن نشير إلى أن الآداب قد تكون واجبة وقد تكون مستحبة وقد تكون مندوبة، والعلماء عندما يطلقون كلمة الأدب فإنهم يطلقونها على كل ما هو مطلوبٌ من الآداب سواءٌ كان واجبًا أم مستحبًا. 

 

  • هذه بعض تعاريف الأدب فماذا عن تعريف الأخلاق؟

أيها الإخوة: إن مكارم الأخلاق بناء شيّده أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، وقد بُعث رسولنا ليُتمِّمَ بناءه ويكمِّلَ صرحه، وإنّ امتلاك الإنسان للأخلاق دون امتلاكه للدين أمرٌ لا فائدة منه فالأخلاق الإسلامية من سمات المؤمنين الصالحين، حيث تساعدهم على تجنب الوقوع في العيب، واللوم، والنقد.

  • وكما عُرِّفَ الأدبُ بتعاريفَ كثيرة، فقد عُرِّفت الأخلاق بتعاريف كثيرة أيضًا.
  • فهي في لغة العرب بمعنى الطَّبْع والسجيَّة، وقيل: المروءة والدِّين.
  • وعرفوها بأنها: هيئة راسخة في النفس، يَصدُرُ عنها العديد من الأفعال بشكل سهل ومُيسّر، دون الحاجة للتروي أو التفكير.

أيها الإخوة: الأخلاق هي عنوان الشعوب، ونادى بها المصلحون، فهي أساس الحضارة، ووسيلة للمعاملة بين الناس وبها تغنى بها الشعراء فهذا أمير الشعراء أحمد شوقي يقول: 

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت     فـإن هُمُ ذهبت أخـلاقهم ذهــبوا

يقول ابن رسلان: “الخُلُق عبارةٌ عن أوصاف الإنسان التي يُعامِل بها غيره”

 

مهمة

1- الخُلُقُ كلمةٌ تتناول حَسَنَ الأخلاق وقبيحَها، وسيئَ الأفعالِ ومحمودَها، وإن كان يَغلِب عند الإطلاق على المحمود منها، فالإطلاق الأخص لكلمة الخُلُق هو على التمسُّك بأحكام الشرع وآدابه فعلاً وتركًا.

2- حقيقة الأخلاق أنها صورة الإنسان الباطنة، فهي النفس بأوصافها ومعانيها المختصَّة بها، وهي بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة بأوصافها ومعانيها.

 

أيها الإخوة: إذا كانت العقيدة الإسلامية عند المؤمنين هي مرتكزُ الفوز أو الخسارة في الآخرة فهي من هذا المنظور أهمُّ بكثير من الأخلاق، لكن الذي يعطي الأخلاق والآداب هذه المكانة أنّ الخُلق يبرُزُ بشكل أكبرَ أمام الناس أكثر من سائر الأعمال الإسلامية، فالناس لا يستطيعون رؤية عقيدةِ الإنسان وإخلاصِه؛ لأنّ مكانهما القلب، إلا أنهم يرون أخلاق بعضهم بتعاملاتهم، لهذا سيحدد الناس قيمة دين الفرد والجماعة وعقيدتَهما بمنظور تعاملاتهم معهم، وغالبًا ما يحكمون على صحّتها من خلال أخلاقهم وسلوكياتهم.

إنَّ انعكاس الصورة السلوكية للمسلم الصادق كان لها كبير الأثر في انتشار دين الإسلام في بعض المناطق التي لم يصلها الفتح الإسلامي، إذ دخل في هذا الدينُ الحنيفُ شعوبٌ بأكملها؛ لمَّا رأوا القدوة الحسنة مرتسمةً خُلقًا حميدًا عند تجار المسلمين فكان الإقبال سريعًا للدخول بهذا الدين دون دافع سوى القدوةِ الحسنة، فربَّ خصلةٍ واحدةٍ مما يأمر به ديننا الحنيف تُتَرْجَمُ حيةً على يد مسلم صالح يكون لها أثرٌ لا يمكن مقارنته بنتائج الوعظ المباشِر؛ لأن النفوس قد تنفِر من الكلام الذي تتصور أنَّ للناطق به مصلحة، وأحسن تلك الخصالِ التمسكُ بالأخلاق الحميدة التي هي أول ما يُرَى من الإنسان المسلم، ومن خلالها يُحكم له أو عليه من الله تعالى أولًا، ثم من قبل الناس.

 

أيها الإخوة: بالأخلاق والقيم دخلَ السلاطينُ والملوكُ والسُّوقةُ والعامة والخاصة في الإسلام طوعاً لا كرهاً فقد فتح المسلمون قلوبَهم قبل بلدانهم. 

إنَّ تعامُلَ المسلمِ مع غيره بلسان الحال دعوةٌ أبلغُ وأوصل إلى القلب والعقل معاً من لسان المقال، وبسببها كما أسلفت دخل الناس في دين الله أفواجًا، فالمطلوب من المسلمين التحلي بالآداب والأخلاق وهم يقدمون الإسلام للناس في كل قارات العالم.

إن رحلة الاسلام التي بدأت من مكة في جزيرة العرب وأخذت تصعد وتصوِّبُ يمنةً ويسرةً حتى تمَّ لها كسرُ امبراطورية فارس والروم، ثم ما لبث الإسلام أن ساد البلاد والعباد إنما تم بقيم الصحابة ومن بعدهم انتشر الإسلام.

أيها الإخوة: لا يَظُننَّ ظانٌّ أنَّ الأخلاق مفهومٌ نظريٌ أجوفٌ أو فلسفيٌ جدليٌ عقيم، إن أخلاقنا الإسلامية تنبع من تمسُّكنا بكتاب ربنا وسنة نبيه فهي النبع والأساس بلا إفراط ولا تفريط.

 

أيها الإخوة: لقد فاقنا الغرب – حضارةً – بمراحلَ كثيرةٍ، مع امتلاكنا لمفاتيح التمدن وأصول الإنسانية، ولا سبيل لنا لقرع أبوابهم إلا بالرجوع لأخلاق سلفنا الصالح، فتلك أفضل بضائعنا في زمن فشت فيه المادية والانهزامية فنحن أولى بأن نقتحم قلوب غير المسلمين بسلاحنا الماضي الذي لا يُفل ألا وهو سلاح الآداب والقيم.

 

 لقد امتدح نبينا الأخلاق فقال: «إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنُكُم أخلاقًا، وإنَّ مِن أبغضِكُم إليَّ وأبعدِكُم منِّي يومَ القيامةِ الثَّرثارونَ والمتشدِّقونَ والمتفَيهِقونَ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، قد علِمنا الثَّرثارينَ والمتشدِّقينَ فما المتفَيهقونَ؟ قالَ: المتَكَبِّرونَ»

وفي الحديث: «ليس في الميزان أثقلُ من حُسْن الخُلق»

وقال أيضًا: «البِرُّ حُسْن الخُلُق»

وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تفسِّرُ قول الله عز وجل: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، فتقول: «»كان خُلُقه القرآن».

وأخيرًا فكل أدب يفعله الإنسان ويتحلى به هو في حقيقته خُلق من الأخلاق، وكلَّمَا كان الإنسان مُطَبِّقًا للآداب أكثر كانَ قريبًا مِن كمال الخُلق أكثر فالأخلاق هي مجموع الآداب التي يتحلى بها الإنسان، وكلما أَخلَّ المرءُ بالآداب كلَّما ابتعد عن مكارم الأخلاق. فالأدب هو الأخذ بمكارم الأخلاق. 

حقًا إن علاقة الآداب بالأخلاق كعلاقة الروح بالجسد، وإن آدابنا هي رأسمالنا لتسويق الإسلام، ولا سبيل لنا لقرع أبواب غير المسلمين إلا من بوابة الأخلاق والآداب فتلك أفضل بضائعنا.

صدق من قال: أربعة ترفع المرء وإن قلَّ علمه: الحلم والتواضع والسخاء وحسن الخلق.

فإذا رُزِقتَ خليقةً محمودةً    فقد اصطفاكَ مقسِّمُ الأرزاق

فالناسُ هذا حظُّهُ مالٌ وذا    علمٌ وذاكَ مكارمُ الأخلاق

 

نتوقف عند هذا الحد وإلى لقاء قادم بمشيئة الله تعالى نتابع الحديث فيه عن الآداب والأخلاق.

اللهم اهدنا لمحاسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيء الأخلاق لا يصرف عنا سيئَها إلا أنت. 

اللهم وفقنا لمحابِّك وألهمنا مراشد الصواب والهداية

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.