سلسلة من أدبه قبل علمه | الموسم الثاني | ملامح من أدب النبي ﷺ مع ربه سبحانه وتعالى | المقالة الآولى | الشيخ أنس الموسى

ملامح من أدب النبي ﷺ مع ربه سبحانه وتعالى

♦ مقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيِّدنا ونبيّنا محمد ﷺ أكثرُ الخلق معرفةً بربه وقربًا منه، وتوكلاً عليه، وعبوديةً له، ويقينًا به، القائلِ: ” أَمَا وَاللهِ، إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَخْشَاكُمْ لَهُ” وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ولا تجعله علينا متشابهًا علينا فنتبع الهوى، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

وبعد: فهذا هو اللقاء الثالث عشر في سلسلة من أدبه قبل علمه، وما يزال اللقاء متجددًا في الحديث عن الأدب مع الله عز وجل وقد تحدثنا في اللقاءات الماضية عن أدب الأنبياء مع ربهم سبحانه ثم عرَّجنا لذكر أدب غير الأنبياء مع رب العزة والجلال، ومن ثَمَّ انتقلنا لذكر ما ليس من الأدب مع الله تعالى، واليوم بمشيئة الله سنتابع الحديث في أدب الأنبياء مع ربهم سبحانه؛ فنتكلم عن بعضِ ملامح أدب النبي ﷺ مع رب العزة والجلال ولا نكون مخطئين لو قلنا ملامح أدب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع ربهم سبحانه، فالأدب هو دَيدنُ الأنبياء ودينُهم، كما أنه عنوان محبتهم لربهم وشعارُهم، وبأدب الأنبياء الكامل مع رب العزة والجلال تميَّز الأنبياء عن غيرهم، كما تميز بالأدب الخاصةُ عن العامة، وعرف الصادق من الكاذب فلا جمالَ للقلب والقالَب إلا بهِ، فمن حُرِمَه حُرم خيرًا كثيرًا، ومن تحقَّق به ظَفر بمرادِه دنيًا وآخرة، به يُحرز العبدُ مقامات القرب من ربه والتي من أجلِّها العبوديَّة الحقة وما تشتمل عليه من إحسانٍ ورضًا عن الله سبحانه وتعالى. ولا شكَّ أن عبادَ الله المخلَصين لا يصلِون إلى هذه المرتبة التي يقنَط الشيطانُ من أصحابها إلا بالترقِّي في مقامات الأدب مع الله تعالى، والتي تُغلِق على الشيطان أبوابه، وتسدُّ عليه المنافذَ، فلا يكون له على أصحابِ هذا المقامِ سبيلٌ، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾ [الإسراء 65].

أيها الإخوة: ذكرنا غير مرة أن الأدب أياً كان نوعه ـ قولاً أو فعلاً ـ خُلُق عظيم، ووصفٌ نبيل، ويزداد علواً وعزاً وشرفاً إذا كان مع الله عز وجل، فهو أحق من يُتَأدَّبُ معه، وهو حديثٌ يشرح الصدر، ويهذب النفس ويزكِّيها، ويسمو بها إلى معالي الأمور، والأدب، ما تحلَّى به عبد إلا ارتفع، وما جانبه إلا سَفُلَ ووَضَع، وإذا كان الأدب مع الخَلق من أحسن الصفات، فإن الأدب مع الخالق جل جلاله من أجلِّ المهمَّات وأرفع مراتب الأدب وأعلاها وأزكاها، فما تأدب متأدِّبٌ بأحسن من أدبه مع ربه خالقه ومولاه، وما أساء امرؤ الأدب بأسوأ من إساءته الأدب مع ربه سيدِه خالقِه ورازقِه ..

أيها الأحبة: ديننا عقائد وعبادات ومعاملات وآداب، وكأن منزلة آداب هذا الدين وأخلاقه منزلة التاج الذي يتوَّجُ به المؤمن، فحين تصحُّ عقيدته وعبادته، وتستقيم معاملته يتوَّج هذا كلَّه بأدبٍ جمٍّ رفيع.

ونحن إذ نستذكر أدب النبي ﷺ مع ربه سبحانه؛ فلأن الله تعالى أمرنا بأن نتخذ من رسول الله ﷺ قدوةً لنا عندما أرشدنا فقال: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً﴾ [الأحزاب 21].

أيها الأحبة: الحقيقة أن أدب غير الأنبياء مع ربهم سبحانه والتي تحدثنا عنها سابقًا فرع من شجرة أدب الأنبياء مع ربهم سبحانه، فالأنبياء قدوةُ الخَلق في الأدب مع الخالق سبحانه.

وقد كان سيدنا ونبينا محمد ﷺ سيّد المتأدبين مع ربه سبحانه، وتجلى هذا في مظاهر وملامح وأشكالٍ وصورٍ كثيرة.

♦ الإسراء والمعراج

فهذه سورة النجم التي تحدثت عن حدث إسراء الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم وعروجه به، وما حباه به من الآيات والكرامات، تنوِّهُ وتشير لأدب النبي صلى الله عليه وسلم أثناء رحلة المعراج، حيث يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى﴾ [النَّجم:13-18].

 لنتأمل أيها الأحبة هذه المنزلة التي بَلَغها نبينا ﷺ، حين عُرج به إلى السماء، فرأى من آيات الله تعالى الكبرى ما رأى، رأى سدرة المنتهى التي غشيها ألوان عجز النبي صلى الله عليه عن وصفها من حسنها ما غشيها، وانتهى إلى مقامٍ لم يبلُغه ملَكٌ مقرَّب، ولا نبيٌ مرسَل، وكلَّمَه الله تعالى فأوحى إليه ما أوحى… في هذا المقام العظيم، وفي هذا الموضع المهيب، كيف كان حال النبي ﷺ؟ هل صار يتأمل ما حوله وما يدعو للدَّهَش؟ أم هل انشغل بالعجائب عن مبدعها وبالمخلوقات عن خالقها؟ الجواب: لم يتجاوز بصرُ النبي ﷺ ما أُمِر بالنظر إليه؛ أدبًا مع الله تعالى، رغم أن الموقف يدعوه إلى تجاوز ذلك؛ فهي الجنة، وهي السماء السابعة وما فوقَها، وهي سِدرة المنتهى وجمالُها، وهي أعلى المنازل، وأشرف المقامات.

يصف الحق تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام؛ مخبرًا عن أدبه معه عز وجل، وهو أدبٌ فاق كل أدب، فقال سبحانه: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾. يقول ابن عباس رضي الله عنهما شارحًا حال ومقام ما زاغ وما طغى: ما زاغ يمينًا ولا شمالًا ولا طغى، ولا جاوز ما أُمر به. وهذا من كمال أدبه ﷺ مع ربه الذي أقامه هذا المقام العظيم، فلم يَقْصُر ويصرف بصرَهُ عنه، ولا تجاوزه، ولا حادَ عنه، وهذا أكمل ما يكون من الأدب العظيم، الذي فاق فيه الأولين والآخرين، فإن الإخلال بالأدب في هذا الموقف يكون بأحد هذه الأمور: إما ألاَّ يقوم العبد بما أُمر به، أو يقوم به على وجه التفريط، أو على وجه الإفراط، أو على وجه الحيدة يمنةً ويسرةً، وكل هذه الأمور كانت منتفيةً عنه صلى الله عليه وسلم.

 ولننتقل لملمح آخر من ملامح أدب النبي ﷺ مع رب العزة والجلال وقد ظهر هذا في نفس الرحلة المباركة السابقة رحلة المعراج؛ لما فُرضت على رسول الله ﷺ الصلوات خمسين صلاة، وأشار عليه نبي الله موسى عليه السلام بمراجعة ربه عز وجل يسأله التخفيف عن أمته فإنها لا تطيق ذلك؛ فراجع ﷺ رب العزة فخفف الله تعالى عن عباده؛ حتى صارت الصلوات خمسًا في الفعل وخمسين في الأجر، فأشار عليه موسى عليه السلام بعد ذلك بمراجعة رب العزة لتخفيفها أيضًا، فماذا كان جواب رسول الله؟ ولنترك الإمام البخاري يروي لنا الحادثة عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه، يَقُولُ: ” لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلاَ تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ، فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ، فَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ، فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ، حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ، مَحْشُوًّا إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ – يَعْنِي عُرُوقَ حَلْقِهِ – ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مَعِيَ مُحَمَّدٌ، قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: فَمَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا، فَيَسْتَبْشِرُ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ، لاَ يَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِمَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ فِي الأَرْضِ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ، فَوَجَدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ آدَمُ، وَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِي، نِعْمَ الِابْنُ أَنْتَ، فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهَرَيْنِ يَطَّرِدَانِ، فَقَالَ: مَا هَذَانِ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا النِّيلُ وَالفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا، ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ، فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ، فَضَرَبَ يَدَهُ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ، قَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟، قَالَ: هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي خَبَأَ لَكَ رَبُّكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَتِ المَلاَئِكَةُ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتْ لَهُ الأُولَى مَنْ هَذَا، قَالَ: جِبْرِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، وَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتِ الأُولَى وَالثَّانِيَةُ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى الرَّابِعَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الخَامِسَةِ، فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ، فَأَوْعَيْتُ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِي الخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلاَمِ اللَّهِ، فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدٌ، ثُمَّ عَلاَ بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لاَ يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ المُنْتَهَى، وَدَنَا لِلْجَبَّارِ رَبِّ العِزَّةِ، فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ: خَمْسِينَ صَلاَةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى، فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ: أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَعَلاَ بِهِ إِلَى الجَبَّارِ، فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَهُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا فَإِنَّ أُمَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ هَذَا، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَاحْتَبَسَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الخَمْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا فَتَرَكُوهُ، فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ، كُلَّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، فَرَفَعَهُ عِنْدَ الخَامِسَةِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ فَخَفِّفْ عَنَّا، فَقَالَ الجَبَّارُ: يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: إِنَّهُ لاَ يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، كَمَا فَرَضْتُهُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الكِتَابِ، قَالَ: فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الكِتَابِ، وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ، فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: خَفَّفَ عَنَّا، أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، قَالَ مُوسَى: قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُوسَى، قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ قَالَ: وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي مَسْجِدِ الحَرَامِ “يقول عليه الصلاة والسلام مخبرًا عن ذلك:” فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي”، وفي رواية قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” يَا مُوسَى، قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ.”

وفي رواية: ” سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي.”

♦ أدب وحياء الرسول ﷺ

لقد كان حياء المصطفى ﷺ من ربِّ العزة والجلال مثلاً في أدب الأنبياء مع ربهم فالحياء من الله تعالى من أجل الآداب وأرفعها.

وكان من مظاهر أدبه ﷺ مع الله تعالى: أنه ﷺ علَّم أصحابه رضوان الله عليهم استفتاح الدعاء بالثناء على الله تعالى، فعن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قال: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدِ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِلَ هَذَا»، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: – أَوْ لِغَيْرِهِ – «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ».

♦ الاستسلام والطاعة

ولننتقل إلى مظهر آخر من مظاهر أدب الأنبياء مع ربهم وهي صورة الاستسلامِ لأمر الله والطاعةِ له، والاستسلامُ والطاعةُ والانقيادُ لأمر الله غاية الأدب يشترك فيها نبينا محمد ﷺ مع بقية أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهو حال سيدنا إبراهيم عليه السلام حين أُمر بذبح ولده إسماعيل وحيدُه وفَلذةُ كبده، قد رزقه الله إياه بعد ما كبرت سِنُّه وحين شبَّ إسماعيل عن الطوق وبلغ مبلغ الرجال أمره الله بذبحه فماذا كان رد إبراهيم وماذا كان رأي الولد؟ ولنترك القرآن يجيب عن هذا السؤال.

قال تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى * قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات 101-105].

إنه حدث خطير، وأي رأيٍ للولد في ذبح نفسه؟ ولكنه التمهيد لأمر الله، فكان موقف الولدِ لا يقلُّ إكبارًا عن موقف الوالد ﴿يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين﴾ ولم يكن ذلك عرْضًا وقبولًا فحسب، بل جاء وقتُ التنفيذ إلى نقطة الصفر كما يقال، والكل ماض في سبيل التنفيذ ﴿فلما أسلما وتلَّه للجبين﴾  يا له من موقف يعجز كل بيان عن تصويره ويئِطُّ كل قلم عن تفسيره، ويثقُلُ كلُّ لسانٍ عن تعبيره، شيخٌ في كِبَر سِنِّه يحمل سكينا بيده، ويَتِلُّ ولده وضناه بالأخرى، كيف قويت يده على حمل السكين، وقويت عيناه على رؤيتها في يده، وكيف طاوعته يده الأخرى على تَلِّ ولده على جبينه؟!

إنها قوة الإيمان وسُنَّةُ الأدب الالتزام، وها هو الولدُ مع أبيه طوعُ يده، يتصبَّر لأمر الله ويستسلم لقضاء الله ﴿ستجدني إن شاء الله من الصابرين﴾.

والموقف الآن والد بيده السكين، وولدٌ ملقى على الجبين، ولم يبق إلا توقفُ الأنفاس للحظة التنفيذ، ولكن – رحمة الله – أوسع، وفرجه من عنده أقرب ﴿وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين﴾. ﴿وفديناه بذبح عظيم﴾

فكانت مناسبة عظيمةً وفائدتها كبيرة، خلَّدها الإسلام قرآنًا يُتلى إلى قيام الساعة.

 

 فاضت بالعَبرة عيناه   أضناه الحِلمُ وأشقاه

شيخ تتمزق مهجتُه   تتندى بالدمع لِحاه

ينتزع الخُطوة مهمومًا   والكون يناشد مسراه

وغلام جاء على كِبر   يتعقب في السير أباه

والحيرَةُ تثقل كاهله   وتبعثر في الدرب خطاه

ويهِمُّ الشيخُ لغايته   ويشُدُّ الإبنَ بيمناه

بلغَ في السعي نهايتهُ   والشيخُ يكابدُ بلواه

لكن الرؤيا لنبيٍ    صِدقٌ وقرارٌ يرضاه

والمشهد يبلغُ ذِروتَهُ   وأشدُّ الأمر وأقساه

إذ تمرقُ كلماتٌ عدلى   ويقصُّ الوالد رؤياه

وأمرتُ بذبحك يا ولدي   فانظر في الأمر وعُقباه

ويجيبُ العبد بلا فزعٍ   افعل ما تؤمر أبتاه

لن أعصي لإلهي أمرًا   من يعصي يومًا مولاه

واستلَّ الوالد سكينًا   واستسلم ابنٌ لرداه

ألقاه برفقٍ لجبينٍ   كي لا تتلقَّى عيناه

أرأيتم قلبا أبويًا   يتقبل أمرا يأباه

أرأيتم إبنًا يتلقى   أمرًا بالذبح و يرضاه

وتهزُّ الكونَ ضراعات   ودعاءٌ يقبلهُ الله

تتوسَّلُ للملأ الأعلى    أرضٌ وسماءٌ ومياه

ويقول الحق ورحمته   سبقت في فضل عطاياه

صدَّقت الرؤيا لا تحزن    يا إبراهيم فديناه

يا إبراهيم يا إبراهيم    يا إبراهيم فديناه

 

نقف عند هذا الحد من مظاهر أدب الأنبياء وللحديث بقية نكملها في اللقاء القادم بمشيئة الله عز وجل فإلى ذلك اليوم اللهم اهدنا لمحاسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيء الأخلاق لا يصرف عنا سيئها إلا أنت اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين