سلسلة من أدبه قبل علمه | الآداب في كتاب الله عزّ وجل | المقال الخامس | الشيخ أنس الموسى

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيِّدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا. 

وبعد: ما يزال اللقاء متجددًا في الحديث عن أهمية الأدب في حياة المسلم وقد تحدثنا في اللقاء الماضي عن علاقة الآداب بالأخلاق وأنها بمنزلة الروح من الجسد واليوم سنرى كيف ذُكرت الآداب في كتاب ربنا سبحانه وتعالى.  

أيها الإخوة: نعيد ونؤكد بأنّ الأدبَ وحسنَ الخلق مطلب ديني ودنيوي قلّ في الناس من يلتفت إليه، بل لم تتوال على أمتنا الآلام إلا يوم أعرض الناس عن الأدب والخُلق الحسن، وبعد أن شاع في أمتنا أناس اشتغلوا بالعلم على حساب الآداب والأخلاق فكثرت الصراعات والاختلافات، فهذا يكفر وآخر يبدع ويفسق فتشعر وأنت في المناظرات العلمية كأنك في حلبة صراع لا في نقاش علمي، فلم نجن للعلم ثمرة، وصدق فينا قول عبد الله بن المبارك: “نحنُ إلى قليل الأدب أحوجُ منا إلى كثير العلم”؛ فليس الشأن كثرةُ العلم بل يقاس العلم بقدر الأدب والخلق الذي يحمله صاحبه.

 فعلينا بتمكين الأدب لنملك مفاتيح القلوب فو الله إنّ الإنسان ليبلغ بخُلقه وأدبه عظيم الدرجات وهو قليل العلم والعمل، فأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا”؛ فإذا انتفى الخُلق ذهب الدين.

أيها الإخوة: لا تزال آيات القرآن العظيم تحثُّنا على التخلق بجميل الأخلاق وحَسنِ الآداب، ولا تزال سنة نبينا محمد تضرب لنا من قوله وفعلِه أروعَ الأمثلة على محاسن الشيَم ومكارمها.

والأخلاق الإسلامية موصولة بالآداب الإلهية النابعة من الوحي، إذ الخير ما أمر به اللّه والشر ما نهى عنه؛ ولهذا نرى أنها جميعاً تصدر عن القرآن والسنة. 

ويمكننا أن نُجْمِل مصادر الأخلاق الإسلامية في مصدرين رئيسيين، هما أعظم ما تُستمدُّ منهما الأخلاق والآداب؛ كتابُ الله عزَّ وجلَّ، وسنةُ نبيه الصحيحة فالأخلاق الإسلامية ربانية المصدر؛ لأن مصدرها كتاب الله وسنة نبيه ، ولا مدخل فيها للآراء البشرية، أو النظم الوضعية، أو الأفكار الفلسفية؛ ولهذا اتسمت الآداب والأخلاق الإسلامية بسمة الخلود والصحة، ولما كانت ربانية المصدر، كانت صالحةً لجميع الناس في كلِّ زمان ومكان؛ لأنها وحيٌ ربانيٌ لا نتاجٌ بشري.

 والأخلاق في المفهوم القرآني أدب شامل يعم كلَّ تصرفات الإنسان، وكلَّ أحاسيسه ومشاعره وتفكيره، ولا يوجد في الإسلام عمل واحدٌ يخرج عن دائرة الأخلاق. فالخشوع من أخلاقِ الصلاة وآدابِها، والإعراض عن اللغو من أخلاق الكلام وآدابِه وحسن معاشرة الناس من آداب المخالطة وأخلاقها، فالذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.

 وكذلك الأمانة ورعاية العهد، والتقتير والإسراف والغضب، كل ذلك موصول بظلال الإيمان وظلال الإسلام، في كنف القرآن والسنة.

وكذلك نقول في الحلم والرفق والأناة والأمانة والوفاء بالعهد، والكرم والجود والتواضع والقناعة والرحمة والمؤاخاة والإيثار والأدب والنظافة. 

أيها الإخوة: لقد جمع ربنا عز وجل كل الأخلاق والآداب بآيتين مركزيتين فقال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف 199].

وقال أيضًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل 90] 

يقولُ الحسن البصريّ رحمه الله تعالى بعد أن قرأ قول الله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾: “إن اللّٰه جمع لكم الخير كلَّه، والشرَّ كلَّه في آية واحدة فو اللّٰه ما تَرَك العدلُ والإحسانُ شيئًا من طاعة اللّٰه عز وجل إلا جمَعه، ولا تَرَك الفحشاءُ والمنكرُ والبغيُ من معصية اللّٰه شيئًا إلا جمَعه”

 ويروي الإمام الطبري عن قَتَادة بن دِعامة السَّدُوسيّ -عند هذه الآية – قوله: “إنه ليس من خُلُق حسَن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر اللّٰه به، وليس من خُلُق سيءٍ كانوا يَتَعايرونه بينهم إلا نَهى اللّٰه عنه وقدَّم فيه، وإنما نَهى عن سَفاسف الأخلاق ومَذامّها” 

وأما قول الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ فقد قال الإمام أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن: قال علماؤنا: هذه الآية من ثلاث كلمات، قد تضمنت قواعد الشريعة المأمورات والمنهيات، حتى لم يَبْق فيه حسنةٌ إلا أوضحتها، ولا فضيلةٌ إلا شرحتها، ولا أُكرومةٌ إلا افتتحتها، وأخذت الكلمات الثلاث أقسام الإسلام الثلاثة.

ثم قال: فقوله: ﴿خذ العفو﴾ تولى بالبيان جانب اللين، ونفيَ الحرج في الأخذ والإعطاء والتكليف.

وقوله: ﴿وأمر بالعرف﴾ تناول جميع المأمورات والمنهيات؛ وإنهما ما عُرِف حكمُه، واستقر في الشريعة موضعه، واتفقت القلوب على علمه.

 (أي: العرف: هو كل ما عرفته واعتادته النفوس مما لا يردّه الشرع، كما أنه يتناول ما اتفقت عليه الشرائع من أفعال الخير).

وقوله: ﴿وأعرض عن الجاهلين﴾ تناول جانب الصفح بالصبر الذي به يتأتى للعبد كل مراد في نفسه وغيره.

ولننظر إلى دلالة كلمة (العدل) في قوله تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ 

فقد شملت أداءَ الأمانات وتَرْكَ الظلم والإنصاف، وتركَ الجور وإحقاقَ الحق، والتوسطَ في الأمور اعتقادًا وعملاً وخلُقًا، أو التوسطَ بين الإفراط والتفريط في الاعتقادات والتكليفات، وبعبارة مختصرة نقول: العدل وَضْعُ كلِّ شيءٍ موضعَه.

وأما دلالة الأمر بـ (الإحسان) فتتجلى في العفو أو التفضل، أو معاملة الناس بالحسنى.

.أما دلالة الأمر بـ (إيتاء ذي القربى) فتكون في صلة الأرحام وتفقد أحوالهم.

أما النهي عن (الفحشاء) فيشمل كل القبائح والمعاصي من الأقوال: كالكذب، والغيبة والنميمة.

 والأفعال: كالزنا والبخل.

وأما النهي عن (المنكر) فيشمل كلَّ ما ظهر الإنكار فيه على مرتكِبِه، أو كلّ ما يكون منكرًا في الدين من كل قول وفعل قبيح. 

والنهي عن (البغي) فإنه يدل على ترك ظلم الناس والكِبر بشتى أنواعه.

ولعل بيان الحق سبحانه وهو يذكر وصية لقمان لابنه وهو يعظه، احتوت على كثير من مكارم الأخلاق وحَسَنِ الآداب: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان 17- 18- 19].

أما سورة الحجرات فهي حافلة بالآداب بشتى أنواعها، فنرى فيها الأدب مع رسول الله وكيف أن الإخلال به يُعد من مُحبِطات الأعمال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات 1- 2] 

ونرى فيها الأدب مع المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات 11]

وهذا غيض من فيض مما ذُكر في كلام ربنا سبحانه وتعالى فالآيات المبثوثة في ثنايا كلام الله جل وعز كثيرة جدًا، وسنأتي على تفصيلها بمشيئة الله تعالى عند إفراد الحديث عن الآداب.

نكتفي بهذا القدر وإلى لقاء قادم بمشيئة الله تعالى نتابع الحديث فيه عن الآداب والأخلاق.

اللهم اهدنا لمحاسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنَّا سيءَ الأخلاق لا يَصرِفُ عنَّا سيئَها إلا أنت. 

اللهم وفقنا لمحابِّك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.