سلسلة من أدبه قبل علمه | أهمية الأدب في حياة المسلم | المقالة الثانية | الشيخ أنس الموسى

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيِّدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا. 

وبعد: فهذا هو اللقاء الثاني في سلسلة “مِنْ أَدَبِهِ قَبْلَ عِلْمِه”، وما يزال الحديث موصولًا في بيان أهمية الأدب ومكانته في حياة المسلم. 

لقد أدرك سلفنا الصالح قيمة الأدب وأهميَّتَهُ، حتى تشكَّل في عهدهم وظيفةٌ هي من أشرف الوظائف وأعلاها، ألا وهي وظيفة مؤدبِّ الخلفاء والأمراء، وقد تسلَّم هذا المنصب الرفيع كبارُ العلماء، وكان منهم الإمام زكريا الفرّاء – صاحب كتاب معاني القرآن – فقد دفع الخليفة المأمونُ إليه وَلَدَاهُ ليغرِسَ في نفوسِهِما الأدب ويُلقِّنَهُمَا لغةَ العرب، (وذات يوم نهض الفَرَّاء لبعض حوائجه، فابتدرا إلى نعله يقدمانها له ولدا خليفة المسلمين وليا عهد المسلمين يقدمان حذاء أستاذهما! وما يثير الدَّهَشَ أنهما تنازعا أيُّهما يقدمها! فاصطلحا أن يقدِّمَ كلُّ واحدٍ منهما فرداً فقدماها! وكان المأمون له على كل شيء صاحب خَبَر، فرُفِعَ ذلك الخبر إليه، فوجَّه إلى الفراء من استدعاه، فلما دخل عليه سأله: من أعزُّ الناس؟! فأجاب الفرَّاء: ما أعرِف أعزَّ من أمير المؤمنين، قال: بلى، مَن إذا نهض يقاتِلُ على تقديم نَعليه وليَّا عهدِ المسلمين حتى رضي كلُّ واحدٍ منهما أنْ يقدِّم كلٌّ له فردًا!

 فقال الفراء: يا أمير المؤمنين لقد أردتُ مَنْعَهُمَا عن ذلك، ولكن خَشِيتُ أن أَدْفَعَهُمَا عن مَكرُمةٍ سَبَقَا إليها، أو أَكْسِر نفوسَهُمَا عن شريفةٍ حَرِصَا عليها.!)

أدبٌ كمثلِ الماءِ لو أفرَغْتَهُ   يومًا لسالَ كما يسيلُ الماءُ

لقد كان الفراء أمينًا كل الأمانة، وعلى مستوى المسؤولية التي أنيطت به، فلم يَبْخَل على هذين الحَدَثين بجهد؛ حتى صارا شديدي التعلُّقِ بأستاذهما، يُكنَّان له الإجلال والاحترام. 

لقد صار – وللأسف – سوءُ الأدب، وسوءُ الأخلاق في زماننا شعار أبناء الملوك والأمراء وأصحاب المناصب من الأغنياءِ وغيرهم.

صَدَقَ من قال: مَنْ أَدَّبَ ولدَهُ صغيرًا سُرَّ به كبيرًا”. 

وفى وصية عبد الملك بن مروان لمؤدب أبنائه، قال: “واعلم أنَّ الأدبَ أَوْلَى بالغلامِ من النَّسَب”.

كُن اِبنَ مَن شِئتَ واِكتَسِب أَدَباً    يُغنيكَ مَحمُودُهُ عَنِ النَسَبِ

فَلَيـــسَ يُغني الحَسيبُ نِسبَتَهُ    بِـلا لِســـــــانٍ لَهُ وَلا أَدَبِ 

إِنَّ الفَتى مَن يُقولُ ها أَنا ذا     لَيسَ الفَتى مَن يُقولُ كانَ أَبي

 

لقد حرص العلماء تعليمَ أولادِهم وتلامذتَهم الأدب قَبل العلم؛ حتى قال عبد الله بن المبارك:” طلبتُ الأدبَ ثلاثين سنةً، وطلبتُ العِلم عشرين سنةً، وكانوا يَطلُبون الأدبَ قَبلَ العِلم”.

 وقال أيضًا: “يكادُ يكونُ الأدبُ ثُلُثَي العِلم”. 

وقال سفيان الثوري: “كانوا لا يُخرِجون أبناءَهم لطلب العلم حتى يتأدَّبُوا ويتعبدوا عشرين سنة”.

وقال الحسن: “إنْ كانَ الرجُل لَيَخرُجُ في أدبٍ واحدٍ السَّنَةَ والسنتين”.

بل إنَّ رويمَ بنَ أحمدَ البغداديَ جعلَ حاجة طالب العلم للأدب أكثرَ من حاجَتِهِ للعلم فقال ناصحًا لابنه: “يا بُني اجعَل عِلْمَك مِلْحًا وأَدَبَكَ دقيقًا”. يأمره بالاستكثار من الأدب حتى تكون نِسبةُ الأدب في سلوكه من حيث الكمِّ كنسبة الملح للدقيق؛ فكثير الأدب مع قليل العلم خيرٌ من كثير العلم مع قلة الأدب.

وقد أشرفَ الليثُ بنُ سعد على بعض أصحاب الحديث فرأى منهم شيئًا كَرِهَه فقال: “ما هذا؟! أنتم إلى يَسِيرٍ مِنَ الأدب، أحوجَ منكُم إلى كثيرٍ مِنَ العِلم!”. (لو كان الليث بن سعد فينا هذه الأيام ماذا عساه يقول بل ماذا عساه يفعل.. فإلى الله المشتكى)

يقول عبد الله بن المبارك: “إذا وُصِفَ لي رجلٌ له علم الأولين والآخرين لا أتأسف على فوت لقائه، وإذا سمعتُ رجلًا له أدبُ النفس أتمنى لقائَه وأتأسف على فوته”. 

وهذا الإمام مالك يتحدث عن أمه التي أرسلته ليطلب العلم فيقول: “كانت أمي تعمِّمُنِي وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلَّم مِن أدَبِهِ قبل عِلْمِه”. (عجيبة تلك الأم التي فقهت معنى العلم وعرفت حليته، وصدق من قال: فاقد الشيء لا يعطيه)

لهذا لا نستغرب قول عبد الله بن وهب: “ما نقلنا مِن أدب مالكٍ أكثرَ ممَّا نقلنا من عِلمه”. (لا نستغرب هذا فمن كان له أم كأم الإمام مالك يصحُّ أن يقال في ولدها ما قد قيل)

أيها الإخوة: إن عنترة كان بطلًا بأخلاقه قبل أن يكون بطلًا على أعدائه؛ انظروا إليه وهو يقول: 

أغشى فتاة الحي عند حليلها    وإذا غزى في الحرب لا أغشاها

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي   حتى يواري جارتي مثواها

إني امرؤٌ سمحُ الخليقة ماجدٌ       لا أُتْبِعُ النفْسَ اللجُوجَ هواها

وأخيرًا وليس آخرًا: لم تتوالى البلايا والرزايا على هذه الأمة إلا يوم هَجَرَ الناسُ الأدبَ واقبلوا على العلم ولم يزيِّنُوهُ بحليته الواجبة. 

بل إن هذا الفصام النكد بين مُسْلِمَةِ السوق ومُسْلِمَةِ المسجد؛ جَرَّ على الأمة ما تعانيه من الأسى والألم.

اللهم وفقنا لمحابِّكَ وألهمنا مَراشِدَ الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.