سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الرابعة والثلاثون| بئر معونة

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

من تداعيات غزوة أحد مقتلُ سبعين من القراء، من خيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بئر معونة، وذلك عندما جاء أبو براء، عامرُ بن مالك سيدُ بني عامر، كبرى قبائل نجد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرض عليه أن يرسل رجالاً من أصحابه لدعوة أهل نجد إلى ما يدعو إليه، راجياً إسلامهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أخشى عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا لهم جار. فلما نزلوا بئرَ معونةَ، بعثوا حَرَام بن مِلْحان برسالة من النبي إلى عامر بن الطفيل فقتله ثُمَّ اسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ بَنِي عَامِرٍ، فَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوا، وَقَالَوا: لَنْ نَخْفِرَ أَبَا بَرَاءٍ، وَقَدْ عَقَدَ لَهُمْ عَقْدًا وَجِوَارًا، فَاسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ قَبَائِلَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، مِنْ لِحْيَانَ وَرِعْلٍ وَذَكْوَانَ وعُصَيَّةَ ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَخَرَجُوا حَتَّى غَشَوَا الْقَوْمَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ أَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ ثُمَّ قَاتَلُوهم حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ. وأُفْلِتَ عمرُو بن أمية الضَّمْرِيُّ، وفي طريقه إلى المدينة التقى برجلين فسألهما ممن أنتما فقالا من بني عامر ففتك بهما ثأرا لإخوانه، وَكَانَ مَعَهما عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ لم يعلم به فلما أخبر النبي بذلك قَالَ: لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ لَأَدِيَنَّهُمَا»[1]. ومكث النبي شهراً يقنت في صلاته على الذين قتلوهم، فيقول: «اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ، وَرِعْلاً، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ عصت الله ورسوله»[2]

نستفيد مما مر:

  • أولاً: أن أهمية الدعوة في هداية الناس حدت بالنبي عليه الصلاة والسلام أن يرسل خيرةَ أصحابه إلى مجاهل نجد – حيث الأعراب الذين لا يرقبون في مؤمن إلَّاً ولا ذمة – مهما كانت الخسائر فادحة والتضحيات كبيرة؛ لأنه أمر لا بدّ منه.
  • ثانياً: دلت آيات القرآن، وأحاديثُ النبي صلى الله عليه وسلم على فداحة الغدر، وشناعة نقض العهود والمواثيق، قال الله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾[3]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الغادر يرفع له لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان»[4].

 لكن يجب أن نعلم أنه إن حصلت معاهدة بين دولة مسلمة ودولة كافرة، ثم اعتدت الدولة الكافرة على أي بلد من بلاد المسلمين، فقد نقضت العهد، ووجب على كل المسلمين أن يتحركوا لنصرة إخوانهم؛ لأن الأمة الإسلامية أمة واحدة، إذا اشتكى منها عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

  • ثالثاً: قال العلماء: لا يجوز للمسلم الإقامة في دار الكفر، أو دار الحرب، إن لم يمكنه إظهارُ دينه، ويكره له ذلك إن تمكن من إظهاره، يستثنى من ذلك ما إذا كان المقيم يبتغي القيام بواجب الدعوة الإسلامية هناك؛ فإنه يعتبر نوعاً من أنواع الجهاد، وهو من فروض الكفاية، الذي إن قام به البعض حق القيام، سقط الإثم عن الباقين، وإلا اشتركوا جميعاً في الإثم.
  • رابعاً: إنَّ للدعاء أهميةً بالغةً في حياة المسلم؛ فحقيقتُه إظهارُ الافتقارِ إلى الله تعالى، والتبرّؤُ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية، واستشعارُ الذلة البشريَّة، وفيه معنى الثناءِ على الله عز وجل، وإضافةُ الجود والكرم إليه، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»[5]. وقَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الدُّعَاءِ»[6]. فهؤلاء القراء سألوا الله عَزَّ وَجَلَّ، فقالوا: ربنا بلغ عنا إخواننا بما رضيت عنا ورضينا عنك، فأخْبَرَهُم عنهم.

«ومكث النبي شهراً يَقْنُتُ على الكفرة الذين قتلوهم، كلما صلى قائلاً: اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ، وَرِعْلاً، وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ»[7]

وفيه جواز الدعاء على الكفرة والمشركين بالعموم؛ لأن من لم يشارك في القتل كان راضياً.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

……………………………………………………….

[1]: دلائل النبوة للبيهقي، 3/ 338.    

[2]: متفق عليه، رواه البخاري،4090. ومسلم 1485،294،675.

[3]: الإسراء /34.

[4]: رواه البخاري، 5823، ومسلم، 1735.  

[5]: أبو داوود، 1479. وأحمد في المسند 18352.

[6]: الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وصححه الحاكم، والبخاري في “الأدب المفرد” (712).

[7]: متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1003)، ومسلم (رقم 1001).