سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الثالثة والأربعون| عمرة القضاء

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.       

أوشكت السنة التي صُدَّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت الحرام يوم صلح الحديبية أن تنقضي، وصار من حق المسلمين أن يعودوا لأداء مناسك العمرة حسب الاتفاق، فأمرهم الرسول أن يخرجوا معه لعمرتهم، وألاّ يتخلف أحد ممن شهد الحديبية، وفي هذا دليل على وجوب القضاء على من تحلل من الحج أو العمرة الواجبين بسبب الإحصار، واختلفوا فيما كان نفلاً، فلا قضاء عند الشافعية، والمالكيَّة، والحَنابِلَة، ويجب عند الحنفية.

شهد عمرة القضاء أَلْفَا صحابيٍ سوى النساء والصبيان، واصطحب النبي عليه الصلاة والسلام معه السلاح الكامل؛ تحسباً لكل طارئ، فأرسلت قريش مِكْرَزًا في نفر، «فقالوا للنبي: والله ما عرفناك صغيراً ولا كبيراً بالغدر، وقد شرطت ألا يدخل الحرمَ غيرُ السيوف في أغمادها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا ندخلها إلا كذلك” [1]، فرجع مكرز يبشر قريشاً بأن محمداً على شرطه. ووضع رسول الله السلاح قريباً من الحرم بحراسة مائتي فارس، وتابع سيره نحو مكة، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ ينشد الشعر بين يديه، فاعترض عمر على إنشاد الشعر بين يدي النبي وفي الحرم، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ» [2].

وأشاع المشركون أنّ محمداً وأصحابَه قد وَهَنَتْهُم حُمَّى يثرب، فاضطبع النبي، وقال لأصحابه: «ارملوا بالبيت؛ ليرى المشركون قوّتكم» فلما رملوا قالت قريش: ما وهنتهم  [3].

فصار الاضطباع والهرولة سنةً في طواف الأشواط الثلاثة الأولى في كل طواف يعقبه سعي للرجال خاصة من دون النساء.

وأقام المسلمون في مكة ثلاثة أيام، يطوفون، ويسعون، ويشربون من ماء زمزم، ويرفع بلال الأذان فوق الكعبة، ويصلي المسلمون الصلوات الخمس في جماعة، ورايات التوحيد تخفق حولهم، وكاد المشركون يموتون بغيظهم. (فلما أن أقام بها ثلاثاً أمروه أن يخرج، فخرج) [4]، فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ، تُنَادِي يَا عَمِّ يَا عَمِّ، فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ، حَمَلَتْهَا، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَجَعْفَرٌ، قَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَخَذْتُهَا، وَهِيَ بِنْتُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي. فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: «الخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ»  [5].

وفيه دليل على أنَّ من لها حق الحضانة إن تزوجت بغير أجنبي عن المحضون لا يسقط حقها بالحضانة عند الجمهور، وإن تزوجت بأجنبي سقط حقها؛ لقول النبي: لمن شكت إليه أن أبا ولدها طلقها وأراد أن ينتزع ولدها منها «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» [6].

وفي تَسَابُقِ الصحابة لحضانة تلك الفتاة ما يدل على تكريم الإسلام للمرأة بعد ذلك الهوان الذي كانت عليه في الجاهلية من كراهة أدناها الغيظُ المكبوت، أو المعلنُ، وأقساها الوأدُ؛ خشية العار، ومن لم يقتلها كان يمسكها على مضض، ولقد صوَّرَ الله في القرآن الكريم هذا الواقع المرير أروع تصوير، فقال: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيْمٌ يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوْءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُوْنٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُوْنَ» [7].

ولم تكن المرأة أحسنَ حالاً، ولا أوفرَ حظاً عند غير العرب، بل كانت في أسوأ حال، وأنكد بال، ترسف في قيود الذل والعبودية حتى جاء الإسلام، وجعل لها من الحقوق مثل ما عليها من الواجبات، لا يفضلها الرجل إلا بالتقوى، والعمل الصالح، وجعلها سبباً لدخول الجنة، وستراً من النار لكل من عالها، وأحسن تربيتها، قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل جاء يستشيره في الغزو معه: «هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: الْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلِهَا» [8].

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

_____________________________________

[1]: مغازي الواقدي 2/ 734.

[2]: رواه الترمذي 2847.

[3]: سنده صحيح، علّقه البخاري: 8/ 411.

[4]: رواه البخاري 1458.

[5]: رواه البخاري، 4251.

[6]: سنن أبي داود 2276.

[7]: سورة النحل، 58، 59.

[8]: خرجه أحمد، 15577، وابن ماجه (2781) والحاكم، 4/151 وقال: صحيح الإسناد والطبراني، 2202.