سلسلة كمال الإسلام وجماله في العقيدة والأحكام والأخلاق | المقالة الرابعة | الشيخ أنس الموسى




        •  وقفة مع قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا، ونبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

تكلمنا في المحاضرة الماضية عن كمال الدين، وأنه عقيدةٌ يجب أن نَعْلَمها، وأن نتذوَّقها، وأن قول الله تعالى:﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً [المائدة 3]، ليس شعاراً من الشعارات اللفظية، التي يرفعها المسلمون، وإنما هو حقيقةٌ ماثلة في هذا الدين في كل جزئياته، بل هو من العقائد التي يجب الإيمان بها؛ فيجب أن نؤمن أن الله قد أكمل هذا الدين، فهذه الآية قطعية الثبوت، والدلالة على ذلك؛ مادام الإنسان يؤمن بأن القرآن هو من عند الله تبارك وتعالى.

 

لقد ذكر الله عزوجل في هذه الآية ثلاث جمل هي: اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً.

هذه الجمل الثلاث عندما يتذوَّقُها الإنسان يستشعر فضل الله تعالى، وجزيل منَّتِه، فالذي يَنْسِبُ الفعل لنفسه بإكمال الدين، هو: الله سبحانه وتعالى، فليس مَنْ أَكْمَلَ الدين أحد المجتهدين من البشر؛ بل أكمله الذي قال: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ[النمل 88]،  بل أكمله الذي قال: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [تبارك 3]، بل أتمَّه الذي قال: ﴿هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ [لقمان 11]، بل الذي قال: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف 54].

عندما نقرأ هذه الآية نتذوَّق ذلك اللُّطف الذي يكرمنا الله به، وخصوصاً عند قوله تعالى: ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وهذا شيء تكرر في قول الباري سبحانه وتعالى كما قال ربنا: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[الشورى 13]، وقال: ﴿لكلٍّ جعلنا منكم شِرْعةً ومنهاجاً[المائدة 48]

لقد شرفنا ربنا بنسبة كمال الدين إلينا؛ كما قال في آيات أخرى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[الأنبياء 10]، فيه عِزُّكم، فيه مَجْدُكم، فيه رُقِيُّكم.

ثم يقول ربنا الجملة الثانية: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، فتمام الإسلام نعمة من الله عزوجل، وهذه النعمة ليست كبقية النعم؛ لأن الله يشهد أنها نعمةٌ تامة، ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فهما إذاً مِنَّتَان من الحق سبحانه، الأُولى: بلفظ النعمة، والثانية بلفظ الإتمام.

ثم قال ربنا: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً، وفي هذا الجزء من الآية لُطْفٌ عجيبٌ، وامتنان كبير يَمتنُّ الله به على عباده عندما يقول سبحانه: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ﴾.

 

 قالتِ اليَهُودُ لِعُمَرَ بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لو عَلَيْنَا مَعْشَرَ يَهُودَ، نَزَلَتْ هذِه الآيَةَ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً نَعْلَمُ اليومَ الذي أُنْزِلَتْ فِيهِ، لَاتَّخَذْنَا ذلكَ اليومَ عِيدًا، قالَ فَقالَ عُمَرُ: فقَدْ عَلِمْتُ اليومَ الذي أُنْزِلَتْ فِيهِ، وَالسَّاعَةَ، وَأَيْنَ رَسولُ اللهِ حِينَ نَزَلَتْ، نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ، وَنَحْنُ مع رَسولِ اللهِ بعَرَفَاتٍ. [1]

 

إن قضية كمال الإسلام ليست قضية دينية فحسب، بل هي قضيةٌ عِلمية عقلية، هي قضية يسلِّمُ بها كل مُنْصف، هي قضية يحملها كل إنسان دارس للإسلام بشكل حقيقي.

قضية كمال الإسلام، مبدأٌ عِلْمي ينبغي التزامه، وهو حقيقةٌ ينبغي أن تبقى ماثلةً أمامنا بغضِّ النظر عن بعض الاختلاف، فليست قضية كمال الإسلام يتداولها المتدينون فقط.

 

فعندما نتحدث عن وجود الله مثلاً: لا نقول بأن وجود الله حقيقة علمية فقط، بل هو حقيقة دينيةٌ، وعلمية، وعقلية، وكذلك الحال في قضية صِدق النبي هو حقيقةٌ علمية عقلية دينية، وهكذا في قضية كمال الإسلام؛ وعليه: فلا نقبل أن تكون قضية كمال الإسلام قضية دينية فحسب، يقولها المسلم تديناً فقط، بل نريد من المسلم أن يتبناها اعتقاداً علمياً، وذوقياً شعورياً؛ يتفاعل معها في ظاهره، وباطنه، وعقله، وفطرته، وهذا لا يتأتى إلا إن درَسنا هذه القضية دراسة علمية سليمة. نريد أن نوضح الأدلة على كمال الإسلام، ونوضح البراهين على تمام النعمة بهذا الدين، وعلينا أن ندرك أيضاً أنه عندما كمَّلَ الله سبحانه هذا الدين؛ جعل رسوله هو التطبيق العملي له؛ فإذا أردنا الإسلام مُطَبَّقَا،ً ما علينا إلا أن ننظر إلى حياة رسول الله ، وشمائله ، كما قال ربنا: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب 21]،  فالله شهد للمنهج بأنه كامل، كما شهد للقدوة بأنه قدوةٌ حسنة، فنحن بحاجة لنبيِّن للناس مظاهر الكمال في شخصية رسول الله ؛ لأن هذا جزءٌ من إظهار الكمال في الإسلام.

 

من المؤسف أن نتناول الكمال في شخصية رسول الله ، على أنه قائد انتصر في بدرٍ، والخندق، وغيرها من الغزوات فتصوير رسول الله ، على أنه بطل من أبطال المعارك لاشكّ ولا ريب أن هذا جانب من جوانب الكمال، والعظمة في شخصيته ، ولكن ليس هذا هو كل الكمال، بل الكمال يظهر أيضاً في كون رسول الله قدوة في جهاده، وأخلاقه التي ظهرت في معاركه، والكمال يظهر أيضاً في عبودية رسول الله لربه؛ وهو الذي كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، والقدوة في شخص رسول الله تظهر أيضاً في تعامله مع الناس؛ فقد كان ألْيَنَ الناس، حتى إنه كانت تأتي الجارية الصغيرة فتأخذ بيده حيث شاءت ليقضي لها حاجتها، ويقف مع العجوز، ويداعب الأحفاد، ويرحم الصغير والأرحام، وكان يقول: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» [2] وغير ذلك كثير في جوانب الكمال والاقتداء بشخصية رسول الله .

 

      • مهمات:
  1. نحن لا نقبل أن يُحمَّلَ الإسلام أخطاء بعض أتباعه الذين يطبقونه خطأً؛ فنراهم يُلْصِقُون بهذا الدين أخطاءهم، ونقول لهؤلاء: الإسلام يمثله شخص رسول الله ، فهو الذي يمثِّلُ الإسلام الكامل، والتطبيق العملي له، ولكم بعد ذلك أن تعترضوا على الإسلام، لو استطعتم توجيه النقد لرسول الله ، فنحن نقول بالفم الملآن ما قاله ربنا:  ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ[الأحزاب 164]، إلى أن وصل الحال بالأمة ليقول الله فيها: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران 110]، فانظر إلى البداية كيف كانت (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، وانظر إلى النهاية كيف صارت (خَيْرَ أُمَّةٍ)؛ لتعرف ما فعله الإسلام، وما هو المنهج الذي سار عليه رسول الله … إنه الإسلام.

  2. كثيرًا ما نقول: إن رسول الله  حيٌّ في سلوكنا، وهو شعارٌ لا ريب عظيم كما قال ربنا سبحانه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ[الحجرات 7]، ونحن في نفس الوقت لا نرضى أن يكون رسول الله حيٌّ في سلوكنا في جانب دون جانب، بل نريده أن يكون حياً في كل جوانب حياتنا.

لقد كان لرسول الله الدور البارز في قيادة حركة الإصلاح في المجتمع من الضلال المبين إلى خير أمة أخرجت للناس، وقد تمثل جهد رسول الله في قيادة تلك الحركة الإصلاحية في هذا المجتمع بأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، الذين رباهم على كمال الإسلام، ومَعِينِه الصافي؛ فكانوا خيرَ سَلَفٍ لخيرِ خَلَفٍ، فهم ثمرةٌ من ثمرات تربية القرآن على الرحمة، والغَيْرَة على حرمات الدين، والذود عن حياضه، بكل ما يملكون؛ ببذل النفيس، والخسيس في سبيله.

إن كمال الإسلام يجب أن يتكرر في أخلاقنا عِزًّا، وفخراً، وجِدَّاً، وأن يكون منهج إصلاحٍ لحياتنا العامة، والخاصة، وهذا ما نريده من هذه السلسلة أن يتحقق.

نريد أن تكون فكرة كمال الإسلام فكرة عقلية، لا شعاراً لفظياً، أن يكون فطرة تنبع من داخلنا قناعة ووعياً، وليست كلمات نرددها في مجالسنا، ونوادينا دون أن يكون لها أي صدىً في عقولنا، وأفكارنا، وأحاسيسنا ومشاعرنا.

يجب أن نعلن وعلى الملأ أن الإسلام كامل في جزئياته وكلياته، كاملٌ في عباداته وتعاملاته، كاملٌ إجمالاً وتفصيلاً؛ فهو الذي بنى الأمة أعظم بناء، وأوجد الفرد الكامل في أصغر جزئياته، فلم يستطع أحد أن يقف طاعناً في كمال هذا الدين، خلا المشوشين الحاقدين، الذين وقف الدين في وجه شهواتهم التي لا حدود لها، وأهوائهم التي لم تجلب للعالم إلا الخراب، والدمار.

عندما نقول: إن الإسلام كامل، فعندنا من الأدلة ما نؤيد صدق هذه الدعوى، وعندنا من الأدلة ما ندمغ به كل باطل يخالف هذه الحقيقة، ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء 18]، وهذا ما سنثبته في المحاضرات القادمة بإذن الله تعالى.

 

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب، والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] البخاري، الصحيح: باب خبر المرأة الواحدة ح (6878). مسلم، الصحيح ح (3017).     

[1] ابن حبان، الصحيح: بَابٌ الْهَدْيُ – ح ( 4260 ). سنن ابن ماجة ح (1982).