سلسلة كمال الإسلام في العقيدة والأحكام والأخلاق | المقالة الثانية | الشيخ أنس الموسى



        •  الإسلام والعبودية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا، ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

الله عزوجل خالق الكون، ومنزل الشرائع، وهو المنفرد بالإيجاد والإمداد، تفضَّلَ على الكون بالإيجاد من العدم، خلق الكون فأتقن صنعه، قال تعالى:﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ[النمل 88].

لا نرى في خلق الرحمن تفاوتاً، ولا خللاً، بل النظام والتكامل يسري في صفحات هذا الكون؛ لتكون صفحاته ناطقةً بوحدانية الله، وقيُّوميّته سبحانه، شاهدةً على قدرته وعظيم علمه سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ [تبارك 3].

خلق الله عزوجل الكون، وخلق الإنسان من هذه المكونات فالله سبحانه: ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ ۝ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ[الرحمن 3-4] وسخَّرَ هذا الكون لخدمة هذا الإنسان.

 

يسأل الإنسان نفسه بعد أن خلقه الله، وأعطاه جسماً قوياً، وعقلاً مميِّزاً، وأعطاه من المَلَكَات، والإمكانيات ما تجعله سيداً في هذا الوجود: هل يا ترى خلقني الله بكل ما منحني إياه من خلق عجيب، هَمَلاً من غير وظيفةٍ، ولا هدف؟

هل يعيش الإنسان في هذا الوجود غارقاً في نِعَم الله مستمتعاً متلذذاً، يمارس ما يشتهي ويفعل ما يريد، ثم بعد ذلك ليس له وظيفة، وليس عليه التزامات كلَّفَهُ بها خالقه، وخالق هذا الكون؟

لو دخل إنسانٌ جامعةً مثلاً، ورأى فيها ما تَكْمُلُ به هذه الجامعة من مدرِّسِين وطلابٍ وبناءٍ منظّمٍ، ومختبراتٍ بحثيةٍ، وقاعاتٍ وكل ما يحتاجه الطالب ..ثم قيل لنا بعد ذلك: إن هذه الجامعة ليس فيها امتحانات، ولا تعطي شهادة دراسية في نهاية سنيّ الدراسة، والذي ينتهي من الدراسة فيها لن يعمل أي عمل، كيف سينظر هذا الشخص لهذه الجامعة؟ حتماً ستسقط هذه الجامعة من عيونه، ولقال: هذه جامعة لا فائدة منها. …إذا كان هذه شأن جامعةٍ لا تساوي شيئاً أمام خلق الله للكون، وما فيه من إتقان، وأمام خلق الإنسان، وما زوّده به من نِعم، حتى إن الكون كله مسخَّرٌ له، ثم بعد ذلك نقول: لا يوجد للإنسان واجب نحو خالقه؟!

كيف أتصور أن الله الذي خلقني وأوجدني من عدم ليس لي أي التزامات نحوه؟

هل من المعقول أن تكون القضية في الحياة أن يولد الإنسان فيمر بمرحلة الطفولة، ثم الشباب ثم الكهولة ثم الموت، وتنتهي القضية؟!

الحقيقة هذا الإنسان بمختلف مراحل حياته من الطفولة للشباب، للشيخوخة عليه التزامات؛ سيسأله الله عنها يوم القيامة: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ[المؤمنون 115].

 

ينبغي لكل عاقل أن يسأل نفسه هذه الأسئلة: هل وظيفتك أيها الإنسان أن تأكل، وتشرب حتى تنتهي حياتك فقط؟

كثيرون هم الأشخاص الذين يقضون حياتهم، وينظرون للخلف قائلين: لقد عملت كذا وعملت كذا، اهتممت بأولادي علمتهم، بوأتهم الجامعات، ربيتهم، وزوجتهم وأسكنت كل واحد بيتاً، وهيّأتُ لهم عملاً يناسبهم، وأنا الآن أدّيت رسالتي في الحياة، وانتهت وظيفتي فالآن أموت، وأنا مرتاح البال …هل هذا الكلام صحيح؟

لا شك أن الإنسان مسؤول عن تربية أولاده، وتحقيق الحياة الطيبة لهم، لكن هذا ليس كل شيء في الحياة هذه ليست الوظيفة الأولى، والأخيرة للإنسان، بل هذا جزء من وظيفته بل جزءٌ بسيط من مسؤولياته، ورسالته.

دعانا ربنا تبارك وتعالى أن نتعرف عليه فعرَفناه بأسمائه، وصفاته ثم بعد ذلك ألا يجدر بنا أن نسأل أنفسنا عن واجبنا أمام هذه المعرفة؟  

ينبغي لكل عاقل أن يسأل نفسه: ما هو واجبي نحو خالقي خالق الكون والإنسان؟

 ينبغي لكل عاقل أن يقف أمام هذه القضية، وهذه الحقيقة، أليس الله الذي إذا وقعتُ في مصيبة نجَّاني؟، وإذا سألته لبَّاني؟، وإذا كنت في شدة كشف عني البلاء؟.. أليس علي واجباتٍ نحوه؟

تَعلَّمْنا العقيدة، وآمنا بالله واليوم الآخر، وأن الجنة حق، والنار حق، ولكن بقي أن نسأل أنفسنا: ماهي الواجبات المترتبة نحو هذه العقيدة، نحو إيماننا بربنا، وما هي لوازم هذا الإيمان؟

الحقيقة إن الله قد بين لنا ذلك، وأجاب عن هذه التساؤلات عندما قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات 56]

الله خلق الإنسان؛ ليكون له عبداً، لأنه الذي قال: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا[مريم 93]

العبودية وصف كتبه الله عزوجل على خلقه جميعاً عندما قال: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير [الأنعام 18] فما من مخلوق لله عزوجل إلا وهو مصبوغٌ بصبغة العبادة، والعبودية لله تعالى، فالكون كله يسبح بحمد الله مصبوغ بالعبودية له سبحانه قال تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا[الإسراء 44].

 

  • العبودية نوعان: عبودية اضطرارية، وعبودية اختيارية.

عبودية اضطرارية: كتبها ربنا على كل واحد فينا على الصغير، والكبير المسلم وغير المسلم المؤمن والملحد التقي والفاسق، الصالح والفاسد.. الجميع عبد لله عزوجل، ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير [الأنعام 18] ليس هناك مخلوق في الوجود يخرج عن العبودية لله سبحانه وتعالى، فلا أحد يستطيع أن ينفي أن الله خلقه إلا المكابر المعاند، لكن الأدلة شاهدة على خلاف ما يقول وينفي.

 من يستطيع أن يتنكر لفضل الله ويقول: إنه لا يأكل من رزق الله سبحانه، أو لا يخضع لسلطان الله أو يغيب عن علم الله؟

ليس للإنسان في العبودية الاضطرارية أي فضل بل الفضل أن يكون الإنسان عبداً لله باختياره، عبداً بإرادته، عبداً لله بسلوكه، عبداً لله بفكره، عبداً لله بعمله ظاهره، وباطنه.

نقول للملحد الذي ينكر وجود الله عزوجل: أنت فيك أمران عبودية قهرية اضطرارية خاضع لها شئت أم ابيت، ولْتَجْرُؤ أن تمتنع عن خالقية الله عزوجل لك، ورزقه لك، وحال مرضك، وعندما يدْهَمُكَ الموت ثم تبعث، وتساق مقهوراً لعبوديةٍ كتبها الله عليك حتى لو كنت ظاهراً تنفي وجود الله لكنك في الحقيقة مقهورٌ لعبوديةٍ كتبها الله عليك ولكنك أيها المسكين حُرِمت من عبوديةٍ اختيارية تَشْرُف بها في دنياك، وآخرتك.

 

العبودية الاختيارية: أن نعبد ربنا كما طلب منا، وأن تكون علاقتنا معه، ومع الخلق ومع الكون، كما يرضى ربنا تبارك وتعالى، هذا النوع من العبودية ينقسم إلى قسمين:

1-عبودية يمارسها الإنسان بينه، وبين ربه سبحانه وتعالى.

2-عبودية يمارسها الإنسان فيما بينه، وبين خلق الله عزوجل.

عندما أصوم وأصلي وأحج وأقرأ القرآن …أمارس عبودية وعبادة فيما بيني وبين الله عزوجل، ولكن عندا أبر والديَّ، وأصل الأرحام، وأحسن للجوار، وأصدق في المعاملات، وأعط كل ذي حق حقه أُكْرِمُ الزوجة، وأرعى الأولاد وأقوم بواجباتي نحو خلق الله عزوجل؛ فهذا مظهر من مظاهر العبادة لله عزوجل أمارسها في صورة علاقات اجتماعية، ومالية وما شابه ذلك.

 

من الخطأ حصر العبادة بالنوع الأول، وأن تنفصل العبادة عن النوع الثاني، والمعنى الثاني للعبادة.

من الخطأ أن يكون الإنسان عبداً لله فيما بينه وبين الله في صلاته وصيامه، ثم ينفك عن تلك العبودية في علاقته مع خلق الله عزوجل؛ فتراه يسيء للجوار، ويقصر في بر الوالدين، يغش في معاملاته المالية، إلى غير ذلك من صور التقصير. أليس هذا هو عين التناقض؟

 

الله الذي قال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة 110].

هو الذي قال أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء 19].

الله الذي أمر بالصيام عندما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة 183].

هو الذي قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة 278].

الله الذي أمر بالحج عندما قال: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران 97]،

هو الذي قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا[النساء 58] يجب لزاماً أن نزيل أسباب التفريق بين نوعي العبادة، ينبغي أن نعبد الله بكلا العبادتين.

فالله الذي قال: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا[الإسراء 23] فالإحسان للوالدين عبادة لله يمارسها الإنسان في صورة العلاقة الاجتماعية؛  لأن الذي أمر ببر الوالدين قال أيضاً: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَ الْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا[النساء 36] فهناك ترابطٌ بين بر الوالدين وعبادة الله، وعدم الإشراك به.

 

نرى تناقضاً في حياة بعض الناس يتمثل في الفصل بين عبادة تتم في المسجد سلوك خارج المسجد، فهناك حياة دينية مسجدية صلوات، وأذكار، ولكنك تجد إنساناً آخر في العلاقات الاجتماعية خارج المسجد، شخصية في المسجد، وشخصية أخرى مختلفة خارج المسجد.

الحقيقة إن هذا التناقض والفصام لا يرضاه ربنا سبحانه وتعالى؛ لأنه إخلال بالعبودية لله عزوجل فالمفروض أن تظهر العبودية في كل مفاصل الحياة؛ ومن هنا تظهر أهمية الإسلام، فالإسلام لا يأبه بالطقوس الشكلية، ولا يعتمد عليها؛ فهو لا يقبل عبودية في مكان، ولا عبودية في مكان آخر.

ها هو القرآن يعلمنا هذا فنراه يقول لنا: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة 188].

ونرى المؤمن في محراب عبوديته لربه يتلوا قول الله عزوجل في أطول آية في كتاب الله عزوجل هي أية المداينة عندما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ [البقرة 282].

 

إن الإنسان ليعجب، وهو يقرأ في محراب عبوديته لربه قول الله عزوجل: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[البقرة 299].

ثم يقف خاشعًا لله عزوجل وهو يقرأ قول الله عزوجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة 178].

يتعجب الإنسان وهو يقرأ قول الله عزوجل: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيْمٍ[القلم 8] يقرأ كل هذا في محراب عبوديته لربه.

هذا أمر يجب أن نقف عنده ملياً، وأن نعلم أن كمال إيماننا يقتضي إصلاح ما بيننا وبين الله عزوجل، وما بيننا وبين الناس من خلق الله تعالى.

 

إيماننا بالله عزوجل يحتم علينا إحسان صلاتنا وصيامنا، وإحسان ببيعنا وشرائنا، وعلاقتنا مع أرحامنا، وجيراننا، ووالدينا، نتذوق قول رسول الله «إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه» [1] كلمة عملاً تدل على عموم أنواع العمل الديني، والدنيوي، وهذا يدل على كمال الإسلام لقول الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ[المائدة ]؛ لذلك فإن شرف العبودية لله تعالى تظهر في تكامل هذه القضية.

 

دين الله عزوجل لم ينزل لنطبقه في المسجد فقط، بل إن الإسلام دين أنزله الله عزوجل لنتعلمه في المسجد، ونطبقه في جزئيات حياتنا.  نتعلم في المسجد قول رسول الله «رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى» [2]، ولكن لا نطبق هذا في المسجد بل تطبيقه يكون خارج المسجد.

نتعلم في المسجد قول رسول الله «مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» [3]، ونطبق هذا الحديث مع الجار في السكن والعمل.

أتعلم في المسجد قول رسول الله «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» [4]، وأطبقه خارج المسجد في صورة علاقتي مع زوجتي وأهل بيتي.

أتعلم في المسجد قول رسول الله «ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته ، وهو مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها ، وولده وهي مسئولة عنهم ، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» [5]، وأمارس ما تعلمته في علاقتي مع الناس، ومن هم تحت عهدتي.

النبي  من خلال مسجده المتواضع في الصورة والشكل استطاع أن يبني خير أمة أخرجت للناس: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ[آل عمران 110].

وأخيراً من أولى الواجبات أن نزيل هذا الفصام بين عبودتنا لربنا في صورة العبادات الشعائرية، وبين عبوديتنا لربنا في صورة العبادات التعاملية، وعلينا أن نتذكر أن هذا كله يدخل في عظمة قول الله عزوجل:﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة 3].

اللهم وفقنا لمحابك، وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

______________________________________

[1] الطبراني، المعجم الأوسط (1/275).

[2] البخاري، الصحيح: كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع ومن طلب حقا فليطلبه بعفاف ح (2076).

[3] مسلم، الصحيح: كتاب البر والصلة والآداب، باب الوصية بالجار والإحسان إليه ح (48886).

[4] ابن ماجه، السنن: باب حسن معاشرة النساء ح (1982).

[5] البخاري، الصحيح، باب قول الله تعالى: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [النساء: 59] ح (6756).