سلسلة علمني المصحف | وأَنْ أَتلُوَ القرآن | المقالة الرابعة | الشيخ أنس الموسى

 

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

اللهم إنَّا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا. وبعد:

          فنحن المسلمين نعتقد أنَّ ما بين دُفتي المصحف هو مرادُ الله من عباده؛ لهذا أرسل الله رسله ليُقنِعُوا الناسَ ويعلموهم كيف ينتفعوا بما فيه؛ فهو الوحي الذي سيصحَبُ الإنسانيةَ حتى النهاية، وهو كتاب لا يَخصُّ قُطرًا إسلاميًا بعينه وهو يتناول حاضرَ ومستقبل أمةٍ تزيد على مليار مسلم؛ لهذا نحن مأمورون أن نتلوه حقَّ التلاوة.. تلاوةَ تدبُّرٍ وتأمُّلٍ وتعرُّف.

إن حقَّ التلاوة يشمل الكثير من الحقوق تبدأ بإقامة حروفه وتنتهي بإقامة حدوده، تلاوةً تشمل العقلَ والقلبَ والروحَ والجوارحَ.

إن تلاوة كتاب الله بتجردٍ وإنصاف تدلُّنا على حقوق تلاوته وهذا يوصلنا لنتائج هامة تتعلق بهذا الكتاب العزيز.

 

          أيها الأحبة: الإسلام روحٌ وجسد، إيمانٌ ونظام أما عقيدتُه فهي كالوقود الذي تتحرك بسببه كل الآلات. 

الإسلام يا إخوتي مجموعةُ وصايا وتنبيهاتٍ أوامرَ ونواهي تسير بالحياة إلى وِجهة معينة وبأسلوبٍ خاص. 

          هذا الكيان كله هو الإسلام أما إحياء بعض تعاليم الإسلام وإماتة بعض تعاليمه بالإغضاء أو الجحود أو أن تُستعارَ بعضُ أجزاءٍ منه لبعض الأوقات؛ لا تجعل المستعيرَ مسلمًا كما يريده الإسلام، وبما أن أحكام الإسلام وتشريعاته تُستمدُّ من روح تشريعات القرآن وأحكامِه فإنه لا يوجد في القرآن سورةٌ تُؤثَر وأخرى تُهدر، أو آيةٌ نَرضى حكمَها وأخرى نَسْخَط بل إنَّ الوحي كلُّهُ نظامٌ إلهيٌ متكامل يتَّصفُ بالعصمة والقداسة جملةً وتفصيلًا فلا مكان لإطراح جانبٍ منه واصطحاب جانبٍ آخرَ للاهتداء به على دروب الحياة والتغلب على وعورة الطريق.

 

          أيها الأحبة: إن أحكام الإسلام المستمدة من القرآن كدواءٍ يُركِّبُهُ الطبيب من عدة عناصر وبمقادير معينة فإن استبعدنا أحدَ مُركَّباته منه أو زدنا فيه ما لا ينبغي فإمَّا أن يَقل نفعُه أو يمسي دون فائدة ولن يغني عنه وقتئذ وجودُ المركَّبات الباقية حتى لو كانت هامةً بل وعظيمة القيمة.

 

          أيها الإخوة: لقد عاب القرآن وتوعَّد أقوامًا فعلوا ما حذرنا منه قبل قليل فقال : ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة 85] 

 

          أيها الأحبة: إن تلاوة القرآن حقَّ التلاوة ترشدنا إلى أنَّ العمل بآيات المواريث لا يقل عن العمل بآيات التوحيد وأن نبذَ هذه يَشِي بنبذ تلك، وأنَّ الخروجَ عن هذه خروجٌ عن تلك؛ فمخطئٌ من يفرِّقُ بين سورة الإخلاص وسورة النساء الكبرى أو الصغرى (الطلاق)؛ فلا يُتَصَوَّر بالمنطق الإسلامي الرصين التفريق بينهم؛ فهذا هو أبو بكرٍ الصدِّيقُ رضي الله تعالى عنه يقاتِل مانعي الزكاة فيعترضُ عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلًا: “كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ومن قال لا إله إلا الله عَصَمَ مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله” أي: كيف تقاتل وتهدُرُ دمَ من يشهد أن لا إله إلا الله وهذه الشهادة تعصم دمه وماله إلا من استحق ذلك وحسابه على الله بعد ذلك؟ فأجابه الصدِّيقُ رضي الله عنه: “لأقتلن من فرَّق بين الزكاة والصلاة، وإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالًا أو عَناقًا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم على منعه”.

          لقد كانت هذه الموائمة بين شرائع الله من توفيق الله للصدِّيقِ رضي الله تعالى عنه حيث أثبت قوةَ دولة الإسلام الجديدة ورجع كثيرٌ ممَّن ارتد عن الإسلام إلى الطاعة والعملِ بكثيرٍ من شرائع الإسلام من جديد. 

          إن غيرَ المسلم لا يمانِع أن يأخذ الابن الأكبر كلَّ التركة لكنَّ المسلم لا يقبل أن يعيش في ظِلِّ قانونٍ يخالف نصوصَ كتاب الله وآيات تشريعه؛ لأنَّ أحكام القرآن كلها متشابكةٌ متماسكةٌ ولو تعطلت إحدى الآيات فإن العَطَبَ سيستشري إلى الوحي كلِّه؛ فالإسلام لم يفضِّل الرجلَ على المرأة في أحكام الميراث – في بعض الأحيان – تنقيصًا أو ازدراءً للمرأة وهضمًا لحقِّهَا بل كان يوم كُلِّف الرجل بتكاليف وأعباء لم تُكلَّف بها المرأة، بل إن المرأة في كثير من الأحيان عاجزةٌ عن أدائها؛ فإن الأخذ بهذه وترك تلك إخلال بهذا النظام المتكامل.

 

          أيها الإخوة: ونحن نقول هذا لا ندَّعي بأنَّه لا يوجد في الدِّينِ فرائض ونوافل؛ بل إننا نقصد أنَّ التفريق الجوهري بين الحقائق الرئيسية للإسلام يَعودُ عليه بالنقض.

          فالفضيلة لا تتجزأ في نظر الإسلام؛ فالصدق مثلًا لا بدَّ أن يطبَّق مع جميع الناس وفي كل الأمور وكذلك نقول في العدل والأمانة.

          إن المصطفى بيَّنها صريحةً واضحة فقال: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» [1]

          وقال : «كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ» [2]

          وقال : «وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» [3]

          وقال : «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ» [4]

إن قداسة الأمة وخيريتها بالوقوف في وجه الظالم وأخذِ الحق منه ومساعدةِ المظلوم وأخذِ الحق له. 

 

          أيها الأحبة: الإسلام لا يأبه لامرئٍ فاضلٍ يكون أمينًا في بعض الأحوال خائنًا في أخرى أو يؤدي بعض الفرائض في وقت ويجحدها في أوقات أخرى إن هذا التفريق قد يؤدي في بعض الأحيان للخروج من الدِّين ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة 136] 

          إنَّ شعائر الإسلام في الوصاية على الضمير مثلُ شرائعه في تنظيم البيت المسلم، وهي مثلها في بناء العدل وإقامة الدول تنبجسُ من عينٍ واحدةٍ وتنساقُ لغايةٍ واحدة، وأي شلل يصيب بعضها يمتد لا محالة – تأخر الوقت أم تقدم – إلى بعضها الآخر وهو منذرٌ أيضًا بفناء الجميع ولو بعد حين.

 

          أيها الإخوة: إن تلاوة القرآن حقَّ التلاوة تصل بنا لنتيجة أن الإسلام علاقةٌ سماويةٌ بين الناس وخالقهم ربِّ الناس ملكِ الناس إلهِ الناس وهي علاقة تتميز بإسلام الوجه لله وإعلاء اسمه في كل أفق والانبعاث عن أمره في كل شأن، وأنَّ من يَكُن لله يكونُ الله له وأنَّ من تَهُن عليه أوامر الله يوشكُ أن يهون على الله ، وأنَّ طرد الظالمين وتوريث الأرض لغيرهم ما يكون إلاَّ لأقوامٍ حققوا الخشية من الله وحَذِرُوا وعيدَه عندئذٍ يَحلُّ العدل والعطف محلَّ القسوة والظلم، ويحلُّ اليقين محلَّ الإلحاد، وتحلُّ إقامة شعائر الله مكان تعطيلها… الشعار العام هو الحرص على مغفرة الله ورضوانه وإعلاء اسمه وكلمته وإيثار شرعه ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام 162] ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إبراهيم 14]

          إن تلاوة القرآن يا إخوتي حقَّ التلاوة تقودنا لنتيقن أن المسلم يتعلم من دينَهُ الحقَّ وصوابَ النظرة للأمور؛ فهو يقبل المعروف بكل صوره ويرفض المنكَر بكل صنوفه ينصر الأخيار ويقدمهم ويخذُل الأشرار ويؤخرهم؛ قيامًا بالواجب وحماسًا للمبادئ ونُكرانًا للآثام فهو يتحرى مرضاة الله فيما يُحبُّ ويكره ويترك ويفعل، وأن محبة الخلق والفضيلةِ والخيرِ من أبرز الخلال التي يسعى الإسلام لغرسها في قلوب المؤمنين بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وأن تغيير المنكر وإقرارَ المعروف ليس فقط قدرةُ قلمٍ على الكتابةِ أو لسانًا على الخَطابة وإنَّما هو فيضُ الإيمان الغَيورِ وقدرةُ إنسانٍ على اطراح وإيثار ما عند الله .

 

          أيها الأحبة: إن التلاوة الصادقة لكتاب الله ترشدنا أنَّ المسلم الحق هو ذلك الإنسانُ المشدودُ الأواصرِ بهذا المصحف وبالنبوة التي تمثِّلُ الصورة العملية لأحكامه والتي أبرزت أهدافه وجعلت الحياة عامَّها وخاصَّها تستمِدُّ وجودَها وضياءَها من نور آياته ووحي هداياته.

 

          اللهم انفعنا بالقرآن العظيم واجعله لنا إمامًا ورحمة وارزقنا تلاوته حقَّ التلاوة، اللهم ذكرنا منه ما نُسِّينا وعلمنا منه ما جَهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا يا رب العالمين.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مسند أحمد (1/ 270) ح (117).

[2] مسند أحمد (24/ 150) ح (15424).

[3] سنن ابن ماجه: باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (2/ 1329) ح (4010).

[4] صحيح البخاري: باب حديث الغار (4/ 175) ح (3475).