سلسلة علمني المصحف | خاشِعًا مُتصدِّعًا | المقالة الخامسة | الشيخ أنس الموسى

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا.

          أيها الأحبة: ما يزال الحديث عن المصحف يتردّدُ صداه، واليوم سنتوقف عند آيات من كتاب الله عز وجل نأخذ ما فيها من دروسِ ونتائجِ وآثارِ القراءة الصادقةِ الحرَّة المُنْصِفَةِ لكتاب الله عز وجل وهي: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر 21]

          القرآن أيها الإخوة له سرٌّ عجيب في إحياء القلب وتحريك النفس وتعميرها بالشوق لباريها جل جلاله، وهو ينقُلُنا الى عالم واسع بعيد عن ضِيقِ الدنيا ويحوِّلُ آلامها الطويلة الى لحظات معدودة، ويجعلنا نرى الشهيد الغارق في دمه حيًّا مستبشرًا بنعم الله ويُعرِّفنا باللطيف الخبير الرحيم فتشتاق الروح إليه فإذا لّهّجَ اللسان بالذكر وانفعل القلب به أخبتت النفوس فتنحلُّ من قيود الجوارح فتخفقُ الأطرافُ راكعةً ساجدةً لباريها.

          القرآن أيها الأحبة: يحمِلُ طاقةً تأثيرية عجيبة تخلُبُ لُبَّ المستمع وعقلِه فهو نورٌ لاهبٌ أو لِنَقُل تيارٌ كهربي صادم.. تيار من عالم الروح لا المادة ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى 52] فالقرآن روحٌ تحيا به الأرواح، وهو حبلُ الله الممدودِ من السماء إلى الأرض، وهو نور حارق مؤلم إيلامًا من نوع خاص إذا صبر المؤمن عليه وعلى حرارته تحوَّل هذا الألم إلى لذاذةٍ تطير منها القلوب المتذوقة للقرآن، وبعد أن يصدِم هذا التيار القلوب؛ وتتأثر به لا تلبث الجلودُ أن تلين له ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر 23].

          القرآن أيها الأحبة: ثقيلٌ بثقلِ ما يحمله من معانٍ وأنوار ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل 5] ولأنه ثقيلٌ يحتاج معه العبد إلى المكابدة؛ فإذا كابده اشتعل القلب بفيض أنواره فيتهدهد ويكاد ينصدع من الهيبة والخشية ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر 21].

          إن تأثير القرآن يا إخوتاه بلغ حدًا لا يبلغه حصرُ حاصرٍ؛ فقد شمل كلَّ مخلوقٍ خلقه الله تعالى؛ الأنبياء المرسلون، الصحابة والتابعون ومن تبعهم، الملائكة والجن، حتى الجمادات والعجماوات تأثرت به.

          * يحكي عبادة بن الصامت: أن المصطفى إذا نَزَل عليه الوحي كُرِبَ لذلك وتَرَبَّدَ وجهه، وفي رواية: «كان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي يعالج من ذلك شدة” فرسول الله ﷺ يصبه الكرب وتعلو وجهَهُ غُبْرةٌ وتغيُّرُ البياض إلى السواد ويعاني الشدَّة فإذا سُرِّيَ عنه قال: ” خذوا عني..».

          * وانظروا يا أحبتي الى رسول الله وهو يشتهي أن يسمع القرآن من غيره؛ ويطلب من ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن يقرأ عليه القرآن؛ فيستغرب ابن مسعود ويقول:  «يا رسول الله آقرأ عليكَ وعليكَ أُنزِل؟! قال: “فإني أحبُّ أن أسمعه من غيري” قال ابن مسعود فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا [النساء: 41] قَالَ: «أَمْسِكْ» فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ».

          * وانظروا إلى ما يروي عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ:  تَلَا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] الْآيَةَ، وَقَالَ عِيسَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي» وَبَكَى ﷺ، فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَاسْأَلْهُ مَا يُبْكِيهِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَا قَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ لَهُ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوؤكَ».

          فهذه بعض نماذج من تأثُّر أشرف الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن فماذا عن تأثر بقية أنبياء الله بالوحي وسكينته؟

 – لقد صور القرآن ذلك في قوله تعالى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۦنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍۢ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْرَٰٓءِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَٱجْتَبَيْنَآ ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُ ٱلرَّحْمَٰنِ خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم 58]

إن انفعال الأنبياء بالقرآن كان انفعالاً وجدانيًا وعاطفيًا عميقًا؛ يخرُّون معه سجدًا وبُكيًا.

 لقد بلغ اتصال الأنبياء بكلام الله تعالى مبلغَ الخُرورِ سجَّدًا ودموعهم تذرف من مآقيهم بكاءً وتأثرًا؛ فأيٌ انفعالٍ وجداني أعظم من ذلك؟

فيالعجائب هذه الهيبة القرآنية التي تَتَطامَنُ على النفوس فتُخبتُ لكلام الله وتتسلل الدمعات لتتجاوب معها الأركان فتخرُّ ساجدةً لله فيجتمع البكاء والسجود في مشهدٍ تعجَزُ الحروف عن وصفه.

يا ربِّ ما أعظم كلامك… يارب ما أحسن كتابك؟

          أيها الأحبة: ولقد ظهر تأثير نور القرآن في قلوب أصحاب المصطفى ﷺ:

          * فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يسمع رجلاً يتهجد في الليل ويقرأ في سورة الطور فلما بلغ الى قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ۞ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ [الطور 7-8] قال عمر: قَسمٌ ورب الكعبة حقٌّ ثم رجع الى منزله فمرِض شهرًا يَعودهُ الناس لا يدرون ما مرضه.

          * وقال عبد الله بن عروة بن الزبير: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله  إذا سمعوا القرآن؟ قالت: تدمعُ أعينهم وتقشعرُّ جلودهم كما نعتهم الله

          * ويروي ابن أبي مليكة: صَحبت ابن عباس في السفر فإذا نزل قام شطرَ الليل ويرتل القرآن حرفًا حرفًا ويُكثر في ذلك من النشيج والنحيب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

          * وهذا عبد الله بن حنظلة يومًا وهو على فراشه مريضٌ عليل يتلو رجلٌ عنده هذه الآية من سورة الأعراف: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف 41] فبكى حتى كادت نفسه أن تخرج، وقال: صاروا بين أطباق النار، ثم قام على رجليه – وهو المريض العليل – فقال قائل: يا أبا عبد الرحمن اقعد، قال: منعني القعود ذِكرُ جهنم ولعلِّي أحدهم. إن قوارع سورة الأعراف منعت العليل من الرقاد فما بالكم بالصحيح؟!

          * وهذا رجل كان على شطِّ الفرات يسمع قارئًا يتلو قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ فتمايلَ الرجل، فلمَّا وصل القارئ لقول الله تعالى: ﴿لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ [الزخرف 74-75] سقط في الماء فمات.

          * وهذا أبو العالية رحمه الله تعالى أحدُ أعلام التابعين أراد المسير للجهاد في سبيل الله وأعد عدته له، إذا به يجد آلامًا شديدة في رِجله ولم يزل الألم يشتد، فجاءه الطبيب وقال له: أنت مصاب بالآكلة – داء يأكل العضو الذي يحل به – وأخبره الطبيب أنه لابدَّ من بتر ساقه فأذن له وهو كاره لذلك ولمَّا أحضر الطبيب المنشار لنشر العظم وما يتبع ذلك، قال له: أتريد أن نسقيك جرعة خمر كيلا تشعر بالألم وهو شديد؟ فقال أبو العالية: بل هناك ما هو خيرٌ من ذلك، ثم قال: أحضروا لي قارئًا يتقن كتاب الله، واجعلوه يقرأ عليَّ ما تيسّر من آياته البينات، فإذا رأيتموني قد احمر وجهي واتسعت حدقتاي وثبت نظري في السماء فافعلوا بي ما شئتم. فنفّذوا أمره، وبتروا ساقه، فلما أفاق قال له الطبيب: كأنك لم تشعر بآلام الشق والبتر؟ فقال: لقد شغلني برد حبِّ الله وحلاوة ما سمعته من كتاب الله عن حرارة المناشير، ثم أخذ رِجله بيده ونظر إليها وقال: إذا لقيت ربي يوم القيامة وسألني: هل مشيتُ بكِ منذ أربعين سنة إلى مُحرَّم أو مَسست بك غير مباح لأقولنّ: لا ولأنا صادق فيما أقول إن شاء الله.

رباه… أي شيء يفعله هذا القرآن بالنفوس البشرية؟! أفلست قواميس الدنيا أن تصف ذلك الإحساس أو تشرحه.

          * جبير بن مطعم وكان على الشرك وقتئذ أتى النبيَّ يريد أن يفاوضه في أُسارى بدر، فلما وصل إلى المصطفى وجده يصلي بالمسلمين صلاة المغرب، فسمع جبير قراءة النبي  وهو يقرأ في سورة الطور، ولنتركه يذكر لنا كيف خلبت سكينة القرآن أحاسيسه يقول جبر: فلما بلغ هذه الآية: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ *أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ﴾ [الطور 35-37] كاد قلبي أن يطير.

لله دره ما أبلغ عباراته وهو يصور أحاسيسه حين سمع قوارع سورة الطور حتى كاد قلبه أن يطير.

          * هذا رجل مشركٌ سمع القرآن سماع عدوٍ يريد أن يستلم أساراه، وهي حالةٌ يكون الخصم بعيدًا كل البعد عن أن يتأثر بكلام خصمه، لكنَّ سكينةَ بل تيارَ القرآن هزَّ فؤاده حتى كاد أن يطير.

          * بل حتى الملائكة – أيها الأحبة – خرجت عن استتارها يومًا حين انبعث صوت الصحابي أسيد بن حضير بالقرآن يقرأ بسورة البقرة يتغنى بها في جوف الليل وحيدًا فصارت الملائكة تتهادى من السماء مقتربةً من الأرض متأثرةً بسكينة القرآن.

 يقول أسيد رضي الله عنه: «فرفعت رأسي الى السماء فإذا هو مثل الظُلَّة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها، قال رسول الله ﷺ: وتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال رسول الله ﷺ: «تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم». 

          وسأذكر لكم إخوتي رواية البخاري كاملةً كما هي في صحيحه: «عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ، وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ، إِذْ جَالَتِ الفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، فَقَرَأَ فَجَالَتِ الفَرَسُ، فَسَكَتَ وَسَكَتَتِ الفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الفَرَسُ فَانْصَرَفَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، حَتَّى مَا يَرَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ، اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ، قَالَ: فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى، وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ المَصَابِيحِ، فَخَرَجَتْ حَتَّى لاَ أَرَاهَا، قَالَ: «وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟»، قَالَ: لاَ، قَالَ: «تِلْكَ المَلاَئِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا، لاَ تَتَوَارَى مِنْهُمْ».

          ليس هذا عجيب على القرآن إذا كانت الجبال الرواسي – الجمادات الصماء التي يُضرب بها المثل في صلابتها وقسوتها تتصدع وتنشق من هيبة كلام باريها سبحانه وتعالى ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر 21]

بل حتى الجن تأثروا بالقرآن لما سمعوه وقالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ [الجن 1] بل صار يستنصطت بعضهم بعضًا متعجبين ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾ [الأحقاف 29].

وإذا كان المؤمنون ظهر أثر القرآن قَشعريرةً على جلودهم فصارت جلودهم تتقبض من تأثير القرآن ﴿ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَٰبًا مُّتَشَٰبِهًا مَّثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾؛ فإن القسس من صالحي أهل الكتاب تأثروا وانبهروا أيضًا بسكينة القرآن؛ فصارت محاجرهم تفيض بالدمع ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ﴾ [المائد83]

          عجيب هذا القرآن.. الجمادات الرواسي تتصدع وصنديد من صناديد الشرك كاد قلبه أن يطير بسببه، والجن تتعجب منه ويستنصت بعضهم بعضًا لسماعه، والملائكة تدنوا من السماء تتلألأ تقرب من قارئ شجي في حرَّاتِ الحجاز يتغنَّى بالليل بسورة البقرة، والأنبياء خرُّوا سجدًا باكين إذا تلي عليهم، ورسول الله حين سمع آيةً تصوِّرُ عرصات القيامة ولحظة الشهادة على الناس يستوقف القارئ وقد غلبه البكاء.

          أيها الأحبة: كتاب هذه منزلته وهذا أثره هل يليق بعاقلٍ أن يُهمله؟

إخوتاه.. لن تكلفنا القضية أكثر من دقائق في يومنا نجعلها حقًّا حصريًا لكتاب الله تعالى نتقلب بين مواعظ أحكامه وأخباره ونتحرك بنبضات إيمانه ونتزكَّى بما يفيض من نور آياته.

          وأخيرا لو نجحنا في تعبئة الشباب المسلم للإقبال على هذا المصحف؛ لتهاوت أمام الشباب المسلم الباحث عن الحق كلُّ الشبهات الفكرية المعاصرة مع أول خَتمةِ تدبرٍ من كتاب الله فالعودَ العودَ إلى كتاب الله.. العودَ العودَ الى المصحف.. هلمُّوا نجعل من القرآن أصلاً.. فأين المشمِّرون؟

          اللهم انفعنا بالقرآن العظيم واجعله لنا إمامًا ورحمة، اللهم ذكِّرنا منه ما نسِّينا وعلمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا يا رب العالمين.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية آمين آمين.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.