سلسلة شعب إيمانية | محبة رسول الله ﷺ ج1 | المقالة السابعة والعشرون| د. محمد فايز عوض 

حقيقتها و لزومها


          أصل المحبة الميل إلى ما يوافق المُحب، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان ويستحسنه؛ كحب الصورة والصوت، والطعام واللباس و البيت و المركب.
وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة؛ كحب الصالحين والعلماء، وأهل الفضل مطلقًا،
وهذه المعاني كلها موجودة في النبي لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال خصال الجلال، وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إيَّاهم إلى الصراط المستقيم، ودوَام النِّعم والإبعاد من الجحيم.
فنحن نتعلق ونرتبط برسول الله من جوانب شتى: 

          في جانب العقل معرفةً وعلمًا، نقرأ ونحفظ سيرته وحديثه، وهديه وسنته، والواجب منها والمندوب منها، ونحو ذلك.

          ومحبةً بالقلب، وهي عاطفة مشبوبة، ومشاعر جيَّاشة، ومحبة متدفقة، وميلٌ عاصف تتعلق به النفس والقلب برسول الله لما فيه من المعاني الحسية والمعنوية.

          ثم محبةٌ بالجوارح تترجم فيها المحبة إلى الاتِّباع لسنته وعمله، وفعله ﷺ؛

فلا يمكن أن نقول: إن المحبة اتِّباعٌ فحسب، فأين مشاعر القلب؟ ولا يصلح أن نقول: إنها الحب والعاطفة الجياشة، فأين صدق الاتِّباع؟ ولا ينفع هذا وهذا! فأين المعرفة والعلم التي يؤسس بها من فقه سيرته وهدْيه وأحواله ؟!

لذا فنحن نرتبط في هذه المحبة بالقلب والنفس، وبالعقل والفكر، وبسائر الجوارح والأحوال والأعمال، فتكمُل حينئذٍ المحبة؛ لتكون هي المحبة الصادقة الخالصة الحقيقية العملية الباطنية، فتكتمل من كل جوانبها؛ لنؤدي بعض حقِّ رسول الله علينا.

وحبُّ المسلم لرسول الله عمل قلبيّ من أجَلِّ أعمال القلوب، وأمر وجداني يجده المسلم في قلبه، وعاطفة طيبة تجيش بها نفسه، وإن تفاوَتت درجة الشعور بهذا الحب؛ تبعًا لقوة الإيمان، أو ضَعفه.

أولاً: حقيقة محبة النبي ومعناها:
          اختلفت عبارات العلماء في بيان حقيقة محبة النبي وتفسيرها:
                    – فقال بعضهم: محبته اتباعه.
                    – وقال بعضهم: محبة الرسول اعتقاد نصرته، والذب عن سنته، والانقياد لها، وهيبة مخالفته.
                    – وقال بعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب.
                    – وقال آخر: المحبة إيثار المحبوب.
                    – وقيل: المحبة الشوق إلى المحبوب.

          – قال القاضي عياض: “أكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها، وحقيقة المحبة: الميل إلى ما يوافق الإنسان”.

          وهذه الموافقة إما أن تكون:
                    – للاستلذاذ بإداركه، كحب الصور الجميلة،
                    – وإما أن تكون للاستلذاذ العقلي، كحب الصالحين والعلماء،
                    – وإما أن تكون من جهة الإحسان والإنعام، 

          وقد اجتمعت هذه الأسباب الموجبة للمحبة كلها في حقه . فقد اجتمع فيه جمالُ الصورة والظاهر، وكمال الأخلاق والباطن، وتمام الإحسان والإنعام، ما لم يحصل لبشر قبله، ولن يكون لبشر بعده، فاستوجب المحبة الحقيقة شرعًا وعادة وجبلة.

ثانيًا: فضل محبة النبي وثوابها:
          1 ـ قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ وَٱلشُّهَدَاء وَٱلصَّـٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69].

          عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل إلى النبي فقال: «يا رسول الله، إنك لأحبُّ إليَّ من نفسي، وأحبُّ إليَّ من أهلي، وأحبُّ إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلتَ الجنة رُفعت مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يردَّ عليه النبيُّ ﷺ حتى نزلت عليه» ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ»

          2ـ وعن أنس بن مالك أن «رجلاً سأل النبي ﷺ عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله ﷺ، فقال: أنت مع من أحببت، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرَحَنا بقول النبي ﷺ: أنت مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحب النبي ﷺ وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم» أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود 

          3ـ وجاء رجل إلى رسول الله فقال: «يا رسول الله، كيف تقول في رجل أحبّ قومًا ولم يلحق بهم، فقال رسول الله ﷺ: المرء مع من أحب» أخرجه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وقال الترمذي: “حسن صحيح”، وصححه ابن خزيمة

          4ـ وعن أبي ذر أنه قال: «يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل كعملهم، قال: أنت ـ يا أبا ذر ـ مع من أحببت قال: فإني أحب الله ورسوله، قال: فإنك مع من أحبت، قال: فأعادها أبو ذر فأعادها رسول الله ﷺ» أخرجه أحمد وأبو داود في الأدب  والدرامي في الرقاق.

          5ـ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار» أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.

          قال النووي: “هذا حديث عظيم، أصل من أصول الإسلام، قال العلماء رحمهم الله: معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في رضا الله عز وجل ورسوله ﷺ، وإيثار ذلك على عرض الدنيا، ومحبة العبد ربه تحصل بفعل طاعته، وترك مخالفته، وكذلك محبة الرسول ﷺ”.

          وقال البيضاوي: “وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانًا لكمال الإيمان؛ لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأن الرسول هو الذي يبين له مراد ربه، اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه، فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب من يحب إلا من أجله، وأن يتيقن أن جملة ما وعد وأوعد حق يقينًا، ويخيل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العود إلى الكفر إلقاء في النار”

          وقال القاضي عياض: “وهذه المعاني كلها موجودة في النبي ، لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال خلال الجلال، وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم، ودوام النعم والإبعاد عن الجحيم”.

ثالثًا: لزوم محبة النبي  ووجوبها:
          قال ابن قدامة المقدسي: “واعلم أن الأمة مجمعة على أن الحب لله ولرسوله فرض”.

          1. قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوٰنُكُمْ وَأَزْوٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـٰكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ [التوبة: 24].

          قال القرطبي: “في الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب”.

          قال القاضي عياض مفسرًا هذه الآية: “كفى بها حضًا وتنبيهًا ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها ، إذ قرّع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحبَّ إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله: ﴿فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ، ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله”.

          2. وقال تعالى: ﴿ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ[الأحزاب: 6].
          قال سهل: من لم ير ولايةَ الرسول عليه في جميع الأحوال وير نفسَه في ملكه لا يذوق حلاوة سنته لأن النبي قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه»

          وقال ابن القيم: “من آثر محبوبه بنفسه فهو بماله أشد إيثارًا… ولا يتم للمؤمنين مقام الإيمان حتى يكون الرسول أحب إليهم من أنفسهم فضلاً عن أبنائهم وآبائهم”.

          3. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين».

          قال ابن حجر: “من علامة الحب المذكور أن يعرض على المرء أن لو خُيِّر بين فَقدِ غرض من أغراضه، أو فقدِ رؤية النبي أن لو كانت ممكنة، فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنةً أشدَّ عليه من فقد شيء من أغراضه فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومن لا فلا، وليس ذلك محصورًا في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصرة سنته والذب عن شريعته وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.

          وقال الحليمي: “أصل هذا الباب أن تقف على مدائح رسول الله والمحاسن الثابتة له في نفسه، ثم على حسن آثاره في دين الله، وما يجب له من الحق على أمته شرعًا وعادة، فمن أحاط بذلك وسَلِم عقلُه علم أنه أحق بالمحبة من الوالد الفاضل في نفسه البَرّ الشفيق على ولده، ومن المعلم الرضي في نفسه المقبلِ على التعليم المجتهدِ في التخريج”.

          4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: «فوَالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده»

          وقال أيضا: “الأحبية المذكورة تعرف بالتفكر… فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة وإما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره؛ لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه، ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم من هذا المعنى أتم؛ لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بها أعلم”.

          قال البيهقي: “ودخل في جملة محبته حب آله، وهم أقرباؤه الذين حرمت عليهم الصدقة، وأوجبت لهم الخمس لمكانهم منه… ويدخل في اسم أهل البيت أزواجه، فعلينا من حفظ حقوقهن بعد ذهابهن بالصلاة عليهن والاستغفار لهن وذكر مدائحهن وحسن الثناء عليهن ما على الأولاد في أمهاتهن اللائي ولدنهم وأكثر، لمكانتهن من رسول الله وزهادة معظمهن على غيرهن من نساء هذه الأمة… ويدخل في جملة حب النبي حب أصحابه لأن الله تعالى أثنى عليهم ومدحهم” [18].

          5. وعن عبد الله بن هشام قال: «كنا مع النبي ﷺ وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي ﷺ: لا ـ والذي نفسي بيده ـ حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن ـ والله ـ لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال النبي ﷺ: الآن يا عمر».

          قال الحافظ ابن حجر: “قوله: «لا ـ والذي نفسي بيده ـ حتى أكون أحب إليك من نفسك» أي: لا يكفي ذلك لبلوغ الرتبة العليا حتى يضاف إليه ما ذكر،
وعن بعض الزهاد: تقدير الكلام: لا تصدُق في حبي حتى تؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه الهلاك”.
وقال أيضا: “جواب عمر أولاً كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والآخرة، فأخبر بما اقتضاه الاختيار، ولذلك حصل الجواب بقوله: ((الآن يا عمر)) أي: الآن عرفت فنطقت بما يجب”.

          قال الحليمي: “وإذا ظهر أن حب رسول الله من الإيمان، وبينَّا ما جمع الله له من المحامد والمحاسن التي هي الدواعي إلى محبته ومحبة اعتقاد مدائحه وفضائله، والاعتراف له بها بالولوع بذكرها وإكثار الصلوات عليه، ولزوم طاعته، والحض على إظهار دعوته، وإقامة شريعته، والتسبب إلى استحقاق شفاعته، وبالفرح بالكون من أمته، ومستجيبي دعوته، وإدمان التلاوة للقرآن الناطق بحجته فمن فعل ما ذكرناه وما يتصل به من أمثاله فقد أحبه”