سلسلة شعب إيمانية | صفات العلماء | المقالة السادسة والثلاثون | الشيخ د. محمد فايز عوض

صفات العلماء

♦ مقدمة:

العلماء هم الواسطة بين الخالق والمخلوقين، المبلّغين عن ربّ العالمين، الذين قُرِنت شهادتهم بشهادة الله عزَّ وجلّ والملائكة المقربين: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:18]، لهذا أُمرت الأمّة بطاعتهم في المعروف، وقُرنت بطاعة الله ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء:59].

وأوجبَ الله على العامّة سؤالهم، والرجوع إليهم في النوازل والتباس الظلم: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل:43].

و هم الذين أعلن الله حربه على المعادين لهم: (من عَادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب) البخاري (6502) ، الذين حفظوا على الأمة معاقد الدّين ومعاقله، وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله، حتى ورد من سبقت له من الله الحسنى تلك المناهل صافية من الأدناس، لم تشبها الآراء تغييرًا، ووردوا فيها عينًا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرًا، وهم الذين قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل في خطبته المشهورة في كتابه: “الحمد لله الذي جعل في كلّ زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم، يَدْعون من ضلّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويُبَصِّرون بنور الله تعالى أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيَوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدَوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تعالى تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلّهم لهم تبعًا، كان صلاح العَالِم بصلاح هاتين الفئتين، وفساده بفسادهما، كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف: صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل: من هم؟، قال: الملوك والعلماء”.

ثم صاغ عبدالله بن المبارك ذلك شعرًا في أبياته التي سارت بها الركبان، وشاعت بين القاصي والداني:

رأيت الذنوبَ تميتُ القلوب     وقد يورث الذلَ إدمانُها

وترك الذنوب حياة القلوب      وخير لنفسك عصيانهـا

وهل أفسد الدّين إلّا الملوك     وأحبار سوء ورهبانها؟!

 ما حقيقة الربانيّة؟ ومن هم العلماء الربانيّون الذين أمر الله الناس أنْ يكونوا هم حيث قال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}[آل عمران:79].

♦ الربّانيون

اختلفت عبارات السّلف في تعريف الربّانيّين مع تقارب معانيها، إليك ملخّصها.

الربانيون واحدهم رباني منسوب إلى الربّ، والرباني الذي يربّي النّاس بصغار العلم قبل كباره. أُثر ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.

الربانيون أرباب العلم، أي: أصحابه، واحدهم ربان، من قولهم: (رَبَّه يَرُبّه)، فهو ربان إذا دبّره وأصلحه. هذا ما ذهب إليه المبرّد.

الرباني: هو العالم الحكيم. وقد أُثر ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه.

الرباني: العالم بالحلال والحرام، والأمر والنهي، العارف بأنباء الأمة، وما كان وما يكون فيها، (يعني الملم بشأنها المهتم بأمرها).

جمعًا بين هذه الأقوال فإنّ الربّانيّ:

هو العالم الذي يكون على ما كان عليه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وصحبه الكرام في العقيدة، والعبادة، والسلوك، والأدب، العامل بعلمه، المتقيّ لربه، الرائد القائد لأمّته، المخالط لها، الصابر على أذاهم، البصير بالسياسة الشرعيّة، وقليلٌ من يجتمع فيه كلّ ذلك كابن عباس رضي الله عنهما، ولهذا عندما مات قال محمد بن الحنفية: “اليوم مات ربانيّ هذه الأمة”.

♦ أهمّ صفات الربانيين:

الأولى: الكون على ما كان عليه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في العقيدة والعبادة والأدب والسلوك:

فعن معاوية -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ألا إنّ منْ قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة) أبو داود (4597).

الثانية: الاشتغال بالعلم الشرعي والحرص على تحصيله، وتلقّيه من المشايخ الأكفاء والعلماء الحكماء:

ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب، ولا يتسنى لأحد أنْ يكون على ما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلاَّ عن طريق العلم الشرعيّ، فالعلم قائد، والعمل تبع له، ولهذا قال عزّ مِن قائل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}[محمد:19].

فالاشتغال بالعلم الشرعيّ، والحرص على تحصيله من مظانّه الأصليّة، ومزاحمة العلماء بالركب من السمات الرئيسة للعلماء الربانيين، حيث لا صلاح لهذه الأمّة إلّا بما صَلُح به أولها.

وعن مالك رحمه الله: “لا ينبغي لأحد يكون عنده علم، أنْ يترك التعلّم”.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “منهومان لا تنقضي نهمتهما: طالب علم وطالب دنيا”،

وسُئل ابن عيينة رحمه الله: مَن أحوج النّاس لطلب العلم؟، قال: “أعلمهم، لأنّ الخطأ منه أقبح”

فالإمامة في الدين لا تُنال بالتمنّي وإنَّما بالصبر واليقين، ومن أهمّ مقومات الإمامة في الدين: الرسوخ في العلم، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}[الأنبياء:73].

وكذلك ما كان لابن عباس -رضي الله عنهما- أنْ يُلقّب بِحَبر هذه الأمة، وتُرجمان القرآن، وربانيّ هذه الأمة بعد دعاء الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- له بذلك لولا حِرصه ومداومته على طلب العلم: (بلسان سؤول).

الثالثة: الصدق، والإخلاص، والتجرّد لله عزّ وجلّ:

من صفات عباد الله المتقين والعلماء الربانيين، الصدق والإخلاص والتجرّد لله عزّ وجلّ كما أمر الله عباده بذلك: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27]، فمن أحبّ أنْ يتقبّل الله عمله، ويبارك في جهده، وينفع بعلمه، فعليه أنْ يبتغي بعلمه وعمله وسائر تصرفاته وجه الله عزّ وجلّ.

لقد جعل الله لقبول العمل علامتين، ميزان ظاهر وهو: موافقة السنة، وآخر باطن وهو: الصدق والإخلاص، ومن جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم: (إنّما الأعمال بالنيات)، ولهذا عندما سُئل عن الرجل يقاتل حميّة ويقاتل ليرى مكانه في الصف، أيُّ ذلك في سبيل الله؟، قال كلمة جامعة مانعة: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) البخاري (123) ومسلم (1904) .

وقد أُثر عن الفُضيل بن عياض -رحمه الله- أنّه قال في تأويل قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الملك:2]: “أصدقه وأصوبه، قيل له: ما أصدقه وأصوبه؟، قال: أنْ يكون العمل خالصًا لله عزّ وجلّ، وموافقًا لسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم”، .

الرابعة: الخشية والخوف من الله عزّ وجلّ:

من خشي الله عزّ وجلّ حقّ الخشية، وخافه ولم يخف أحدًا سواه، هو العالم بحكم الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}[فاطر:28]، ومن لم يخفه ويخشه فهو ليس بعالم.

فالخشية والخوف من الله عزّ وجلّ من أهمّ صفات العلماء الربانيين.

قال الربيع بن أنس: “من لم يخش الله تعالى ليس بعالم”.

وقال مجاهد: “إنّما العالم مَن خشي الله عزّ وجلّ”، وعنه كذلك: “إنّما الفقيه من يخاف الله عزّ وجلّ”.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “كفى بخشية الله تعالى عِلمًا، وبالاغترار جهلًا”.

وقيل لسعد بن إبراهيم: مَن أفقه أهل المدينة؟ قال: “أتقاهم لربه عزّ وجلّ”.

المراد بالخشية: العلم الصادق، واليقين الكامل بقدرة الله عزّ وجلّ والحذر، والخوف من عقابه.

جاء في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}: “يعني بالعلماء الذين يخافون قدرته، فمن عَلم أنّ الله عزّ وجلّ قدير، أيقن بمعاقبته على المعصية”، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: “الذين علموا أنّ الله على كلّ شيء قدير”. ونادت امرأة الإمام الشعبي -رحمه الله- قائلة: أيّها العالم، فقال لها: أنا لست بعالم، إنّما العالم من يخشى الله ويتقيه.

فالخوف من الله عزّ وجلّ ومن سطوته، هو الذي جعل عمر رضي الله عنه -مع سابقته وفضله وعدله- عندما حضرته الوفاة أنْ يتمنى أنْ لا يكون له ولا عليه شيء، وقد قال: “ليتني كنت شعرة في صدر أبي بكر رضي الله عنه”.

والخوف من الله عزّ وجلّ هو الذي جعل كثيرًا من الصحابة والتابعين يخشون على أنفسهم النفاق، وقد قال عمر -رضي الله عنه- لحذيفة أمين سِرّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في المنافقين: ناشدتك بالله، هل سمّاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم؟ فقال له: لا.

ولذات السبب قال ابن مُلَيكة رحمه الله: “أدركتُ مائة وعشرين من أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كلٌّ يخشى على نفسه النفاق”.

وأيضًا فإنّ الخوف والخشية من الله عزّ وجلّ هو الذي جعل كثيرًا من السلف الصالح يتدافعون الإمامة في الصلاة، والقضاء، والأمانات، وغيرها.

 جعلنا الله من العلماء العاملين الربانيين لنحظى بالأجر العظيم و الثواب الجزيل.