سلسلة توجيهية لطلبة العلم |المقالة الرابعة | طالب العلم والملائكة | الشيخ د. باسم عيتاني

طالب العلم والملائكة

♦ البعد الثالث:

قد يظن قارئ الحديث الشريف الذي نحن بصدده يتمحور في معاناة الصحابيين الجليلين أبي بكر وحنظلة رضي الله عنهما، ولكن عند التوسع في البحث يجد أنه ورد ذلك عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم يشكون هذه المعاناة بسبب خوفهم من الله ومراقبة أنفسهم بدقة ورقة قلوبهم، فقد روى الصحابي أبو هريرة رضي الله عنه (وهو من رواد العلم المتقدمين في جمع الروايات عن سيد الخلق ﷺ) أنه قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا لَنَا إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ رَقَّتْ قُلُوبُنَا، وَزَهِدْنَا فِي الدُّنْيَا، وَكُنَّا مِنْ أَهْلِ الآخِرَةِ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ فَآنَسْنَا أَهَالِينَا، وَشَمَمْنَا أَوْلَادَنَا أَنْكَرْنَا أَنْفُسَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ إِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ عِنْدِي كُنْتُمْ عَلَى حَالِكُمْ ذَلِكَ لَزَارَتْكُمُ المَلَائِكَةُ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ كَيْ يُذْنِبُوا فَيَغْفِرَ لَهُم”

وروى الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه ( وهو من رواد العلم وهو ممن لازم الرسول في خدمته ويعتبر من أهم نقلة الحديث الشريف) أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ، فَحَدَّثْتَنَا رَقَّتْ قُلُوبُنَا، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَفَعَلْنَا وَفَعَلْنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ لَوْ تَدُومُونَ عَلَيْهَا لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ”

♦ البعد الرابع:

خطاب الرسول ﷺ في هذا النص لا يقتصر على الصحابة فقط، بل يتعدى ذلك إلى كل من رقت قلوبهم بسبب الوعظ الذي له تأثير عجيب على النفوس وبسبب التذكير الذي له نفوذ إلى القلوب وداوموا على هذه الحال، فإن الملائكة تدنو منهم فيستشعرون بروحانية عالية مما يؤدي إلى رؤية الملائكة عياناً. وذكر المصافحة بالنص النبوي الشريف تدلل على ذلك، فالمرء لا يصافح إلا من يراه، فتتمثل الملائكة عليهم السلام بصورة بشر كما ورد ذلك في النصوص. وعرض صورة المصافحة في الحديث الشريف هي تعبير عال عن السلام والمحبة والرضا من جهة ملائكة الرحمة لمن تصافحه، فهو باب ضرب مثال في هذه الصورة لا حصر الموضوع فيها، لأن رؤية الملائكة من قبل الصحابة كان متنوعاً في صوره.

إن مشاهدات الصحابة رضي الله عنهم الله  للملائكة كثيرة ، ونذكر عدة نماذج:

♦ النموذج الأول:

بَيْنَمَا نَحْنُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ. شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ. لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ. وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ. حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ. وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ. وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ. وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ. وَتَصُومَ رَمَضَانَ. وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا” قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ. يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ: “أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ. وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ” قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ: “أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ”. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ: “مَا المسؤول عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ” قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا.قَالَ: “أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا. وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ، يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ”. قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ. فَلَبِثْتُ مَلِيًّا. ثُمَّ قَالَ لِي: “يَا عُمَرُ! أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ ” قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: “فَإِنَّهُ جبريل أتاكم يعلمكم دينكم”

اللمعة التوجيهية المهمة في موضوعنا أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ( هو رائد في العلم مميز مذ شبابه ومن علماء الصحابة الذين أكثروا رواية الحديث عن رسول الله وهو من المكثرين في الفتوى أي من مجتهدي الصحابة) روى هذا الحديث عن أبيه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي سرد المشهد العظيم في سؤال جبريل عليه السلام الذي تمثل بصورة إنسان لا يعرفه أحد من الحاضرين، فهو يسأل ورسول الله ﷺ يجيب ومن ثم أخبرهم أن جبريل جاء ليعلمهم دينهم. وجبريل رئيس الملائكة عليهم السلام حضر بذاته في مجلس علم ليشير بأن محط الملائكة في مواقع مجالس طلب العلم. وقد استنتج كثير من العلماء أدبيات العالم والمتعلم من خلال هذا النص المبارك.