سلسلة تربية الأولاد في الإسلام| المحاضرة الثالثة والثلاثون| تربية الأولاد على محبة اللغة العربية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا، وزدنا علماً ينفعنا.

وبعد:

نحن اليوم نتابع المسؤولية العلمية والفكرية والعقلية التي ينبغي على المربين مراعاتها، وسنخصص اليوم الحديث لنوع من التربية قد يستغرب بعض المربين إلحاقها بتربية الأولاد؛ ظنَّاً منهم أن تربية الأولاد تقتصر على معانٍ مخصوصةٍ، كالتربية على الصدق والأمانة، وغيرها من أمهات الفضائل وحب الصلاة و….

الحقيقة يجب على المربين الرُّقِيَ في تربية الولد للمستوى الأفضل من كل الزوايا والنواحي، فالإسلام ماترك زاويةً من الزوايا التي تخدم موضوع التربية، إلا وتطرَّق لها بالإرشاد والتوجيه.

ونحن إذ نتكلم عن مسؤولية التربية العلمية، سنتكلم عن جزئيةٍ خاصةٍ ألا وهي:

كيف نربي أولادنا على محبة اللغة العربية؟

بعض الناس يظن أن ميدان تعلم العربية يقتصر على المدارس والجامعات فقط، وأن التحدُّثَ بالعربية يكون فقط في المحافل الخاصة والمؤتمرات، والبرامج الإذاعية وماشابهها، أما تربية الأولاد على على حبِّ العربية وتعلمها، فلا علاقة له بالتربية.

لقد روي عن سيدنا عمر بن الخطاب قوله: “تعلَّموا العربية فإنَّ تعلمها من دينكم”[1].

السبب أن اللغة العربية هي شيءٌ هامٌ في حياة المسلم، وإن إهمال تعليمها للناشئة، بل للكبار؛ نشأ عنه مشاكل نحدد أهمها:

1- صعوبة نطق القرآن الكريم الذي هو دستور الأمة، ومصدر عزتها.

2- نشأ عن جهل العربية حاجزٌ بين القرآن، وتدبُّر معانيه.

3- جهل العربية افتقدنا معه العزَّةَ بلغة القرآن، وانتقل الاعتزاز للغات الأخرى الوافدة علينا، وأصبح تعلُّمُ الإنكليزية مثلاً مصدر فخرٍ واعتزازٍ، ورفعةِ مكانة، بعكس تعلم العربية فإنه لايُؤْبَه بتعلمها؛ بل صار من يتكلم العربية الفصحى مجال السخرية والاستهزاء، وصار من يتقن غير اللغة العربية دليلَ التحضُّرِ، ورِفْعَةِ المكانة.

4- جهل العربية نشأ عنه انقطاع العربي عن تاريخه العربي الذي هو بأغلبيته إسلامي؛ فنشأ عن ذلك افتقاد الاعتزاز بتاريخ الأمة ومجدها؛ فانفصل بسبب ذلك عن آداب هذه الأمة، ومناهجها في الحياة. ولايدرك هذه المعاني إلا الإنسان الواعي، والمربي الحاذِق المدرِك لعواقب الأمور، وخطر هذه القضايا.

5- حصل بسبب الجهل بالعربية إنفصالٌ كلي عن الكتب العلمية، والإسلامية؛ فلم يعد المسلم يستفيد من القرآن الكريم والحديث الشريف، وكتب الفقه؛ لأن ضعفه بالعربية حال دون ذلك.

مهمة:

أ- الأمة المسلمة اليوم تعاني من فقد الهُوِية، وذوبان الشخصية. وإن تعلم العربية جزءٌ من إعادة الشخصية، والانتماء المفقودين.

ب- لماذا علَّمْتَ ولدَكَ الإنكليزية، وأهملت لغة القرآن الكريم؟ لِمَ لَمْ تُعَلِّم ولدَك حُسْنَ النطق بالحروف العربية؟ لِمَ لَمْ تُعلم ولدك صحَّةَ كتابة الكلمات العربية – عِلْمُ الإملاء –  وحسن الخط بها مع صحة النطق؟

ج- مايزال كثيرٌ من الناس إلى الآن يجهلون أن الخطأ في تغيير نطق الحروف، بتغيير نطقها من مخارجها؛ له أثره الكبير على تغيير المعاني. فـحرف الثاء مثلاً غير حرف السين، فلو قلنا: (ثُمَّ أمَّكَ) غير (سُمَّ أُمَّكَ) لأنه يعني ضع السُّمَّ لها، فتغيير نُطْقِ حرفِ الثاءِ للسين؛ نشأ عنه معنى مختلف تماماً. ألا يدفعنا هذا لتعليم أولادنا نطق الحروف بشكل صحيح؟

د- هناك غزوٌ طرأ على أمتنا، ومايزال مستمراً؛ لتمزيق شمل هذه الأمة، وبترها عن محيطها الإسلامي، بل والعربي؛ من خلال اللغة العربية. فالعربي المَغَاربي لا يفهم على العربي المَشْرقي لو تكلم كل واحد منهما بلهجته العامية، في حين لو تكلَّمَا بالعربية الفصحى؛ لاستطاع كلٌّ منهما فهمَ الآخر، فاللغة العربية سببٌ في جمع العرب، وهذا مالا يريده أعداؤنا، فانفصل أعضاء الوطن الواحد عندما اسْـتَأْثَر كل قُطْرٍ بعاميته وإقليمه، وهذا عَيْنُ مايريده أعداؤنا؛ فهم لايريدون أن يجتمع العرب على لغة القرآن، وفصاحة القرآن، في حين لو ذهبت مثلا لدول شرق آسيا لشعرت بالانتماء لأهل هذه البلاد مع أن العربية ليست هي لغتها الأم، ولكنك عندما تسمع القرآن يُقْرَأُ غضَّاً طرياً كما يقرأه العرب في مكة والشام والمدينة، تشعر أن هناك رابطاً يجمعك مع غير الناطقين بالعربية؛ فتنتمي لهم وينتمون لك، وتشعر بصلة القربى بينك وبينهم، وهذا مالا يريده أعداؤنا؛ فهم يسعون لقطع الصلة بين أبناء الدين الواحد، من خلال بَتْرِ الصِّلَة التي تجمعنا معهم، وهي لغة القرآن، فيعيش كلٌ في حدود إقليمه، ولا يأبه لمصاب إخوانه في قطرٍ آخر، وتغيب معاني: {إنما المؤمنون إخوة}، ويغيب معنى أمَّة الجسد الواحد.

ز- لقد نظر أبو الأسود الدؤلي[2] إلى اللحن في لغة العرب على أنه كارثة، ونازلة تحتاج لحل عاجل، وهذا ما دعاه للذهاب لأمير المؤمنين سيدنا علي؛ ليطرح عليه المشكلة فقد قيل: إن ابنة أبي الأسود الدؤلي جاءت إلى والدها في ليلة قمراء صافية تقول: ما أجملُ السماءَ يا أبتي.. برفع حرف اللام في ((أجملُ)) فقال لها: نُجُومُها المتلألئة أو قمرُها المنير.. قالت: ما أردت أن أسأل عن شيءٍ جميلٍ فيها.. ولكني أردت التعجُّبَ من صفاء السماء. قال أبو الأسود الدؤلي لابنته: وا بنتاه.. إذا أردت أن تتعجبي فافتحي فاك وقولي: ((ما أجملَ)) بفتح حرف اللام. وفي صباح اليوم التالي ذهب أبو الأسود الدؤلي إلى سيدنا علي رضي الله عنه، وطلب منه السماح له بوضع قواعدَ أساسية تعين على ضبط الألفاظ.. فكتب سيدنا علي رضي الله عنه ورقة في النحو، وقال لأبي الأسود الدؤلي: ((أُنْحُ)) نَحْوَهَا ـ أي سِرْ على هُدَاهَا ـ ومن تلك اللحظة أصبح هذا العلم يسمى بـ ((علم النحو)).

ف- كثير من أبنائنا يكرهون العربية، ويَجِدُون صعوبةً بالغةً في تعلم قواعدها مع أنها لغتهم الأم التي نشأوا فيها؛ والسبب يعود إلى أننا أدخلنا أبناءنا على تعلُّم قواعد العربية دون أن نمهِّدَ لهم بأي ثقافة عنها؛ فهم لا يحفظون شيئاً من الكلمات، والجمل العربية الفصيحة. ففي المدرسة يتكلمون العامية، وبرامج الأطفال بالعامية، وفي البيت بالعامية، حتى الأناشيد بالعامية. فأنَّى لهم أن يفهموا قواعد الفعل، والفاعل، والمفعول به، وغيرها من القواعد؟

ص- مالذي يمنع أن نَتَخَيَّرَ لأبنائنا شيئاً من حِكَمِ العرب، وأشعارها ذات الإيقاع البسيط الذي يَسْهُلُ على الطفل النطق به وحفظُه. فما أجمل أن يحفظ أطفالنا أمثال هذه الكلمات ذات المعاني الجميلة، والخفيفة التي تروى عن سيدنا علي رضي الله عنه[3] فقد كان يُعْجِبه أحدُ الفِتْيَان فرآه يوماً يُماشِي رجلاً مُتَّهماً فقال له:

فلا تَصْحَبْ أَخَا الجهل وإيَّاكَ وإيَّاهُ

فكم مِنْ جاهل أَرْدَى حليماً حين آخَاهُ

يُقاسُ المرءُ بالمرءِ إذا مالمرءُ مَاشَاهُ

وللشَّيءِ على الشَّيءِ مقاييسٌ وأشباهُ

وللقلبِ على القلبِ دليلٌ حين يلقاهُ

 

ض- السبب في إحجام أبناءنا عن تعلم العربية؛ هو أنهم لايملكون الدافع لتعلُّمها، فهم يقولون: لِمَ أتعلم العربية، وأنا لا أريد أن أصبح شاعراً ولا كاتباً، بل طبيباً؟

 فهم لايشعرون بالفائدة من تعلمها؛ فنحن في نظرهم  نطلب منهم تعلُّمَ لغةٍ لايُتَكَلَّمُ بها ولايكتب بها ولا يشعرون أنها ترفع مستواهم المادي، والاجتماعي، والعلمي. فليس لها أي أهميةٍ في حياتهم، فهم يشعرون بعبئها فقط؛ لأنها مادةٌ مرسِّبَةٌ في المدرسة.

س- الأسلوب الخاطئ في تعليم العربية أفْقَدَ الصلة بين أبنائنا والعربية.

ش- التساهُلُ، وترك تعليم الأطفال العربية هو قَطْعُهُم عن أسلافهم، وبقدر متانة العلاقة بيننا وبين أسلافنا يكون السير على الطريق صحيحاً.

كيف نجعل أبناءنا يميلون لحبِّ العربية وتعلُّمِهَا؟

أولاً: أن نبدأ بتحفيظ الأولاد القرآن من الصغر، وتعليم حروفه مع النطق الصحيح، فالقرآن كله عربيٌ فصيحٌ؛ فيسمع الطفل نُطق الكلمات بشكل سليم.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنه: ماينبغي التساهل مع الطفل في نُطْقه الخاطئ للحروف، بل لابد من متابعته بشكلٍ مستمرٍّ حتى يصل للنطق السليم؛ لهذا نلحظ أن كثيراً من الكبار لا يجيد نطق سورة الفاتحة بشكلٍ صحيحٍ؛ والسبب يعود إلى أنه لم يتعلم قراءتها بشكلٍ صحيحٍ في الصغر؛ فانسحب للكبر. فالنطق الصحيح في الصِّغَر يُسَهِّلُ تعلم النطق الصحيح للحروف في الكبر، وكذلك ينسحب الكلام على تعلُّم وتطبيق أحكام التجويد أثناء قراءة القرآن.

ثانياً: تحفيظ الأطفال أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخصوصاً جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ فيتملك الطفل رصيداً وزاداً من الكلمات العربية الفصيحة، وعند ذلك عندما أبدأُ بتعليم الطفل قواعد العربية؛ إنما أعلِّمُه السَّبَبَ في نطق الفاعل مرفوعاً والمفعول منصوباً، أي أُعَلِّلُ له سببَ النطق.

ثالثاً: نرسخ في أذهان أبنائنا أن تعلم العربية عبادةٌ نتقرب بها لربنا؛ لأنها تساعدنا على فهم لغة القرآن؛ فهي لغةُ أهل الجنة[4]
وسلف الأمة.

رابعاً: يجب أن يَعْلَمَ أبناؤنا أن المشايخ للآن يعلِّمُون قواعد العربية من نحوٍ وصرفٍ في المساجد، ودون مقابل، وما هذا إلا لأنهم يعتبرون تعلم العربية جزءاً من تعليم القرآن والحديث، وتفسير معانيهما.

خامساً: أن يَرْسَخَ في أذهان الناشئة أنَّ سِرَّ عداء أعدائنا للغة العربية يرجع لعدائهم للقرآن .

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

____________

[1]: البيهقي في شعب الإيمان (2/257)، الخطابي في غريب الحديث(1/60).

[2]: أبو الأسود الدؤلي هو:  ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي من سادات التابعين وأعيانهم وفقهائهم وشعرائهم وهو عالم وضع علم النحو في اللغة العربية وشكَّل أحرف المصحف، وضع النقاط على الأحرف العربية بأمر من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

[3]: حديث موقوف (64) روضة العقلاء لابن حبان.

[4] :ذكر ذلك ابن كثير في تفسير قوله تعالى {بلسانٍ عربي مبين} [الشعراء 195]، وذكر ذلك ابن القيم في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، أما الأحاديث المرفوعة فلا تخلوا من مقال.