سلسلة الأربعون الرمضانيَّة | المقالة الثانية عشرة | د. محمود مصري



 

            • الباب الثالث: اغتنام رمضان

 

        •  1: رمضان فرصة للتطهير

        • عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنَّ رسُول الله قال: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» مُسلمٌ [1].

 هذا الحديث الشريف يحثّ المؤمن على اغتنام شهر الصيام، من جهة ما يكون في هذا الشهر المبارك من تكفيرٍ للسيّئات. وقد بيّن لنا الحديث عبادات أخرى يجب اغتنامها لتكفير ما يقع من الإنسان من الصغائر بشكل دائم على مدى يومه وأسبوعه وسنته، وهي الصلوات الخمس وصلاة الجمعة.

– قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: “فَإِنَّ فِي حَبْسِ النَّفْسِ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْفَرَائِضِ مِنْ مُخَالَفَةِ هَوَاهَا وَكَفِّهَا عَمَّا تَمِيلُ إِلَيْهِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَكْفِيرَ الصَّغَائِرِ” [2].

– قال ابن علّان: “لأن كلًّا من الجمعة ورمضان لما كان محل الأفعال الحسنة صار كأنّه حسنة مكفِّرة” [3].

والتقييد في الحديث بقوله: «ذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» يفيد أن المقصود بالتكفير هو الصغائر، والكبائر إنما تكفَّر بالتوبة. ويؤيّد ذلك قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ[النساء: 31]، أي الصغائر بالصلاة والصوم والحج وأداء الفرائض، وإن لم تجتنبوا الكبائر ولم تتوبوا منها، لم تنتفعوا بتكفير الصغائر [4].

 

      •  ولكن إذا لم يتب من الكبائر فهل تكفّر الصغائر؟

هناك قولان حكاهما ابن عطية في تفسيره.

  • الأول: إن اجتناب الكبائر شرط لتكفير الفرائض، فإن لم تُجتنب لم تكفَّر الصغائر.
  • والثاني: إنها تكفّر مطلقًا، ولا تكفّر الكبائر إن وجدت، ولكن بشرط التوبة من الصغائر وعمد الإصرار عليها، وذلك أن الإصرار عليها من الكبائر، وحكاه عن الحذَّاق [5].
    – قال ابن رجب الحنبلي: “والصحيح الذي ذهب إليه كثير من العلماء، ورجَّحه ابن عطية، وحكاه عن الحذاق: أن ذلك ليس بشرط، وأن الصلوات تكفِّر الصغائر مطلقًا إذا لم يصرّ عليها، فإنها بالإصرار عليها تصير من الكبائر” [6].

ومن الصغائر التي تكفَّر في الصوم وغيره ما يهمّ الإنسان من أمور الدنيا المتعلّقة بالأهل والمال والولد، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ، وَالصَّلَاةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» [7].

 

أما حقوق العباد فلا تكفِّرها هذه المذكورات في الحديث كما قال العلماء.

– قال ابن العربي رحمه الله: “وهذا التكفير إنما هو للذنوب المتعلِّقة بحقوق الله سبحانه وتعالى، فأما المتعلِّقة بحقوق الآدميين فإنما يقع النظر فيها بالمقاصَّة مع الحسنات والسيئات” [8].

 

      • لكن هل من المحتمل أن تكفَّر الكبائر بالمذكورات في الحديث، وإذا كان كذلك فما الذي يجعلها تكفِّر الكبائر؟

– قال القرطبي: “لا بُعدَ في أن يكون بعض الأشخاص تُغفَر له الكبائر والصغائر بحسب ما يحضره من الإخلاص ويراعيه من الإحسان والآداب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”.

– قال ابن علّان: “وقد سبق إلى ذلك ابن العربي وجزم به فقال: “لو وقعت الطهارة باطنًا بتطهير القلب عن أوصاب المعصية، وظاهرًا باستعمال الماء على الجوارح بشرط الشرع، واقترنت به صلاةٌ جرّد فيها القلب عن علائق الدنيا وطرح الخواطر، واجتمع الفكر على آخر العبادة كما انعقد عليه إحرامها، واستمرّ الحال حتى خرج بالتسليم عنها، فإن الكبائر تغفَر، وكذلك كان وضوء السلف”. قال ابن علّان: “والذي عليه جمهور العلماء أن صالح العمل لا يكفِّر الكبائر إنما يكفِّرها التوبة أو فضل الله تعالى” [9].

 

      • وقد يتبادر هنا سؤال إلى الذهن: إذا حصل التكفير بواحدة من هذه المذكورات في الحديث، فماذا تفيد المذكورات الأخرى، وقد حصل المطلوب؟

– أجاب الإمام النووي على هذا السؤال فقال: “وَالْجَوَابُ مَا أَجَابَهُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ صَالِحٌ لِلتَّكْفِيرِ، فَإِنْ وَجَدَ مَا يُكَفِّرُهُ مِنَ الصَّغَائِرِ كَفَّرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً كُتِبَتْ بِهِ حَسَنَاتٌ وَرُفِعَتْ بِهِ دَرَجَاتٌ، وَإِنْ صَادَفَتْ كَبِيرَةً أَوْ كَبَائِرَ وَلَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً رَجَوْنَا أَنْ يُخَفِّفَ مِنَ الْكَبَائِرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ” [10].

 

      • وثمَّة سؤال آخر يتبادر إلى الذهن: إذا كفِّرت الذنوب فهل تنقلب السيّئات حسنات؟

– وقد أجاب الحافظ ابن رجب الحنبلي على هذا السؤال فقال: “وَأَمَّا مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ بِبَعْضِ الْأَعْمَالِ مَعَ تَوْفِيرِ أَجْرِهَا وَثَوَابِهَا، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي الذِّكْرِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ تُكْتَبُ حَسَنَاتٍ أَيْضًا.. وقد ذكرنا أيضا عن بعض السَّلَفِ أَنَّهُ يُمْحَى بِإِزَاءِ السَّيِّئَةِ الْوَاحِدَةِ ضِعْفٌ وَاحِدٌ مِنْ أَضْعَافِ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ، وَتَبْقَى لَهُ تِسْعُ حَسَنَاتٍ” [11].

 

ومن المكفِّرات الواردة في الحديث الصلاة، التي أكرم الله تعالى بها عباده خمس مرّات في اليوم لتذكّرهم بالله على مدى يومهم، ويكفّر الله بها خطاياهم. فعن رسول الله ، قال: «مَا مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا، إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوب،ِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ»  [12].وهذا تيسير عجيب مستمرّ من الحقّ سبحانه وتعالى لتكفير الذنوب، على العاقل اغتنامه ليتطهّر منها قبل موته، فيصلح لمجاورة الحقّ في دار كرامته، ويتأهّل لهذا المقام العظيم.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، مَا تَقُولُ: ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟ قَالُوا: لاَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا، قَالَ: فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطَايَا» [13].

– قال العلامة ابن رجب الحنبلي: “وقد ذكر البخاري في تبويبه عليه أن صلاتهن في وقتهن شرط لتكفير الخطايا، وأخذ ذلك من قول النبي ﷺ: «يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا»، وهذا يدلّ على تفريق الصلوات خمس مرار في كل يوم وليلة، ومن جمع بينهما في وقت واحد أو في وقتين أو ثلاثة لغير عذر لم يحصل منه هذا التفريق، ولا تكرير الاغتسال، وهو بمنزلة من اغتسل مرة أو مرتين أو ثلاثًا [14].

 

ومن المكفِّرات الواردة في الحديث أيضًا أداء صلاة الجمعة من كلّ أسبوع.

فعن سلمان الفارسي رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ : «أَتَدْرِي مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟ قُلْتُ: هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي جَمَعَ اللهُ فِيهِ أَبَاكُمْ، قَالَ: لَكِنِّي أَدْرِي مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ، لَا يَتَطَهَّرُ الرَّجُلُ فَيُحْسِنُ طُهُورَهُ، ثُمَّ يَأْتِي الْجُمُعَةَ، فَيُنْصِتُ حَتَّى يَقْضِيَ الْإِمَامُ صَلَاتَهُ، إِلَّا كَانَ كَفَّارَةً لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، مَا اجْتُنِبَتِ الْمَقْتَلَةُ» [15].

نسأل الله تعالى أن يشملنا مع من تكفَّر ذنوبهم في هذا الشهر المبارك الكريم، منًّا منه وفضلًا وتكرُّمًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مسلم في الصيام (بَابُ الْصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعُةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانِ إِلَى رَمَضَانَ مُكفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ) 1/ 209.

[2] جامع العلوم والحكم 1/ 444.

[3] دليل الفالحين 6/ 618.

[4] انظر شرح ابن ماجه لمغلطاي 45.

[5] انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي 1/ 426.

[6] فتح الباري لابن رجب 4/ 223.

[7] البخاري في مواقيت الصلاة (بَابٌ الصَّلاَةُ كَفَّارَةٌ) 1/ 111، ومسلم في الفتم وأشراط الساعة (بَابٌ فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ) 4/ 2218.

[8] قوت المغتذي على جامع الترمذي 1/ 35.

[9] دليل الفالحين 2/ 370، 371.

[[10] شرح النووي على مسلم 3/ 113.

[11] جامع العلوم والحكم 1/ 445.

[12] مسلم في الطهارة (بَابُ فَضْلِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ عَقِبَهُ) 1/ 203.

[13] البخاري في مواقيت الصلاة (بَابٌ: الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ كَفَّارَةٌ) 1/ 112.

[14] فتح الباري لابن رجب 4/ 223.

[15] مسند أحمد 39/ 123.