سلسلة الأربعون الرمضانيَّة | المقالة السابعة والعشرون | د. محمود مصري

 

 

                • الباب السادس: من أحكام الصيام

 

        • 1- إثبات الشهر:
        • عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال النبيُّ ﷺ، أو قال: قال أبو القاسم ﷺ:«صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ» متفق عليه. [1]

هذا الحديث الشريف يحدِّد لنا توقيت بدء الصوم، وتوقيت الفطر، ويربطه برؤية الهلال، كما يبيّن التوقيت حال عدم وضوح الرؤية. 

ومعنى «غُبِّيَ»: خفي. وهذه الرواية «فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ» تفسِّر لنا رواية الصحيحين: «فاقدروا له»، أي أن يُعتبر الشهر ثلاثين عند وجود ما يحول دون رؤية الهلال. وهو مذهب الجمهور بخلاف الحنبلية الذين حملوا قوله: «فاقدروا له» على: ضيِّقوا له العدد، أي احتسبوا شعبان تسعًا وعشرين، فيُطلب هنا صيام يوم الشكّ، الذي هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا لم يُر الهلال في ليلته لغيم أو نحوه، فيُحتمل أن يكون من رمضان وأن يكون من شعبان. لكن هذه الرواية «فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ» واضحة في أن المراد التقدير، وليس التضييق. ويدلّ على ذلك حديث عمّار بن ياسر قال: (من صام اليوم الذي يُشَّك فيه فقد عصى أبا القاسم) [2]، الذي حمله الحنابلة على حالة الصحو. [3]

ويتركّب على هذا الحديث قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ[البقرة: 189]، أُخِذَ “الهلال” من استهلال النّاس برفع أصواتهم عند رؤيته، و”المواقيت” هي مقادير الأوقات لعبادتهم وحَجِّهم. [4]

 

قوله: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» محمولٌ على العادَةِ بمشاهدة الشّهر، وهي رؤية الهلال. وليس المراد تعليق الصوم بالرؤية في حقّ كلّ واحد؛ بل المراد بذلك رؤية بعضهم، فالمعنى: إذا وجِدت الرؤية بينكم فصوموا.. أي يجب الصوم على الجميع برؤية البعض، وهذا يدلّ على أنه يُلزَم أهل كلّ بلد أن يصوموا برؤية أهل بلد آخر، وهو مذهب الجمهور.

– قال ابن عابدين: “لتعلُّق الخطاب عامًّا بمطلق الرؤية” في حديث «صوموا لرؤيته».

– وقال الشافعية: إنه يُعتبَر اختلاف المطالع، فلا يجب على أهل كلّ أفق الصوم إلا بثبوت رؤية الهلال في أفقهم، واستدلّوا بقوله: «إذا رأيتموه فصوموا»، فقالوا: هو خطاب لأناس مخصوصين به.

– قال الشيخ نور الدين عتر رحمه الله: “لكن لا يخفى أنه بعد أن اتفقوا على اعتبار رؤية الواحد والاثنين رؤية للجماعة، فقد دلّ على عدم خصوص الصوم، بل إنه يعمّ جميع الناس، وذلك صريح حديث «صوموا لرؤيته». [5]

 

ثم إن قوله ﷺ: «صوموا لرؤيته» يدلّ على أن الرؤية بالعين أو الأجهزة المساعدة هي الأصل في إثبات الأهلّة، والحساب هو قرينة اعتبرها بعضهم مطلقًا، كارتباط أوقات الصلاة بالساعة، لا سيّما بعد تطوّر الحساب ودقّته اليوم، وبعضهم أنكر القرينة (الحساب) مطلقًا، وبعضهم توسّط فاعتمد الحساب في الدفع دون الاستحقاق، فإذا ثبت بالحساب عدم إمكانية الرؤية فلا تقبل الشهادة بالرؤية، وإذا قالوا إنه ولد ويمكن رؤيته، فلا يقتضي الإثبات؛ لأن الإمكان ليس مقتضيًا للوقوع.

وقد حمل التابعي الكبير مطرِّف بن عبد الله وأبو العباس بن سريج الفقيه الشافعي وابن قتيبة وآخرون، حملوا «فاقدروا له» على: قدِّروه بحسب المنازل. والجمهور على أن المقصود بها: (فأكملوا العدّة ثلاثين)، كما بيَّنت الروايات الصحيحة.

لكن الإمام أبا العباس بن سريج لم يحمل إحدى الروايتين على الأخرى؛ بل نقل عنه ابن العربي أن قوله: «فاقدروا له»: خطاب لمن خصّه الله بهذا العلم، وأن قوله: «أكملوا العدّة» خطاب للعامّة. [6]

وذلك أن الفتوى ربّما تختلف باختلاف الزمان والمكان، فهذه الأمّة اليوم خرجت عن أمّيتها بتوفر أدقّ المعلومات الحسابية الفلكيّة، التي تعتمد على مراصد فلكية وأجهزة تقنية غاية في الجودة متوفّرة في أنحاء العالم. وقد ذهب إلى إثبات الهلال بالحساب الفلكي فقهاء كبار معاصرون، كالشيخ مصطفى الزّرقا رحمه الله.

 

      • وثمّة سؤال يتبادر هنا، وهو: هل تُقبَل شهادة الواحد لإثبات الهلال، أو لا بدّ من اثنين؟
  • فقد قال الشافعية والحنبلية: يكفي الواحد، بشرط أن يكون عدلا عند الحنبلية، ويكفي أن يكون مستور الحال عند الشافعية. واستدلّوا بحديث ابن عمر: «تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي ﷺ أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه» [7]
  • وقال الحنفية والمالكية: إذا كانت السماء صحوًا فلا بدّ من رؤية جمعٍ حتى يقع العلم الشرعي، أي غلبة الظنّ بصحَّة خبرهم، لأن المطلِع واحدٌ، والهمم في طلب الهلال متوفِّرة، فالتفرُّد في هذه الحال ظاهرٌ في غلط الراوي. وأما إذا لم تكن السماء صحوًا بسبب غيم أو غبار ونحوهما اكتفى القاضي بشهادة مسلم واحدٍ عدلٍ، أو مستور الحال، رجلًا أو امرأة؛ لأنه إخبار عن أمر دينيّ فصار مثل رواية الحديث عن النبيّ . وحملوا حديث ابن عمر على هذه الحال.

لكن ظاهر الحديث يدلّ على قبول شهادة الواحد العدل مطلقًا.

– قال الشيخ نور الدين عتر رحمه الله: “وفي زمننا يترجَّح هذا لقلّة علم الناس بمطالعة الأهلَّة، ووهن هممهم عن ترائي الأهلّة، ولا حول ولا قوّة إلا بالله”. [8]

 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصائمين عما سوى شهوده، الفائزين برؤيته في دار خلوده.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] البخاري في الصوم (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ : إِذَا رَأَيْتُمُ الهِلاَلَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا) 3/ 27، ومسلم في الصيام (بَابُ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَالْفِطْرِ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَأَنَّهُ إِذَا غُمَّ فِي أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ أُكْمِلَتْ عِدَّةُ الشَّهْرِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا) 2/ 752.

[2] أبو داود في الصوم (بَابُ كَرَاهِيَةِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ) 2/ 300. والترمذي (بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ) 3/ 61.

[3] المغني لابن قدامة 3/ 9.

[4] المسالك في شرح موطأ مالك 4/ 152.

[5] إعلام الأنام لعتر 2/ 398.

[6] انظر فتح الباري لابن حجر 4/ 122.

[7] أبو داود في الصوم (بَابٌ فِي شَهَادَةِ الْوَاحِدِ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ) 2/ 302.

[8] إعلام الأنام 2/ 401.