سلسلة الأربعون الرمضانيَّة | المقالة الثالثة | د. محمود مصري

 

 

        • الباب الأول: مكانة الصيام في الإسلام
    •  2- الصيام شفيع لصاحبه:

  • عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أن رسول الله قال: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: رَبِّ إِنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَيُشَفَّعَانِ». أحمد والحاكم [1].

 

مما لا شكّ فيه أن الإنسان يحتاج يوم القيامة إلى من يدافع عنه ويشفع له في هذا اليوم العظيم، والسعيد حقًّا من يهيئ الله تعالى له ذلك. قال تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ [النساء، 109].

قال الله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ [الزمر، 44]. فالشفاعة جميعًا له تعالى، لا يشفع عنده إلا من أذن له.

وجاءت نصوص القرآن والسنة لتبيّن أنواعًا من هذه الشفاعة التي ارتضاها الله لعباده:

– وأوّلها وأعلاها شفاعة رسول الله ﷺ العظمى.

– ومنها شفاعة الأعمال الصالحة.

– ومنها شفاعة العلماء والشهداء.

– ومنها شفاعة أهل القرآن.

– وغير ذلك. وقد جاء هذا الحديث الشريف ليبيّن شفاعة خاصّة هي: شفاعة الصيام والقرآن.

إنّ شفاعة الصيام والقرآن تُحمل على الحقيقة وتُفهم من خلال تجسُّد المعاني والأعمال، فيخلق الله فيها النطق، أو تُحمل على المجاز والتمثيل؛ أي يشفَّعان بلسان الحال.

يقول العلامة الطيبي رحمه الله: “الشفاعة والقول من الصيام والقرآن إما أن يؤوّل، أو يجري على ما عليه النص.. هذا هو المنهج القويم، والصراط المستقيم فإن العقول البشرية تتلاشى وتضمحلُّ عن إدراك العوالم الإلهية، ولا سبيل لها إلا الإذعان له والإيمان به، ومن تأوّل ذهب إلى أنه استعيرت الشفاعة والقول للصيام والقرآن؛ لإطفاء غضب الله، وإعطاء الكرامة، ورفع الدرجات، والزلفى عند الله” [2].

وثمّة احتمال ثالث ذكره المـُناوي في فيض القدير، فقال: “ويحتمل أنه يوكِّل ملكا يقول عنهما”، أي ينوب في الكلام عن الصيام والقرآن” [3].

ونرجِّح حمل الحديث على الحقيقة؛ لأنه هو الأصل، ولا يوجد ما يصرفه عن الأصل. ويشهد لذلك حديث ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: «يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب، فيقول: أنا الذي أسهرتُ ليلك وأظمأتُ نهارك».

قال السيوطي: “الرجل الشاحب هو المتغير اللون والجسم لعارض من العوارض، كمرض أو سفر ونحوهما، وكأنه يجيء على هذه الهيئة ليكون أشبه بصاحبه في الدنيا. أو للتنبيه له على أنه كما تغيّر لونه في الدنيا لأجل القيام بالقرآن كذلك القرآن لأجله في السعي يوم القيام، حتى ينال صاحبه الغاية القصوى في الآخرة” [4].

قال في مرعاة المفاتيح: “من تأوّل الحديث وحمله على المجاز والاستعارة والتمثيل إنما ذهب إلى ذلك لما زعم: إن الأعمال أعراض، والعرض لا يكون قائمًا بالذات؛ بل بالغير، وهو أمر آنيٌّ لا يبقى؛ بل يفنى فلا يمكن أن يوزن أو يكال، وهذا شيء قد أبطله الفلسفة الحديثة اليوم، وحقَّقت: إنّ الأعمال والأصوات والأنوار تبقى، ويمكن أن تحفظ وتخزن وتوزن وتكال، فالحق والصواب، أن يحمل الحديث ظاهره” [5].

وهكذا يَقُولُ الصِّيَامُ: رَبِّ إِنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، والمقصود بالنهار نهار رمضان أصالةً؛ لأنّ الصوم إذا أطلق فالمراد به الفرض، ولا يمنع أن يشمل كلَّ صوم بالتبعيّة.

قال ابن رجب رحمه الله: “فالصيام يشفع لمن منعه الطعام والشهوات المحرّمة كلّها سواء كان تحريمها يختصّ بالصيام؛ كشهوة الطعام والشراب والنكاح ومقدّماتها، أو لا يختصّ كشهوة فضول الكلام المحرّمة، والنظر المحرّم والسماع المحرّم، والكسب المحرّم، فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات كلّها فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة، ويقول: يا ربّ منعته شهواته فشفعني فيه” [6].

والمقصود بالقرآن في قوله : وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، هو التهجّد والقيام بالليل أصالةً، كما عبَّر به عن الصلاة في قوله تعالى: ﴿وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ﴾ [الإسراء، 78]، وكذلك لا يمنع أن يشمل كلّ قراءة للقرآن بالتبعيّة.

وهنا لطيفة أشار إليها المحقِّقون، فالصيام يقول: (ربّ)، بخلاف القرآن. قال العلامة مُلّا علي القاري: “لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ كَلَامُهُ تَعَالَى غَيْرَ مَخْلُوقٍ لَمْ يَقُلْ: أَيْ رَبِّ” [7].

وقرن الحديث بين الصيام والقرآن؛ لأن الصيام غالبًا يلازمه القيام، وثمّة مناسبة لطيفة تجمع بينهما، تظهر من خلالها فضيلة شهر رمضان المعظم على بقية الشهور؛ لأن هذا الشهر المبارك يجمع بين فضيلة الصيام الذي اختصه الله تعالى من العبادات لتنقية النفوس والسموّ على شهواتها، وفضيلة قراءة القرآن في شهرٍ اختصه الله تعالى بنزول القرآن العظيم الذي ارتضاه الله لنا دستورًا ينظّم حياتنا، ويضمن لنا سعادة الدنيا والآخرة. وهكذا فإن نزول القرآن في رمضان شهر الصيام زاده قدرًا ورفعةً، فكان شهر التشريع فضلا زيادة عن كونه شهر العبادة.

وثمّة مناسبة أخرى بين الليل وقراءة القرآن تتمثّل – إضافة إلى صلاة التهجّد التي تكون في الليل – بالإشارة إلى أن القرآن نزل في ليلةٍ هي خيرٌ من ألف شهر، وهي ليلة القدر.

وتظهر لنا في الحديث روعة التصوير الأدبي الفني في الحديث الشريف، “فقد شخَّص الصيام إنسانًا محاميًا يدافع عن الصائم يوم القيامة، ويذبُّ عنه عنف المحشر العسير ولفح النار ولهيبها، لينجو بصاحبه من الحساب الشديد.. واعتمد أيضًا على عناصر الإمتاع والتأثير، وعلى أدلّة الإقناع، مما يعين على الاستجابة السريعة للشفاعة، فيقول الصيام: قد حرمته من ضروريات الحياة، وهي الطعام والشراب وكلاهما يحفظ النفس من الموت، ومن كماليات الحياة، وهي الحرمان من الشهوات والملذات، ومن منهيات الحياة ومحرّماتها” [8].

وكذلك كان التّشخيص في القرآن الذي يدافع عن القارئ له في ليالي رمضان، والعامل بتشريعاته وأحكامه وهديه.

 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتحقّقين بحقيقة الصيام، القائمين بالقرآن، المقيمين لموازينه في نفوسهم، لتقوم في مجتمعاتنا المسلمة، ومن ثمّ الإنسانية نتيجة لذلك وثمرةً له.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

[1]  أحمد في المسند 6/ 188، والحاكم في المستدرك 1/ 740، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال في مجمع الزوائد 3/ 181: رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال الطبراني رجال الصحيح.

[2]  الكاشف عن حقائق السنن للطيبي 5/ 1577.

[3]  4/ 251.

[4]  ابن ماجه في الأدب (باب ثواب القرآن) 2/ 1242. قال البوصيري في زوائد ابن ماجه 4/ 126: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وقال الحاكم 1/ 742: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.

[5]  مرعاة المفاتيح للمباركفوري 6/ 416.

[6]  اللطائف 194.

[7]  مرقاة المفاتيح 4/ 1366.

[8]  التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف لعلي صبح 98.