سلسلة الأربعون الرمضانيَّة | المقالة الثانية | د. محمود مصري

 

        • الباب الأول: مكانة الصيام في الإسلام
    •  1- الصوم من أركان الإسلام:

عن عبد الله بن عُمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسولُ الله «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ». متفقٌ عليه [1].

 

– يبين لنا الحديث الشريف أهمّ ما دعا إليه النبي من الواجبات الاعتقاديَّة والعملية التعبُّدية، التي تتحقَّق بها هويّة المسلم، فهي تشمل العقيدة وأعمال البدن وأعمال المال وأعمال البدن والمال معًا، ولو اختلَّت تلك الواجبات فسدت سائر تصرُّفاته؛ إذ تلك الواجبات هي دعائم الإسلام الخمس أو أركانه الخمسة، فكلُّ من آمن برسول الله ﷺ والتزم شرعَه يدخل تحت وصف المسلم، وذلك أن الإسلام بنِي على هذا.

وفي الحديث تشبيهٌ للدِّين بأهم الضروريات الحياتية للإنسان الذي هو البيت، ففي البيت سكينة النفس وطمأنينتها، وهو يدفع عن الإنسان العوارض المختلفة ويحميه منها. والبيت يتكوّن من جدران أربعة وسقف، وهذه الأركان بها قوامه ووجوده، وكذلك الإسلام يقوم كيانه على الأركان الخمسة المذكورة في الحديث، فإذا اختلَّ واحد منها اختلَّ البناء، كما في البيت، ومن يستطيع العيش في بيت مهدَّم الأركان؟

إن تقريب المعاني من خلال الصورة الحسيَّة الواضحة، مع هذا الشمول المقترن الإيجاز البديع؛ يترتَّب عليه قوَّةٌ في التأثير، مما يجعل هذا النصَّ الحديثيَّ من جوامع كلمه ؛ لذلك عدَّه العلماء أصلًا عظيمًا في الدين.

ولما كان ما اشتمل عليه الحديث من الأركان يدخل في دائرة المعلوم من الدين بالضرورة كان إنكار واحد منها مكفِّرًا لصاحبه، تترتَّب عليه أحكام الردّة. يقول ابن رجب رحمه الله: “وَالْمَقْصُودُ تَمْثِيلُ الْإِسْلَامِ بِبُنْيَانِهِ وَدَعَائِمُ الْبُنْيَانِ هَذِهِ الْخَمْسُ، فَلَا يَثْبُتُ الْبُنْيَانُ بِدُونِهَا، وَبَقِيَّةُ خِصَالِ الْإِسْلَامِ كَتَتِمَّةِ الْبُنْيَانِ، فَإِذَا فُقِدَ مِنْهَا شَيْءٌ، نَقَصَ الْبُنْيَانُ وَهُوَ قَائِمٌ لَا يَنْتَقِضُ بِنَقْصِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ نَقْضِ هَذِهِ الدَّعَائِمِ الْخَمْسِ” [2].

إذًا لا بدّ لنا من ملاحظة أن ما أُمِرنا به من الفضائل المرغَّب بها هو أوسع بكثير من هذه الأسس والأركان، فهذه أركان البناء، وليست هي البناء، أما البناء فيمتدّ ليشمل كلّ حركة وسكون في حياة المسلم النابضة بالخير، والعاقل لا يكتفي بتشييد أركان البيت – وإن كانت هي الأصل – وإنما يهتمُّ بإنشاء البناء وإكسائه، ثم تجميله وتحسينه. ولذلك جعل النبي للإيمان شعبًا كثيرة، لكنها “ترجع إلى أصل واحد وهو تكميل النفس على وجه يصلح معاشه ويحسن معاده،” [3] كما ذكره القاضي عياض رحمه الله.

فالعقيدة هي الركنُ الأساسُ في الإسلام، المتمثِّل بكلمة التوحيد “لا إله إلا الله محمَّدٌ رسول الله”، وهي سقف البيت أو عمود الخيمة، وهي التي تمسك الأركان الأخرى من كلّ جانب، كما يمسك بالجدران سقف البيت، وهكذا يرتبط السلوك العملي بالتصديق القلبي قوّةً وضعفًا، ومن هنا نفهم قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [البقرة، 185]. فاتباع المؤمنين لرسولهم وتمسُّكهم بسنَّته لتطبيقها في حياتهم هو البرهان الناطق بقوة إيمانهم، وهو الأصل الذي تُبنى عليه الشهادة لهم بأنهم من المسلمين.

والصلاة ركنٌ، والمطلوب ليس مجرَّد الصلاة؛ بل إقامة الصلاة بفرائضها وسننها وآدابها لتكون صلةً حقيقيَّة بمن أمر بها.

والزكاة ركنٌ؛ وسمِّيت بذلك لأنها تؤدي إلى نماء الخير في المجتمع، وإلى نماء مال المزكّي وتطهير نفسه من الشحِّ وخصال السوء. [4].

والحجُّ ركنٌ، ينعقد فيه أكبر اجتماع بشري، تأتلف فيه القلوب على البرِّ والتقوى والخير والتناصح.

والصيام ركنٌ، يبعث على تقوية المراقبة والإخلاص لله لما اختصت به هذه العبادة من عدم ظهورها على صاحبها، كما أنها تصل بالعبد إلى سموِّ الروح بعد أن سيطر على شهوات البدن، عندها يتوسَّع صوم الجوارح عن المنهيات إلى صوم القلوب عن العيوب ومن ثمّ إلى صوم الأرواح عن رؤية ما سوى المحبوب.

– قال العلامة التفتازاني: فصوم الشريعة منافعه أكثر من أن تُحصى، ولو لم يكن إلا التشبُّه بالملائكة والارتقاء من حضيض النفس إلى ذروة التشبُّه بالروحانيات لكفى به فضلًا، وصوم الطريقة فهو الإمساك عمّا حرّم الله، والإفطار بما أباح وأحلّ، وصوم الحقيقة فهو الإمساك عن الأكوان، والإفطار بمشاهدة الرحمن [5].

أصوم وقد شهدت هلال عيدي       وكيف يصوم من شهد الهلال

– ويبيّن الإمام الحليمي مكانة الصيام في الإسلام من خلال ما ورد في السنة من أسمائه فيقول: “أحدها أنه جنة، والثاني أنه زكاة الجسد، والثالث أنه ضياء، والرابع أنه فرض مجزى والخامس أنه صبر. وهذه الأسماء الخمسة إبانة لمنزلة الصيام من العبادات. ثم أبان بقوله (صوموا تصحوا) أن فيه لعبادة منفعة أخرى، وهو أنه سبب لصحة البدن. فأما إخبار الله عز وجل بأن فرض الصيام على المؤمنين ليتقوا، وهو نظير قوله عز وجل في الصلاة ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت، 45]؛ لأن الانتهاء عن الفحشاء والمنكر هو التقوى، وحقيقة التقوى فعل المأمورية والمندوب إليه” [6].

 

– وثمَّة مناسبة جميلة ذكرها الفخر الرازي رحمه الله بين هذا الحديث الجامع وسورة الفاتحة الجامعة لمعاني القرآن، حيث قال: “فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَاصِلَةٌ مِنْ تَجَلِّي نُورِ اسْمِ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةُ مِنْ تجلي اسم الرَّبِّ، لِأَنَّ الرَّبَّ مُشْتَقٌ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالْعَبْدُ يُرَبِّي إِيمَانَهُ بِمَدَدِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ تَجَلِّي اسْمِ الرَّحْمَنِ، لِأَنَّ الرَّحْمَنَ مُبَالَغَةٌ فِي الرَّحْمَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ لِأَجْلِ الرَّحْمَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَوُجُوبُ صَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ تَجَلِّي اسْمِ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ الصَّائِمَ إِذَا جَاعَ تَذَكَّرَ جَوْعَ الْفُقَرَاءِ فَيُعْطِيهِمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا إِذَا جَاعَ حَصَلَ لَهُ فِطَامٌ عَنِ الِالْتِذَاذِ بِالْمَحْسُوسَاتِ فَعِنْدَ الْمَوْتِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهَا، وَوُجُوبُ الْحَجِّ مِنْ تَجَلِّي اسْمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لِأَنَّ عِنْدَ الْحَجِّ يَجِبُ هِجْرَةُ الْوَطَنِ وَمُفَارَقَةُ الْأَهْلِ وَالْوَلَدُ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ سَفَرَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَيْضًا الْحَاجُّ يَصِيرُ حَافِيًا حَاسِرًا عَارِيًا وَهُوَ يُشْبِهُ حَالَ أَهْلِ الْقِيَامَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الْحَجِّ وَبَيْنَ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، كَثِيرَةٌ جِدًّا” [7].

نسأل الله أن يعيننا على تشييد هذا البناء العظيم في نفوسنا أولًا، حتى يتجلّى في المجتمع المسلم نتيجة لذلك وثمرة يانعةً له.

 ________________________

[1] البخاري في الإيمان (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ : بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ) 1/ 11، ومسلم في الإيمان (بَابُ قول النَّبِيِّ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ) 1/ 45.

[2] جامع العلوم والحكم لابن رجب 1/ 45.

[3] انظر التنوير شرح الجامع الصغير للأمير الصنعاني 4/ 510.

[4] في ظلال الحديث لنور الدين عتر 39.

[5] شرح التفتازاني على الأحاديث الأربعين للنووي 229.

[6] المنهاج في شعب الإيمان 2/ 364.

[7] مفاتيح الغيب 1/ 242.