سلسلة الأربعون الرمضانية – المقالة السابعةُ والثلاثون| الشيخ د. محمود مصري

بسم الله الرحمن الرحيم

الباب الثامن: الصوم في غير رمضان

 الصوم وقاية من النار

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا بَاعَدَ اللهُ، بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا).

مما لا شكَّ فيه أن الوقاية من عذاب النار مطلبٌ لكلِّ من آمن بالله ورسوله، فيأتي هذا الحديث الشريف هديَّة لأهل الإيمان توصلهم إلى مقصودهم بوعد الصادق الوعد الأمين.

وفي هذا الحديث الشريف جاء التأكيد على فضل الصيام العظيم، إذ ورد في أحاديث أخرى أن من فضله أن يُدخل صاحبه الجنَّة إذا أخلص في صيامه، فجاء الحديث ليؤكِّد ذلك بصيغة أخرى، وهي أنه ينقذ صاحبه من نار جهنَّم، فقوله ﷺ: (بَاعَدَ اللهُ، بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا) كناية عن أنه يُحفظ منها، ويدخل الجنَّة.

قال صاحب إكمال المعلم: (باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا): مبالغة في الإخبار عن البعد عنها، والمعافاة منها. والخريف يعبَّر به عن السنة. والمراد مسيرة سبعين خريفًا، وكثيرًا ما جاءت السبعون عبارة عن التكثير واستعارة للنهاية في العدد.

قال ابن علَّان رحمه الله: “(عبد) أي مكلَّف، والجارية كالعبد فيما يأتي، والاقتصار عليه جري على الغالب”. وقال: (وجهه) أي: ذاته كما في قوله تعالى: ﴿كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهَه﴾ ]القصص: 88[، وهو في الحديث مجاز مرسل، ويحتمل إجراء الحديث على ظاهره، ويلزم من صرف الوجه عنها قدر ما يأتي صرف جميع البدن.

قوله (في سبيل الله): يمكن أن يحمَل على الإخلاص في الطاعة أو أن يحمَل على الجهاد في سبيل الله. قال ابن دقيق العيد: العرف الأكثر استعماله في الجهاد، فإن حُمل عليه كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين. قال: ويحتمل أن يراد بسبيل الله طاعته كيف كانت، والمراد من صام قاصدًا وجه الله، والأول أقرب، ولا يعارض ذلك أن الفطر في الجهاد أولى، لأن الصائم يضعُف عن اللقاء، لأن الفضل المذكور محمولٌ على من لم يخش ضعفا، ولا سيما من اعتاد به فصار ذلك من الأمور النسبية، فمن لم يضعفه الصوم عن الجهاد فالصوم في حقِّه أفضل ليجمع بين الفضيلتين.

نسأل الله تعالى أن يكتب لنا نصيبًا من الجمع بين الفضائل التي عرَّفنا بها رسول الله، إنه نعم المجيب.

المصادر والمراجع

  • إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، لعياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، ت يحْيَى إِسْمَاعِيل، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، ط1، 1419هـ/ 1998م.
  • الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه (صحيح البخاري)، لمحمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، ت محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية)، ط1/ 1422هـ.
  • المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (صحيح مسلم)، لمسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
  • دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، لمحمد علي بن محمد بن علان بن إبراهيم البكري الصديقي، ت خليل مأمون شيحا، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط4، 1425هـ/ 2004م.
  • مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، لأبي الحسن عبيد الله بن محمد عبد السلام بن خان محمد بن أمان الله بن حسام الدين الرحماني المباركفوري، إدارة البحوث العلمية والدعوة والإفتاء، نارس الهند، ط3، 1404هـ، 1984م. 

___________________________________________________

[1]  البخاري في الجهاد (باب فضل الصوم في سبيل الله) 6/ 26، ومسلم في الصيام (بَابُ فَضْلِ الصِّيَامِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِمَنْ يُطِيقُهُ، بِلَا ضَرَرٍ وَلَا تَفْوِيتِ حَقٍّ) 2/ 803.

[2]  إكمال المعلم بفوائد مسلم 4/ 115.

[3]  دليل الفالحين 7/ 30، 35.

[4]  مرعاة المفاتيح 7/ 78.