سلسلة إشراقات إيمانية في شهر الصيام | المقالة الثامنة والعشرون | د. محمد أبو بكر باذيب

الصوم وسر التقوى


          إن من البدهيات لدى المسلمين قاطبة ارتباط التقوى بالصوم، ذلك لأنه عبادة سرية، لا يحافظ عليها ويؤديها إلا متمسك بالشريعة، ذا تقوى وخوف من الله تعالى. وهذه الحقيقة قررتها الشريعة الإسلامية، ونزل بها القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، فالآية الكريمة المتضمنة تشريع الصوم والأمر به ختمت بالتقوى، في دلالة ظاهرة على الاقتران بينها وبين الصوم.

          التقوى هي التزام الطاعات واجتناب المعاصي. أو هي أن يجعل المسلم بينه وبين عذاب الله وقاية. والوقاية هي الجُنّة، والصوم جنة، كما جاء في صحاح السنة. فأخرج الإمام أحمد وغيره، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : «الصوم جنة، فإذا كان أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شتمه أو قاتله فليقل: إني صائم»

          وأخرج النسائي في (المجتبى) عن مطرف، قال: دخلت على عثمان بن أبي العاص، فدعا بلبن، فقلت: إني صائم، فقال: سمعت رسول الله ، يقول: «الصوم جنة من النار كجنة أحدكم من القتال». فالصوم كالتُّرس يمنع وصول الخطيئة وصدورها من الصائم؛ لمنعه الشهوات ومداخل الشيطان.

          جاء في (تفسير التحرير والتنوير) للعلامة ابن عاشور (2/ 158): “قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع، فهو في قوة المفعول لأجله لكتب. و ﴿لَعَلَّ إما مستعارة لمعنى كي استعارة تبعية، وإما تمثيلية بتشبيه شأن الله في إرادته من تشريع الصوم التقوى بحال المترجي من غيره فعلا ما، والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي.
وإنما كان الصيام موجبا لاتقاء المعاصي، لأن المعاصي قسمان:
1. قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصب فتركه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير،
2. وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر.
فجعل الصيام وسيلة لاتقائها، لأنه يعدل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الروحاني، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية. وفي الحديث الصحيح: «الصوم جنة». أي: وقاية ولما ترك ذكر متعلق جنة تعين حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات”، انتهى كلام ابن عاشور رحمه الله.

          نلاحظ كلمة التقوى في الآية الأولى وفي الآية الأخيرة. فهذه الفقرة إذن تشرح طريقا جديدا من طرق التقوى. فعبادة الله طريق إلى التقوى، والقصاص عامل من عوامل التقوى، والصيام طريق من طرق التقوى. ولأهمية الصيام جعل ركنا من أركان الإسلام، كالشهادتين والصلاة والزكاة. وبهذا المقطع تتأكد التقوى في الأنفس ويصبح عند المسلم استعداد عملي كامل لاتباع كتاب الله في كل شأن

          ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الله باجتناب معاصيه. لأن الصيام أضبط للنفس، وأردع لها عن مواقعة السوء. أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين. إذ الصوم شعارهم. والصيام هو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع والمفطرات، من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب، بنية الصوم لله عزّ وجل. خاطب الله عزّ وجل المؤمنين من هذه الأمة آمرا لهم بالصيام، لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها، وتنقيتها من الأخلاط الرذيلة. وذكر أنه إن أوجبه عليهم، فقد أوجبه على من كان قبلهم. فلهم فيهم أسوة. والحكمة من الصوم، تحصيل التقوى، لما في الصوم من تزكية للبدن، وتضييق مسالك الشيطان.

          إن الحكمة من فرض الصوم علينا هي الوصول إلى التقوى. فمن صام رمضان ثم لم يحصل التقوى فقد فرط، إن الإيمان بالغيب وإن التوحيد هما البذرة التي تتفرع عنهما شجرة الإسلام لتؤتي ثمارها، والصلاة هي الغذاء اليومي لهذه الثمرة، والإنفاق هو الذي يجتث الحشائش الضارة من أرض القلب، كالشح والبخل والحرص.

          ويأتي الصوم ليضبط الاندفاعات النفسية الخاطئة في أخطر مظاهرها، شهوة الفرج، وشهوة البطن، إذ يعود المسلم على ضبط ذلك، ثم يأتي الحج ليسقي بذرة الإيمان تسليما. فبقدر ما يعطي المسلم لكل ركن من أركان الإسلام مداه في نفسه ومن نفسه فإنه يكمل بذلك وتكمل بذلك تقواه. إن الصوم تعويد للناس على ضبط شهواتها، كما أنه تخل لله عن شهوات النفس طاعة لله، وإن آثار ذلك لمن فعله إيمانا واحتسابا هي أن يكرم الله الصائم بتحقيقه بالتقوى التي فيها جماع خيرى الدنيا والآخرة، تلك هي الحكمة الرئيسية في الصوم وهي التي نصت عليها الآية الأولى من فقرة الصوم.

هذا، ولكل جارحة نصيبها من التقوى.. وهي في رمضان أكثر تجلياً.

          قال عمر بن عبد العزيز: “لَيْسَ تَقْوَى اللَّهِ بِصِيَامِ النِّهَارِ وَلا بِقَيَامِ اللَّيْلِ، وَالتَّخْلِيطِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تَرْكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَأَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ، فَمَنْ رُزِقَ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ إِلَى خَيْرٍ”. فمن دفعه الصيام إلى العمل بطاعة الله، وأداء ما افترض وترك ما حرم، فقد حقق الثمرة المرجوة من الصيام. قال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه.

          قِيلَ: “إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَأَلَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنِ التَّقْوَى، فَقَالَ لَهُ: أَمَا سَلَكْتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ؟ قَالَ: شَمَّرْتُ وَاجْتَهَدْتُ، قَالَ: فَذَلِكَ التَّقْوَى”.

          وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ الْمُعْتَزِّ فَقَالَ: 

خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا *** وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى

وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ *** أَرْضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى

لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً *** إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى

التقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية وحاجزاً وحجاباً، يمنعك من الوقوع في الخطايا والمحرمات، وينجيك من النار.

نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم الصيام وسائر الأعمال وأن يكرمنا بالقبول وإدراك ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وصلى الله على خيرته من خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.