توجيه النبيه لمرضاة باريه (٢٩) سلسلة توجيهات وتنبيهات في تصحيح مسار الدعوة يبينها ويطرحها الحبيب عمر

توجيه النبيه لمرضاة باريه هو عبارة عن سلسلة من التوجيهات المهمة في مجال الدعوة يشرحها المربي الحبيب عمر.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في التسابق في ميدان الدعوة

 

وقال رضي الله عنه ونفعنا به[1]: الحمد لله الذي أكرمنا وإياكم بالفكر في هذا الميدان، والانضمام إلى هذا الميدان، والدخول في هذا الميدان، والاتصال بأهل هذا الميدان، ولم نكن لذلك أهْلًا، ولكن هو أهْل بأن يُعطِي مَن ليس بأهل. إن لم نكن أهْلًا لرحمتك أن نَبلُغها فرحمتُك أهْلٌ أن تَبلُغنا يا رب العالمين[2].
إذا أحسنتم الهمة، فالأمة الآن في بدايات في جوانب، ثم تقع نهايات عجيبات، يقولون: من لم يجدها في البدايات لم يشاهد في النهايات[3]، و: من لم تكن له بداية مُحرِقة لم تكن له نهاية مشرقة.
فالأمة الآن في بدايات مواعيد من سيد السادات وخير البرِيَّات، الناطق بأصدق الكلمات، أعظم أمين ائتمَنه اللهُ على أسرار غَيْبه، ما لم يأتمن غيرَه سواه، وَعَدَ مواعيدَ، فأُمته الآن في بداية هذه المواعيد، فنريد أن تتعاونوا حتى تكون بداية قويمة سليمة إذا تعاونتم عليها هكذا، ستكون نهاية عجيبة عظيمة شريفة كبيرة عزيزة.
والنهايات هذه التي نذكُرها مَن وجد نصيبًا منها فأكثر ما تكون الغبطة بها وقتَ صفِّ الصفوف في المحشر؛ لأن بعض الصفوف مغبوطة زيادةً، ومرتبتها في القُرْب تختلف، والرعاية التي عليها تختلف، فبعضها منظورة بعين وِداد أخصَّ، وبعضها نورها شديد الإشراق، هي مئة وعشرون صفًّا[4]، وأهل الصف الواحد يتفاوتون في المراتب تفاوُتًا.
الخلاصة أن الحق تعالى أكرَمَنا بحبيبه، والصفوفُ هذه كلها بعد ذلك إنما تتشرف بالنسبة إليه، وتتسابق إلى القرب منه، لأنه قائدها كلها وإمامها، فمرجعُها إليه، وهو يمشي بها إلى الجنة، ورايتُه تُظِلُّها كلَّها، هذه الصفوف منها ما ينبهر بعضهم مِن بعض، ويغبط بعضهم بعضًا لما يرونه من المراتب التي هيَّأها الله لهم. أما أهل الإيمان من الأمم السابقة فيقولون: كأن هؤلاء كلهم أنبياء! حينما يبصرون تلك الرايات الكبيرة تمر بينهم، فعسى لنا ولكم نصيب وافر وقِسْم كبير، {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: ٢٧ – ٢٨]، وجعَلَنا من خواصِّ صفوف الحبيب. عسى يتحنَّن علينا.
الحمد لله على ذلك، والذي بعثه بالحق لا يوجد في الخَلْق أحسن جوابًا منه، سيدنا علي بن أبي طالب كان ممَّن يفهمون هذه الحقائق، قال لهؤلاء الذين ما قَدَروا كيف يعملون[5]، حينما خرجوا يريدون أن يُسلِموا، فجاءُوا إلى سيدنا علي، فقال لهم: “أقبِلُوا عليه مِن خلفه صلى الله عليه وسلم، وقولوا له: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: ٩١]، فقد قالها إخوة يوسف ليوسف فقال لهم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: ٩٢]”، وهو لا يحب أن يكون أحد أحسن جوابًا منه. فجاءوا إلى عنده صلى الله عليه وسلم، فالتفت إليهم وقال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: ٩٢][6].
وهو ما يحب أن يكون أحد أحسنَ جوابًا منه، ليس تلك الليلة فقط، أو تلك الساعة التي كلَّمهم فيها، بل هو الآن وفي هذه اللحظة ما يحب أحدًا من الخلق أن يكون أحسن جوابًا منه أبدًا.
مَن الذي أوجده لنا هكذا؟ ومَن الذي حلَّاه بهذا الوصف لنا؟ وَمن الذي ذكَّرنا به وذكَّره بنا؟ مَن الذي جعل بهذا الوصف وهذا الحال وهذا العطف وهذا النوال؟
الحمد لله على ذلك، وإذا حَمِدنا الله على ذلك فقد حمدناه على جميع النعم. فَهِمْتُم إن شاء الله، أكرمنا الله بنور الفَهْم، وأخرجنا من ظلمات الوهم.

 

[1] ليلة الأربعاء 20 من شهر ربيع الثاني 1419هـ.
[2] مِن دَعوات الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: اللهم إن لم أكن أهْلًا أن أَبلُغ رحمتك، فإن رحمتك أهل أن تبلغني، رحمتُك وسعتْ كل شيء، وأنا شيء، فلتسعْني رحمتك يا أرحم الراحمين.
[3] وفي “الحكم العطائية” (من أشرقت بدايته أشرقت نهايته) أي: مَن عَمَّر أوقاتَه في حال سلوكه بأنواع الطاعات، وملازمة الأوراد، والاهتمام بأمر الدعوة، أشرقت نهايته بإفاضة الأنوار والمعارف. وأما مَن كان قليل الاجتهاد في بدايته، فإنه لا ينال مزيد الإشراق في النهاية.
[4] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهلُ الجنة عشرون ومئة صفٍّ، ثمانون منها من هذه الأُمة، وأربعون من سائر الأمم…”. رواه الترمذي وابن ماجه.
[5] أي: يتصرفون.
[6] قال عليٌّ لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب: ائتِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من قِبَل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: (تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ)، فإنه لا يرضى أن يكون أحدٌ أحسنَ منه قولًا. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). انظر “زاد المعاد”.