توجيه النبيه لمرضاة باريه (٢١) سلسلة توجيهات وتنبيهات في تصحيح مسار الدعوة يبينها ويطرحها الحبيب عمر

توجيه النبيه لمرضاة باريه هو عبارة عن سلسلة من التوجيهات المهمة في مجال الدعوة يشرحها المربي الحبيب عمر.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

نية الخدمة والتعلق بسر الصالحين

 

وقال رضي الله عنه ونفعنا به[1] : إن كان هناك مِن نوايا في خدمة هذه الأمة، وخدمة هذا الدين، في أعماركم المحدودة القصيرة فأَنْعِمْ بذلك؛ لأن النوايا تفتح أبواب التوفيق. وإن كان الواحد منكم يفكر تفكيرات قاصرة أو ساقطة، فيا ويح من عُرِضت عليه أغلى البضاعات فرَضِيَ بالتافهات والدَّنِيَّات، وآثَر عليها ما لا يساوي شيئًا.
وبعض الذين يبقى في قلوبهم شيء من تفخيم شأن الدنيا والمال، ولهم أعمال صالحات واجتناب للسيئات، يُؤتَى بأحدهم فيُرفَع على رءوس الخلائق، فينادي الملَك عليه: “ألَا إن هذا عظَّم ما حقَّر اللهُ”[2] ، فيخجلُ حتى يتساقط لحم وجهه من الخجل، موقفُ خَجَل وحياءٍ، أمام الأنبياء والرسل والصديقين والملائكة والأولين والآخرين، يقال لهم: “انظروا هذا عظَّم ما حقَّر اللهُ”.
وا أسفاه! كيف يُحقِّر ربُّ العباد أمرًا وأنت تعظِّمه؟ فيستحي على نفسه من ذلك، حتى يتساقط لحم وجهه من الخجل والحياء؛ لأن في قلبه شيئًا من تعظيم الدنيا، مع أنه ترك السيئات وفَعَل الطاعات، ولكن لم يتصف قلبه من تعظيم الدنيا التي أبى الله أن تساوي جَناح بعوضة.
مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على شاة ميتة، فقال: «أترون هذه الشاة هيِّنةً على أهلها؟» قالوا: مِن هوانها ألقوها. قال: «والذي نفسي بيدِه لَلدنيا أهونُ على الله من هذه الشاة على أهلها، ولو كانت الدنيا تَعدِلُ عند الله جَناحَ بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء»[3] . فلماذا تترك لها في قلبك محلًّا، بعد هذا الكلام من الحبيب الأجلِّ؟ أليس هو أصدقَ قائل من الخلائق؟ أم عندك شك في كلامه؟ الله يربطنا به إن شاء الله.
والآن نختم كتاب “الغرر”[4] ، ذُكِر فيه قوم غُرَر، عسى نتشبَّهُ بهم ونقُصُّ الأثر، وتحيا ما لهم من السِّيَر فينا وفيمَن يجالسنا، وتَحسُنُ إن شاء الله.
ما نجلس إلا ونحن نحيي سِيَرهم، ولا نتكلم إلا ونحن نحيي سِيَرهم، ولا نسافر إلا ونحن نحيي سِيَرهم، ولا نُقِيم في مكان إلا ونحن نحيي سِيَرهم، ولنا الهناء بذلك، ما نحمل للناس ظُلمةَ كذبٍ، ولا ظُلمةَ غِيبة[5] ، ولا ظُلمة فُسوق، ولا ظُلمة نِية سيئة، ولا ظُلمة جحود بنِعَم، ولا ظُلمة سُوء ظنٍّ.
نحمل للناس أنوار الأدب مع الله، ومع خَلق الله، {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: ٦۰]، الناس لهم مشارب، وهؤلاء وَرَثة المصطفى طريقتُهم ومشربُهم الصفاء، فما يعرفون يحملون على أحدٍ، ولا يحقدون على أحدٍ، ولا يَحسُدون أحدًا، ولا يفاخرون أحدًا، ولا يكابرون أحدًا، ولا يعاندون أحدًا، ولا قصدُهم إلا الأحد.

لباسُهم التقوى وسِيماهم الحَيَا وقصدُهم الرحمن في القَوْل والفِعْلِ

مَقالُهمُ صدقٌ وأفعالُهُم هُدًى وأسرارُهم منزوعةُ الغشِّ والغِلِّ[6]

عليهم رضوان الله، الله يجعل مشربنا مشربهم، ولا يجعل لنا مشربا ثانيا، حتى لا يقال لنا {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}، إن كان لك مشربٌ آخر ستأتي يوم القيامة تريد أن تكون معهم يقول لك الحق: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: ٦٠]. اشربْ مع الذين شربتَ معهم، فاذهب إليهم {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: ٧١]. هؤلاء ألصقُ[7] الأئمة بإمام الأئمة، وأقربُ الأئمة من إمام الأئمة، فاضت عنايته عليهم من كل جانب فآثَرَهم، فما أحبَّ أحدًا مثلهم، قال سيدنا الحداد[8] :

وَلِي مِن رسول الله جَدِّي عنايةٌ ووَجْهٌ وإمدادٌ وإرثٌ وإيثارُ[9]

آثرهم فلا يبلغ أحدٌ شَأْوَهم؛ لأن سلطان الحضرة آثَرهم، فكلٌّ يلزم مكانه، وكما قَال الحبيب أبو بكر بن شهاب:

لا بما قد علمتُموه من الخــير ولكنْ قضتْ بذاك الإرادَهْ [10]

وقال الحبيب علي الحبشي:

فانَّهم قومٌ ماحد في البرية كما هُمْ
لا تُرافِقْ وتصحب في الخليقة سواهمْ
فانَّ مولاك وفَّر من هِباته عطاهمْ
جاد وانعم عليهم بالرِّضى واجتباهمْ
يا لهم قوم يرضى ربُّنا مِن رضاهمْ
فاسعَ فيما سعوا واشربْ مع القوم ماهُم
علَّ يَحْبُوك ربُّك مثل ما قد حباهمْ [11]

لا تتركوا هذه الفرص، فالحق دائمًا ينتخب أُناسًا، ويختار أُناسًا يسجِّلون ويُثبَتون في دواوين الاختصاص مع الخواصِّ، هذا ينتخب لإحياء السنن وهذا ينتخب لإحياء الشريعة في عدة أماكن، فعسى الله لا يحرمنا، ويوفِّر حظَّنا إن شاء الله {مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: ٦]، {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}
[هود: ٣].

 

[1] بمسجد العيدروس عصر يوم الاثنين 6 من شهر ذي القعدة 1419هـ.
[2] عن محمد بن المنكدر يرويه قال: «ولو أن عبدًا جاء يوم القيامة قد أدَّى إلى الله عز وجل جميع ما افترض عليه إلا أنه محبٌّ للدنيا، إلا أمر الله له مناديًا ينادي به على رءوس أهل الجمع: ألَا إن هذا فلان بن فلان قد أحبَّ ما أبغضَ اللهُ عز وجل». “حلية الأولياء”.
[3] رواه ابن ماجه، والحاكم وصحح إسنادَه من حديث سهل بن سعد.
[4] هو المسمى “غُرَر البهاء الضَّوي ودُرَر الجمال البديع البهي”، كتابٌ في التراجم للإمام المحدِّث محمد بن علي بن علوي خِرد باعلوي المتوفَّى سنة 960 هـ.
[5] الغِيبة: هي ذِكرُك أخاك المسلم بما يكره، ولو كنت صادقًا.
[6] البيتان من قصيدة للإمام الحداد مطلعها:
أَقومُ بفَرْض العامريةِ والنفْلِ وأصدُقُها في القَصْد والقول والفعْلِ
[7] ألصق: أي أقرب.
[8] الإمام الحداد: هو الإمام عبد الله بن عَلَوي بن محمد الحداد، وُلِد بالسبير من ضواحي مدينة تَرِيم بحضرموت، ليلةَ الخميس الخامس من شهر صفر 1044 هـ، كُفَّ بصرُه وهو صغير فعوَّضه الله عنه بنور البصيرة، سافر إلى الحرمين الشريفين عام 1079 هـ، وما زال داعيًا إلى الله باذلًا في ذلك غاية جهده، حتى كانت وفاتُه ليلة الثلاثاء 7 من شهر ذي القعدة عام 1132 هـ، ودُفِن بمقبرة زَنبل بتريم.
[9] البيت من قصيدة للإمام الحداد مطلعها:
ألَا ليت شِعْري والفؤاد به نار وفي العمر إسراعٌ وفي الدهر إدبارُ
هل العيشُ في حيِّ الأحبة عائدٌ وهل قد جَرَت بالعَوْد يا سعدُ أقدارُ
[10] البيت من قصيدة للحبيب أبي بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين، مطلعها:
مِن غرامي بقُرْطها والقلادهْ إنْ أَمُتْ مُغرمًا فموتي شهادهْ
وُلِد عام 1262 هـ بقرية حِصْن آل فَلوقة، نشأ وتربى بتريم في حِجْر والده، كان حادَّ الذكاء، سريعَ الفهم والحفظ، بيِّنَ الحُجة، من الذين أخذ عنهم: السيد محمد بن إبراهيم بلفقيه والحبيب محسن بن عَلَوي السقَّاف، ومَن في طبقته والحبيب أحمد المحضار، تُوفِّيَ سنة 1341 هـ بحيدر أباد بالهند.
[11] الأبيات من قصيدة للإمام علي بن محمد الحبشي، مطلعها:
اعرفِ الحقَّ لأهل الحق واسلك مَعَاهُمْ في طريق التُّقَى من حيث ساروا وَرَاهُمْ
انظر “سمط الدرر”، ص127.