المقال الثالث من سلسلة مقالات التوعية الدينية بالأحاديث النبوية من ركن التوعية الأسبوعي للشيخ محمد أبو بكر باذيب: فقه حديث النهي عن البيع في المسجد

ركن التوعية الأسبوعي هو مكوَّن رئيسٌ في موقع (معهد نور الهدى العالمي للعلوم الإسلامية) ينشر فيه كل أسبوع مقالٌ جديد، صوتاً وكتابةً. بعضها مقالاتٌ متسلسلة، وبعضها مفردةٌ القصدُ منها إفادة القراء والسامعين بمواضيع قيمة علمية أو سلوكية إلى مناقشة ما يطرأ على الساحة الدينية من قضايا مستجدّة. يتناول هذا البحث شرح الحديث الوارد في النهي عن البيع المساجد، وجمع طرقه، ورواياته، وكلام أهل العلم فيه، وأقوال المذاهب الأربعة في توجيه النهي وتقعيد أحكام البيع والشراء في المسجد، والله الموفق.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى. والصلاة والسلام على سيدنا محمد بدر الدجى، ومنار الاهتداء، وعلى آله وصحبه ومن بهم اقتدى.

أما بعد؛ فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي سيدنا رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم. وقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام تعظيم شعائر الله وحرماته، ومنها المساجد التي هي بيوت الله تعالى في أرضه، فالواجب على المسلم تعظيمها واحترامها، ويجب على أهل العلم إرشاد المسلمين وتعليمهم الأحكام الفقهية الخاصة بالمساجد.

وهذه الصفحات لبحث مسألة فقهية من مسائل المساجد، وهي مسألة البيع والشراء، هل يجوز ذلك في بيوت الله أم لا؟ وما حكم من باع أو اشترى مخالفاً النهيَ الوارد؟ هل النهي للتحريم أم للكراهة؟ وهل قال أحد من الفقهاء بعدم انعقاد البيع في المسجد؟

النصوص والأدلة الواردة في المسألة

[1] من الكتاب العزيز:

الآية الأولى: قال تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} [النور: ۳٧]. والمقصود من أنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله: أنهم يلبون نداءَ الصلاة جماعةً، ويتركون البيع والشراء. روى عن ابن مسعود أنه رأى قوماً من أهل السوق حيثُ نوديَ بالصلاة، تركوا بياعاتهم، ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبدالله: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)، رواه ابن جرير الطبري. ورويَ عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: أنه كان في السوق فأقيمتِ الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم، ودخلوا المسجدَ، فقال ابن عمر: فيهم نزلت: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)، رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير.

الآية الثانية: قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها} [الجمعة: ١١]. أخرج الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطبُ يوم الجمعة، إذ أقبلت عيرٌ قد قدمتْ، فخرجُوا إليها حتى لم يبق معه صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً، فأنزلَ {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين}.

وفي «الدر المنثور» للسيوطي [14/ 484]: نقلا عن «تفسير» ابن جرير، وابن المنذر، عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يخطبُ الناسَ يوم الجمعة، فإذا كان نكاحٌ لعبَ أهله وعزفوا، ومرُّوا باللهو على المسجد، وإذا نزلت بالبطحاءِ جلبٌ. قال: وكانت البطحاء مجلساً بفناء المسجد الذي يلي بقيع الغرقد، وكانت الأعرابُ إذا جلبوا الخيل والإبل، والغنم وبضائع الأعراب نزلوا البطحاء، فإذا سمعَ ذلك من يقعد للخطبة، قاموا للهو والتجارة، وتركوه قائماً. فعاتب المؤمنين لنبيه صلى الله عليه وسلم. والذي سوغ لهم الخروج أثناء الخطبة: ظنهم أن الخروج بعد تمام الصلاة جائزٌ، لانقضاء المقصود، وهو الصلاة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم أول الإسلام كانَ يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين، فلما وقعت هذه الواقعةُ ونزلت الآية، قدَّم الخطبة وأخر الصلاة.

موضع الشاهد: أن الصحابة لم يكونوا يبيعون ويشترون داخل المسجد، بل في الخارج. ومع ذلك عوتبوا لانصرافهم عن الذكر، ونبههم المولى تعالى أن ما عنده (خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين).

[2] من السنة الشريفة:

الحديث الأول: أخرج أحمد في «مسنده» [11/ 257، رقم 6676] عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تنشَد فيه الضالةُ، وعن الحلَقِ يوم الجمعة قبلَ الصلاة.

أخرجه بتمامه أبو داود [1/ 419، رقم 1081]، وابن خزيمة [2/ 274، رقم 1304] والفاكهي في «أخبار مكة» (1267)، وابن خزيمة (1306). وروي مفرقا ومجموعاً. وأخرجه الترمذي [2/ 602، رقم 1321] في البيوع (باب النهي عن البيع في المسجد)، والنسائي في «اليوم والليلة» [176]، والدارمي 1/326، وابن الجارود [562]، وابن السني [153]، والبيهقي 2/44.

وأخرجه دون إنشاد الضالة الترمذي (322)، والبغوي في «شرح السنة» (485).
وأخرج النهيَ عن البيع والتحلق في المسجد النسائيُّ في «الكبرى» (793) و«المجتبى».
وأخرج النهيَ عن البيع وتناشد الأشعار ابنُ ماجه (749).
وأخرج النهيَ عن البيع وإنشَاد الضالة البيهقيُّ في «السنن»: 2/448.

الحديث الثاني: أخرجه الترمذي [2/ 602، رقم 1321] في (باب النهي عن البيع في المسجد)، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد. فقولوا: لا أربحَ الله تجارتك. وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالةً، فقولوا: لا رد الله عليك». قال الترمذي: «حديث أبي هريرة حديث حسن غريب». وهو في «صحيح ابن حبان» [4/ 528، رقم 1650]، ورواه الدارمي: 1/326.

ومن الآثار:

في «الموطأ» [1/ 174، رقم 92]: أن مالكاً بلغَه: أن عطاء بن يسار، كان إذا مرَّ عليه بعضُ من يبيعُ في المسجدِ، دعاه. فسأله: ما معك؟ وما تريد؟ فإن أخبره: أنه يريد أن يبيعَه. قال: عليك بسُوق الدنيا. وإنما هذا سُوق الآخِرة.

فقه الحديث

قال أبو سليمان الخطابي (ت 388هـ): «ويدخل في هذا كل أمر لم يبنَ له المسجدُ، من أمور معاملات الناس، واقتضَاء حقوقهم. وقد كره بعضُ السلف المسألةَ في المسجد، وكان بعضُهم لا يرى أن يُتصدَّق على السائل المتعرِّض في المسجِد».

ولأهل العلم في العمل بأحاديث النهي عن البيع في المسجد تفصيلٌ، ويلاحظ أن جل كلام الفقهاء انصبَّ أصالةً على تعاطي البيع والشراء في المسجد للمعتكف، وقيس غير المعتكف عليه. وهذا ملمحٌ مهم، ينبغي أن يكون على بال الباحث والقارئ. لأنه لا يتصور أن يتعاطى البيع والشراء للمصلين، إذ لا حاجة تدعو إلى ذلك، بينما المعتكف لطول مكثه في المسجد فإنه قد يحتاج إلى ذلك لتحصيل حاجته من طعام وشراب ونحوه. قال أبو إسحاق الشيرازي (ت 476هـ) في «المهذب» [1/ 194]: «ويبيع ويبتاعُ، لكنه لا يكثِر منه، لأنّ المسجدَ ينزَّه عن أن يُتخَذ موضعاً للبيع والشراء، فإن أكثَر من ذلك؛ كُره لأجل المسجِد».

وحاصل كلام الفقهاء على ثلاثة أقوال:

القول الأول: وهو للحنابلة: أن البيعَ محرمٌ وباطلٌ. أورده الوزير ابن هبيرة (ت 560هـ) قائلاً: «منعَ صحَّته وجوازَه أحمد»، ونقله ابن مفلح في «الفروع» [5/ 194]، وفيه: «فعلى المذهبِ: لا يصحُّ في المسجد»، والجراعيُّ (ت 883هـ) في «تحفة الراكع» [ص 346]، والبهوتي (ت 1051هـ) في «شرح منتهى الإرادات» [1/ 509]، وغيرهم. قال الجراعيُّ، وقبله ابن مفلح: «وقيل: إن حرُم؛ ففي صحته وجهانِ»، اهـ. أي: وجه بالبطلان، ووجهٌ بالإمضاء مع الإثم. أيده المرداوي في «الإنصاف» [7/ 636]، قائلاً: «قلتُ: قاعدةُ المذهب تقتضي عدمَ الصحَّة». وبالحرمة مع البطلان جزمَ الحجاويُّ (ت 968هـ) في متن «الإقناع»، قال شارحه البهوتي (ت 1051هـ) في «كشَّاف القناع» [3/ 188] ممزوجاً بمتنه: «(ويحرم البيع والشراء في المسجد) للمعتكف وغيره في القليل والكثير (فإن فعل) بأن باعَ، أو اشترى في المسجد؛ (فباطلٌ)». ومثله الرحيباني في «مطالب أولي النهى» [2/ 255] ممزوجاً بمتنه: «(وحرم فيه)، أي: المسجد (بيع وشراء، ولا يصحان)، أي: البيع والشراء، قلَّ ذلك أو كثُر، احتيج إليه أو لا. (خلافاً لجمع) منهم صاحب الفصول ” و ” المستوعب ” والشارح، فإنهم قالوا: يكره ويصحُّ، وفاقاً لمالك والشافعي».

القول الثاني: للحنابلة أيضاً، أن البيع مكروهٌ تحريماً، والكراهةُ لا تقتضي البطلان. قال الترمذي [2/ 602]: «والعملُ على هذا عند بعضِ أهل العلمِ؛ كرِهُوا البيعَ والشراءَ في المسجد. وهو قولُ أحمد، وإسحاق». ومثله في «شرح السنة» للبغوي [2/373]. قال ابن قدامة في «الشرح الكبير» [7/ 629]: «فصل: ويجتنب المعتكفُ البيع والشراءَ، إلا ما لا بد له منه. قال حنبل: سمعتُ أبا عبد الله يقول: المعتكفُ لا يبيع ولا يشتري إلا ما لا بدَّ له منه، طعام ٌأو نحو ذلك. فأما التجارة والأخذُ والعطاء، فلا يجوز». وقال في موضع آخر [11/ 203]: «وقال قوم: لا بأسَ به. والصحيحُ: الأولُ؛ للحديث المذكور. فإن باع، فالبيعُ صحيح؛ لأنه تمَّ بأركانه وشروطه، ولم يثبتْ وجود مفسدٍ له.

وكراهةُ ذلك لا توجب الفسادَ، كالغشِّ في البيع والتدليس والتصرية. وفي قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «قولوا: لا أربحَ الله تجارتك». من غير إخبار بفسَاد البيع؛ دليلٌ على صحته، والله أعلم». وقال ابن مفلح في «الفروع» [5/ 194]: «فعلى المذهبِ: لا يصحُّ في المسجد. وعلى الثاني: يصحُّ، لأنه لا يجوزُ ويجوز. لأنه قد صدَّر المسألة بـ(لا يجوز) وبـ(يكره). فلو جعلنا البناءَ كذلك؛ لكانَ عينَ الأول. وتحصَّل الحاصلُ، وهو الصوابُ. فعلى هذا، يكون قد قدم المصف هنا: أن البيع لا يصحُّ. وقد أطلق الروايتين في (كتاب الوقوف) في الصحة وعدمها. فيكون قد قدَّم حكماً في مكانٍ، وأطلق الخلافَ في موضع آخر». وفي «الإنصاف» [7/ 636]: «لا يجوز البيع والشراء في المسجد للمعتكِف وغيره، على الصحيح من المذهب. نصَّ عليه في رواية حنبل. وجزم به القاضي، وابنه أبو الحسين، وصاحب «الوسيلة»، و«الإفصاح»، و«الشرح» هنا، وابن تميم وغيرهم. وقدّمه في «الفروع»، و «الرعاية الكبرى»، وغيرهما … وجزم به في «الشرح»، و«المغنى»، و«ابن تميم»، و«المجد»، و«شرح ابن رزين» في آخر كتاب البيع»، انتهى من «الإنصاف»، وقريب منها عبارة الجراعي في «تحفة الراكع»، هما متعاصرانِ، وهما ناقلان عن ابن مفلح في «الفروع» [5/ 204].

وعلى هذا القول الثاني؛ فإنه لا ينعقد، حتى إن الفقهاء ذكروا صورة لدعوى البيع الباطل الواقع في المسجد، ففي كتاب «جواهر العقود» للمنهَاجي الشافعي (ت 880هـ) [2/ 409]: «صورةُ دعوَى وحكم ببطلانِ البيع الواقع بين المتبايعين في المسجدِ على مذهَب الإمام أحمد: … ثم يقول: (وأنه ابتاعه منه بالمسجد الجامع)، أو: (بمسجد بني فلان، بحضور جماعة من المسلمين). ويقع السؤال والجوابُ بالاعتراف أو الإنكار، وتقوم البينة على أن عقد البيع وقع في المسجد الجامع. فإذا ثبت ذلك بالاعتراف أو بالبينة، يسأل المدعي من الحاكم العملَ معه بمقتضى مذهب الإمام أحمد، وما يراه من عدم صحة البيع وجوازِه بالمسجد، والحكم ببطلان البيع بمقتضى ذلكَ، وثبوته لديه. فيحكم الحاكم ببطلان عقد البيع الصادر على المبيع المذكور بالمسجد، ورجوع المبيع إلى ملك البائع، والثمن إلى المشتري، حكماً شرعياً إلى آخره»، انتهى.

أما المجوِّزون فلا يبطلونَ هذا البيع، كما في كلام ابن خزيمة في صحيحه: «لو لم يكن البيع منعقداً لم يكن لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا أربح الله تجارتك»، معنى!»، انتهى. وقول ابن بطال: «أجمع العلماء أن ما عقده من البيع في المسجد لا يجوز نقضه»، اهـ.

القول الثالث: وهو القول بالجواز مع الكراهة، وهو مذهب الجمهور، الحنفية والشافعية وأشهَر قولي المالكية، ووجهٌ عند الحنابلة. قال الترمذي [2/ 602]: «وقد رخَّص فيه بعضُ أهل العلمِ، في البيع والشراء في المسجِد»، وعبارة البغوي في «شرح السنة» [2/373]: «رخَّص فيه بعضُ التابعين».

[1] نصوص المذهب الحنفي: فقد قال الطحاوي عن النهي في الحديث: «هذا إذا غلبَ عليه حتى يكون كالمستغرق، أما الفعل القليل فلا بأس به، وينبغي اجتنابه»، نقله في «إعلام الساجد» [ص 324]. وفي «البدائع» للكاساني (ت 587هـ) [2/ 117]: «المراد من البيع والشراء، هو: كلامُ الإيجابِ والقبول، من غير نقل الأمتعة إلى المسجد؛ لأن ذلك ممنوعٌ عنه، لأجل المسجد. لما فيه من اتخاذ المسجد متْجراً، لا لأجل الاعتكاف»، واستدلَّ، ثم قال: «لنا: عموماتُ البيع والشراءِ من الكتاب الكريم والسنة، من غير فصل بين المسجِد وغيره. ورويَ عن علي رضي الله عنه: أنه قال لابن أخيه جعفر: هلاّ اشتريت خادماً؟ قال: كنت معتكفاً. قال: وماذا عليك لو اشتريتَ! أشار إلى جواز الشراءِ في المسجد. وأما الحديثُ: فمحمولٌ على اتخاذ المسَاجد متاجِرَ، كالسوق، يباع فيها، وتنقل الأمتعة إليها. أو يحملُ على الندبِ والاستحبابِ، توفيقاً بين الدلائل بقدْر الإمكان»، اهـ.

وفي «تبيين الحقائق» للزيلعي [4/ 215]: «أما إحضار المبيع، وهي السلعُ، للبيع؛ فلأن المسجد محرزٌ عن حقوق العباد، وفيه شَغلُه بها، وجعله كالدكان»، إلى أن قال: «ولغير المعتكف: يكره البيعُ مطلقاً». ومثله في «درر الحكام» لملا خسرو [1/ 214]، وفيه: «قال قاضي خان: لا بأس للمعتكِفِ أن يبيعَ ويشتري. أراد به: الطعامَ، وما لا بد له منه، أما إذا أراد أن يتّخِذه متجراً، فيكره ذلكَ. قوله: (وكره إحضار المبيع)، قال في «البحر»: الظاهر أن الكراهة تحريمية»، اهـ. وفي «البحر» [2/ 327]: «وقُيدَ بالمعتكف: لأن غيره يكرهُ له البيعُ مطلقاً، لنهيه عليه السلام عن البيع والشراء في المسجد».

[2] نصوص المذهب المالكي: جاء في «المدونة» [1/ 293]: «قيل لابن القاسم: ما قولُ مالكٍ في المعتكف، أيشتري ويبيعُ في حال اعتكافه؟ فقال: نعم، إذا كان شيئاً خفيفاً، لا يشغله من عيشِ نفسه». وفي «المقدمات» لابن رشد الجد [3/ 471]: «وينبغي أن تنزه المساجد عن عمل الصناعاتِ، وأكل الألوان، والمبيتِ فيها إلا من ضرورةٍ للغرباء. ومن الوضُوء فيها، واللغَط، ورفع الصوت فيها، وإنشاد الضالة، والبيع والشراء؛ لقول الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور: ۳٦- ۳٧] إلى آخر الآية؛ لأنه عزَّ وجلَّ أعلمَ بهذه الآية ما وضِعتْ المساجد له، فوجبَ أن تنزَّه عما سوى ذلك مما ذكرناه»، اهـ.

وقال ابن شاس في «عقد الجواهر» [3/ 954]: «ويكره البيع فيه والشراء»، وقال ابن الحاج في «المدخل» [1/ 296]: «وفي ذلك من المفاسد جملةٌ، فمنها: البيعُ والشراء في المسجد؛ لأن مذهب مالكٍ رحمه الله، جوازُ بيع المعاطاة، وهي: أن تعطيه ويعطيك من غير لفْظِ البيع يكون بينكما. وقد منعَ في المسجد ما هو أخفُّ من هذا، وهو أن يذكُر لفظ البيع والشراءِ، ولو شراءً من غير تقابُضٍ. وما ذاك إلا أن المساجد لما بنيت له من العبادة فقط».

وقال عليش في «منح الجليل» [16/ 424] عند قول خليل «وبيع وشراء»: «وكره بيعٌ وشراءٌ بمسجد»، إلى أن قال: ¬«واختُلفَ: إذا رأى سلعةً خارج المسجد، هل يجوزُ أن يعقدَ بيعها في المسجد، أم لا؟ قولانِ: من غير سمسارٍ، وأما البيعُ بالسمسار فيه؛ فممنوعٌ باتفاقٍ. فإن باع في المسجد؛ فقال ابن بطالٍ: الإجماعُ على أنه لا يفسخُ، وأنه ماضٍ».

[3] نصوص المذهب الشافعي: قال الشافعي رحمه الله [المختصر: 8/ 157] (باب الاعتكاف): «ولا بأس أن يشتري ويبيع»، وفي «مختصر البويطي» [ص 361] (باب الاعتكاف): «قال الربيع: قال الشافعي: وأكره البيعَ والشراءَ في المسجد، فإن باعَ معتكفٌ، أو غيره في المسجد، كرهتُ لهما ذلك، والبيعُ جائز»، اهـ. ونقل نص البويطيِّ الرويانيُّ في «البحر» [3/ 328]، والنوويُّ في «الروضة» [2/ 393]. وهذا كله على الجديد. ونقل الروياني، في المرجع السابق، أن الإمام قال في (القديم) مثل «الأم»: «لا بأسَ به»، وصرح بهذا القول الإسنوي (ت 771هـ) في «المهمات» [3/204] ثم قال: «كذا رأيتُه في كلام جماعةٍ، منهم: المحَامليُّ في كتاب «القولين والوجهين» أيضًا»، اهـ. ونقل الروياني عن القديم أيضاً: «ولا يكثر التجارةَ، لئلا يخرُجَ عن حدِّ الاعتكاف»، ثم قال: «قوله: (لا بأس به)، أي: لا يؤثر في اعتكافه، لا أنه لا يكره. فإن كانَ محتاجاً إلى شراء قوتِه، أو لقريبه؛ لا يكره. وكذلك عن خاط ثوبه الذي يحتاج إلى لبسِه؛ لا يكره. وإن كان كثيرًا فتركه أولى»، ثم قال: «وهذه الكراهة لأجلِ المسجد، دون الاعتكاف. والكراهةُ: هي كراهيةُ تحريمٍ، لا تنزيه».

وهناك قولٌ محكيٌ عن المذهب القديم، أن البيع والشراءَ يبطل الاعتكاف المنذور. وهو ما نقله أبو إسحاق في «المهذب» [1/ 194] عن الشافعي: «إن فعلَ ذلكَ، والاعتكافُ منذورٌ، رأيت أن يستقبله»، اهـ. قال أبو إسحاق: «ووجهُه: أن الاعتكافَ هو حبسُ النفسِ على الله عز وجلّ، فإذا أكثر من البيعِ والشراء، صار قعودُه في المسجد للبيع والشراءِ، لا للاعتكافِ. والصحيحُ: أنه لا يبطلُ»، اهـ. قال النووي في «المجموع» [6/ 529]: «حكى المصنفُ والأصحاب قولاً قديماً: أنه إن كان اعتكافُ نذرٍ متتابعٍ؛ استأنفَه. وهذا شاذٌ ضعيفٌ. والمذهب الأولُ. قال إمامُ الحرمين [4/101]: هذا المحكيُّ عن القديم غلطٌ»، وجزم العمراني في «البيان» [3/ 598] بأنه قول مرجوعٌ عنه.

قال الروياني [3/329]: «فالمسألة على قولين. أحدهما: يكره»، لحديث عمرو بن شعيب، «والثاني: لا يكرَهُ، لأنه كلامٌ مباحٌ، كالحديث. والأولُ أصحُّ». وهذان القولان نقلهما العمراني في «البيان» [3/ 597-598] عن ابن الصباغ (ت 477هـ)

وفي كتاب «العدة» في فروع الشافعية، لأبي إسحاق الروياني إبراهيم بن علي (ت 523هـ) أن البيع والشراءَ في المسجد من الصغائر، نقله عنه الرافعي (ت 623هـ) في «العزيز» [13/ 8] في (كتاب الشهادات). وقال الرافعي في موضع آخر [6/ 226]: «ومنها: الجلوس للبيع والشراء والحرفة، وهو ممنوعٌ. إذ حرمة المسجد تأبى اتخاذه حانوتاً. وقد رويَ: أن عثمان رضي الله عنه رأى خياطاً في المسجد يخيط فأخرجه»، اهـ. وخبر عثمانَ رواه ابن عدي بإسنادٍ ضعيف. قال عبدالحق: هو غير محفوظٍ، أورده ابن الملقن في «الخلاصة» [2/ 115]. وفي «الرَّوضة» للنووي: «المختار: كراهتُه»، وفيها آخر (كتاب الجمعة) [2/ 47]: «البيعُ في المسجد مكروهٌ، يوم الجمعة وغيره، على الأظهَر». هذا حاصل كلام الشافعية.

خلاصة البحث: أن علماء المذاهب الثلاثة، الحنفية والمالكية والشافعية، اتفقوا على كراهة البيع في المسجد للمعتكف، فمن باب أولى غير المعتكف، وهذه الكراهة عند أكثرهم كراهة تحريمية. وجوز مالك البيع باللفظ دون إحضار المبيع، أما مع إحضاره فلا يجوزُ، بل هو ممنوعٌ مطلقاً، وهو محرمٌ أو مكروه تحريماً. وأما الحنابلة فالبيع عندهم محرم، وقال عدد من أكابرهم ببطلان البيع، والمعتمد عندهم عدم الإبطال، والله تعالى أعلم.

الخاتمة

هذا، والبيع والشراء يوم الجمعة مباركٌ، قال تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}، قال ابن كثير في «تفسيره» [8/ 148]: «لما حجَر عليهم في التصرُّف بعد النداء، وأمرهم بالاجتماع؛ أذِنَ لهم بعد الفراغ في الانتشارِ في الأرض، والابتغاء من فضل الله. كما كان عراكُ بن مالك رضي الله عنه إذا صلَّى الجمعة انصرفَ، فوقف على باب المسجد، فقال: اللهمَّ إني أجبت دعوتكَ، وصليت فريضتكَ، وانتشرتُ كما أمرتني، فارزقني من فضلكَ وأنت خير الرازقين، رواه ابن أبي حاتم. وروي عن بعض السلفِ أنه قال: من باعَ واشترى في يوم الجمُعةِ بعد الصلاة، بارك الله له سبعينَ مرةً».

وبعد؛ فهذه أقوال فقهاء الملة، وأعلام الأمة، في توضيح حكم البيع والشراء في المسجد، وإن الدواعي إلى بحث هذه المسألة وأمثالها كثيرةٌ، وحاجة الناس إلى معرفة الأحكام ملحة. وصور البيع والشراء في المساجد كثيرة، ومن أفحش صور البيع في المسجد: بيع الأطعمة بعد صلاة الجمعة مع اكتظاظ المسجد بالمصلين، فإنها مع كونها بيعاً منهياً عنه، فإن الروائح التي ترافق تلك الأطعمة مما ينبغي تنزيه المساجد عنه، فإن حقَّ بيوت الله أن تطيَّبَ بالعطور والطيب، لا أن تملأ بروائح الطعام والطبيخ، والله المستعان.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم