المقالة الرابعة عشرة من سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: الإيذاء

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

إن الإنسان يبتلى على حسب دينه، فإن كان في دينه قوةٌ اشتد عليه البلاء، سئل النبي: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟، قَالَ:(الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ…). [1]؛ ومن الخطأ أن يُظَنَّ أن المصائب لا تكون إلا عقوبةً لعاصٍ، بل هي للمؤمن رفع درجاتٍ، أو تكفير سيئاتٍ.

لذلك كانت حياة سيدنا محمدٍ وأصحابه الكرام في بدء الدعوة تمور مورا بالبلاء؛ اتهموه بالجنون والسحر والكذب، وأذاقوا أصحابه المستضعفين ألوان العذاب. فكان نصيب سميةَ وزوجِها ياسرٍ من ذلك العذاب فادحاً. والنبي يقول: (صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ) [2] وماتا تحت التعذيب.

وكانوا يَسحبون جسم خباب العاري على الجمر، ويطرحون على بلال صخرة ثقيلة مستعرةً، وهو يقول أحَدٌ أحَدٌ! والرسول يراهما، فيعتصر الألم قلبه، ويدعو الله لهما، ويذكرهما بثبات المؤمنين السابقين، فيقول: (كان الرجل فيمن قبلكم يُحْفَرُ له في الأرض فَيُجْعَلُ فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه) [3].

وضربوا الحصار عليهم في شعب أبي طالب لمدة ثلاث سنين، حتى أكلوا الجلود وأوراق الشجر، وتطاولوا على الأشراف فَضَربُوا أبا بكر ضَرْبًا شَدِيدًا [4] حتى ظُنَّ أنه ميت، فأما الرسول: فقد كان في مَنَعَةِ عمه أبي طالب، وبعد وفاته تمادوا عليه، فبصق عقبة بن أبي معيط لعنه الله في وجهه [5]، ووضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا [6]، وألقى عليه وهو ساجد سلا الجزور [7].

سألت عائشة النبي هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: ” لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة [8] وشردوهم في البلاد فمنهم من هاجر إلى الحبشة ومنهم من هاجر إلى المدينة المنورة وصادروا أموالهم وديارهم. فإن قال قائل أليس الله كان قادراً على نصر أحبابه على أعدائه فلماذا لم ينقذهم من كل هذا العذاب؟

الجواب: أن عبودية المؤمن لله تستلزم تحملَ التكاليفِ الشاقةِ، والصبر على المصائب، ليميز الله الخبيث من الطيب، ولو لم يُرَتِّب اللهُ التكاليف الشاقة على العبودية له، لاندس في صفوف المؤمنين من ليس منهم من المنافقين وغيرهم، زاعمين أنهم يؤمنون بالله ويحبونه، ولَمَا وُجِدَ لدينا ميزان، نستطيع من خلاله أن نميز بين أحباب الله وأعدائه، وصدق الله القائلُ في محكم كتابه:

قال الله – تعالى – (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [9].

وإذا كانت هذه هي سنة الله في عباده، فلن تجد لسنة الله تبديلاً. ولعل هذا تفسير ما حاق برسول الله، وبجميع الأنبياء والرسل من قبله، وبالصحب الكرام من الأذى، رَغْمَ عظيم فضلهم، وجليلِ قدرهم عند الله عز وجل.

فالنصر والتمكين في الأرض ثمنه التضحيات التي يقدمها المسلمون، فلا يتحقق النصر إلا بدفع آخر قسط، ولولا أن النصر مرتبط بالقانون الذي ذكرناه، لكان من مقتضى فضل رسول الله عند ربه أن تُفْتَحَ بلاد الفرس والروم في حياته وبقيادته وتحت إشرافه، لكن ثمن النصر لم تدفع كامل أقساطه من أجل انتصارهم في بلاد الشام والعراق إلا بعد وفاة النبي، فَدُفِعَتْ بقية الأقساط في عهد أبي بكر وعمر، فجاء النصر، وبدأت الفتوحات الإسلامية، حتى بسطوا نفوذهم على نصف المعمورة حينذاك، وظلت الدولة الإسلامية هي الأولى والأقوى في العالم ما يزيد على عَشَرَةِ قرون. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

________________________________________

[1] رواه الترمذي، رقم 2398، وقال حيث حسن صحيح.

[2] الجامع الصحيح للسنن والمسانيد، (ك) 5646، (طس) 1508، صحيح السيرة ص154.

[3] رواه البخاري، 3416،3639، 6544.

[4] الموسوعة في صحيح السيرة النبوية، ج1، ص419.

[5] الجامع لأحكام القرآن، ج 13، ص 25.

[6] رواه البخاري، 3475.

[7] جامع الأصول، 101، ج12، ص1034.

[8] رواه البخاري،3231، ومسلم،111، 1795.

[9] العنكبوت، 29/ 1، 3.