المقالة الخامسة والعشرون من سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: هجرة الرسول إلى المدينة

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

ما استأذن أحدٌ رسولَ الله بالهجرة إلى المدينة إلا أذن له باستثناء أبي بكر، حين استأذنه قال: (على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي) [1]، فَهِمَ العلماء من استبقاء أبي بكر دون سواه أحقيته بالخلافة من بعده.

أحست قريش بالخطر يتهددها حين أصبح للنبي أنصار في المدينة، فكان لابد من عملٍ سريعٍ وحاسمٍ، تتخلص فيه من محمدٍ الذي يتفاقم خطره عليها يوماً بعد يوم ٍ، فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون قبل فوات الأوان، فاستقر الرأي أخيراً أن يقتلوه بطريقة مأمونة العواقب؛ ذلك بأن يختاروا من كل قبيلة فتى جلداً، فيضربوه ضربة رجلٍ واحدٍ، وحينئذٍ يقبل بنو عبد مناف بالدية [2]. وقَبْلَ ليلة التنفيذ بساعاتٍ يخبر جبريل النبي بالأمر، ويأمره بالهجرة، (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).[3]

فأخبر النبيُّ أبا بكرٍ بالإذن له بالْهِجْرَةِ وبما نَوَتْهُ قريشٌ من قتله. فاستأجرا رجلاً مشركاً مأموناً؛ ليدلهم على المسالك الفرعية، واتعدا معه بموافاتهما بعد ثلاثة أيامٍ عند غار ثورٍ، وأَمَرَ النبي علياً أن ينام في فراشه، وطمأنه أنه لن يخلص إليه مكروه منهم، وطلب منه أيضا أن يتأخر بعده لأداء الأمانات، التي كان المشركون يضعونها عنده؛ لما يعلمون من صدقه وأمانته، مما يدل على أن عدم إيمانهم به لم يكن عن شك في صدقه، بل عن كبرٍ وحسدٍ وخوفٍ على الزعامة والمصالح، وما أَخْذُ النبي بكل الأسباب التي يهتدي إليها العقل للنجاة إلا ليوضح أن ما يقوم به وظيفةٌ تشريعيةٌ، وأن الإيمان بالله لا ينافي الأخذ بالأسباب المادية، وبعد ذلك يكون الاتكال على الله وحده. وخرج النبي على المرابطين حول بيته يتلو فواتح سورة ياسين، فألقى الله النوم عليهم، فلم يره أحد، واصطحب أبا بكر معه إلى غار ثور. وكُلِّفَ عبدُ الله بنُ أبي بكر بالتجسس على المشركين، والمجيء كُلَّ ليلة بأخبارهم إلى الغار، وأخته أسماء تأتي بالطعام، وعامر بن فُهَيْرَة يَعْفِي الآثار بالماشية؛ وهذا ما يجب أن يكون عليه كل من آمن بالله ورسوله.

ودخل أبو بكر الغار، يسبره من أي مكروه يؤذي رسول الله [4]، وسل سيف الفجر من غمد الظلام، فقام علي من فراش رسول الله يتمطى، فلما رآه المشركون جن جنونهم، وراحوا يفتشون عنه في كل المظانّ، حتى وصلوا إلى غار ثور، فأخذ الروع أبا بكر، فهمس قائلاً لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، فأجابه النبي: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟.[5] وأعمى الله أبصارهم عنه بنسج العنكبوت،[6] فجعل مشركو مكة لكل من أتى برسول الله وأبي بكر ديةَ كُلٍّ منهما.

وذهب أهل الطمع يبحثون عنهما في كل وادٍ ومنعرجٍ، ولكنْ عبثاً كانوا يحاولون، وبعد ثلاثٍ انقطع الطلب، وجاء الدليل بالرواحل، وانطلقوا بأمان الله ييممون وجوههم شطر المدينة، وفجأة يلحق بهم سراقة بن مالك، فلما دنا عثرت به فرسه مرة بعد الأخرى، فطلب الأمان، وعرض عليهم الزاد والمتاع، فاكتفوا منه برد الطلب،[7] ففعل. ومروا بطريقهم على أم معبد، فاحتلب شاة حائلا عجفاء، وشرب الجميع، ومضوا تحدوهم رعاية الله. [8]

فلما وصل النبي قباء، أقام فيها أربعة أيام، وبنى مسجدها الذي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ.[9]

ثم دخل المدينة، فخرجت بقضها وقضيضها تستقبله بمنتهى الفرح. حتى أناخت ناقته في مربد ليتيمين، وجاء أبو أيوب فاحتمل الرحل إلى بيته. فأراده قوم من الخزرج على النزول عليهم، فقال: (المرء مع رحله) [10] وجاء الناس يسلمون عليه.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] أخرجه البخاري: 3905، 5807.

[2] دلائل النبوة، للبيهقي: ج2، ص 468

[3] سورة الأنفال: 30

[4] سيرة ابن هشام: ج1، ص483

[5] مسند أحمد:11

[6] مسند أحمد: 3251

[7] مصنف عبد الرزاق: 9743

[8] دلائل النبوة للبيهقي: ج 2، ص493

[9] سيرة ابن هشام: ج1، ص494

[10] عيون الأثر: ج1، ص225