المقالة الخامسة من سلسلة فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: الجاهليّة وما كان فيها من بقايا الحنيفيّة

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله، والحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله. اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول، كما نعوذ بك من فتنة العمل، وبعد. فهذا هي المقالة الخامسة في سلسلة فقه السيرة النبوية. بعنوان: الجاهليّةُ وما كان فيها من بقايا الحنيفيّة.

 

حقيقةُ الحقائق التي يجب على كل مسلم أن يعلمها، وهي أن الإسلام الذي يؤمن بعقيدةِ التوحيد، وعبادةِ الله، والوقوفِ عند حدودِه، وتقديسِ حرماته، وفي مقدمة ذلك تعظيمُ البيتِ الحرامِ، واحترامُ شعائِرِهِ، والذودُ عنه، والقيامُ بخدمته وسِدَانَتِه، ليس إلا امتداداً للحنيفية السمحة، التي بَعَثَ اللهُ بها إبراهيمَ عليه السلام. قال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: ٩٥].

 

وكان العرب على عقيدة التوحيد؛ فلما امتد بهم الزمن، وحالت بينهم وبين جدهم إبراهيم قرون متطاولة، خلطوا الحق بالباطل، وأقحموا في الدين ما ليس منه؛ بسبب المبطلين والمشعوذين، وانتشارِ الجهل. فشاع فيهم الشرك، وبعض التقاليد الباطلة، والأخلاق الذميمة، إلا بَقِيَّةٌ قليلة ظلت على التوحيد، تصدقُ بالبعث والحساب، والجنة والنار، ويقدسون الأشهر الحرم، ويعظمون الكعبة، ويكرهون ما استحدثه العرب من عبادةِ الأوثان، وشربِ الخمر، وأكلِ الميتة، ونكاحِ الاستبضاع، ووأدِ البنات، والطوافِ بالبيت عراةً، وأكلِ الربا، وغيرِها من الموبقات – منهم قُسُّ بنُ ساعدةَ، وزيدُ بنُ عَمرو بنِ نُفَيلٍ، وورقةُ بنُ نوفل.

 

فلما بُعِثَ محمدٌ- عليه الصلاة والسلام- محا تلك الضلالاتِ، وأقر ما بُعِثَ به إبراهيمُ- عليه والسلام- وجَدَّدَ الدعوة إليه. وهذا معروف بالبداهة لمن اطلع على التاريخ، ودرس شيئاً من الإسلام. لكن وُجِدَ ناسٌ يقولون: بمرور الدهور بدأ العصر الجاهلي يستيقظ على السبيل الأمثل، وأخذت الأفكارُ العربيةُ تثور على كل ما له صلةٌ بمظاهر الشرك من خرافات الجاهلية، ولقد تَمَثَّلَت هذه اليقظةُ بدعوة محمد الجديدة.

 

كلامهم يعني أن الجاهليين كانوا يزدادون تفتحاً على حقائق التوحيد، وقرباً من مبادئ إبراهيمَ كلما ابتعدوا عن عهده، حتى بلغت اليقظة مداها ببعثة محمد. وهذا ينكره العقل، والمنطق، والتاريخ جملة وتفصيلا. ولو كان ما يزعمونه صحيحاً؛ لوجب أن تكون البعثة المحمدية قبلَ قرونٍ؛ لأنَّ الناسَ كانوا أحوجَ إليها!

 

 وآخرون قالوا: لمّا لم يستطع محمد القضاءَ على معظم ما كان لدى العرب من الأعرافِ، والتقاليدِ، والطقوسِ، والاعتقادات الغيبية، أضفى عليها طابع الدين، وأخرجها مُخْرَجَ التكاليف الإلهية.

 

يحدوهم إلى مزاعمهم هذه، افتراضُهم. أولاً: بأنَّ محمداً عليه السلام ليس نبياً. وثانياً: أنَّ ما كان لدى العرب من بقايا عهد إبراهيم من احترام الكعبة، وما هو منها بسبيل، إنما هو من مخترعاتهم. ولا يقدمون ولو دليلا واحدا على شيء مما يقولون، وهم مستعدون أن يغمضوا أعينهم عن جميع الأدلةِ والوقائعِ التاريخيةِ الجَلِيَّةِ، التي تَرُدُّ هاتين الفرضيتين، وتكشف عن بطلانهما.

 

والعاقلُ النزيهُ يؤمنُ بالبراهينِ الصارخةِ على نُبُوَّة محمدٍ- صلى الله عليه وسلم- مثلُ ظاهرةِ الوحي، ومعجزةِ القرآنِ، وظاهرةِ التطابق بين دعوته ودعوة الأنبياء السابقين، وجملةِ صفاتِه وأخلاقِه، والقوانين التي سنها.

 

ويؤمن بدعوة الأنبياء؛ المتعاقبين لتوحيد الله، والإيمان به، وبالمغيبات المتعلقة بالبعث، وما يتبعه من حساب وجنة ونار، مما دلت عليه الكتب السماوية جميعا، وصدقه التاريخ. وأن بقايا دعوة إبراهيم ليست تقاليدَ ابتدعها الفكرُ العربيُّ، وما جاء سيدُنا محمدٌ ليضفيَ عليها صبغةَ الدين، عندما عجز عن تغييرها. بدليل:ِ أنَّ أَشَدَّ ما كان أهلُ الجاهليةِ يتمسكون به عبادةُ الأصنام، وشربُ الخمرِ، والزنا، وأكلُ الربا، لكن الإسلام لم يُبْقِ عليها ولم يَذَرْ وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.