المقالة الحادية والعشرون من سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: معجزة الإسراء والمعراج

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. 

رحلة الإسراء والمعراج من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومنه إلى حد انقطعت عنده علوم الخلائق، حصلت للنبي – صلى الله عليه وسلم – قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا [1]، بالروح والجسد معاً[2]، روى قصتها البخاري ومسلم. وفيها أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أسري به على البُرَاقِ، وهو دابة فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طَرْفِه، حتى أتى المسجد الأقصى، فصلى فيه ركعتين، ثم أتاه جبريل بإناء من لبن، وإناء من خمر، فاختار اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة، ثم عُرِجَ به إلى سدرة المنتهى، فأوحى الله إليه ما أوحى [3]

وفيها فرضت الصلاة، ولما حَدَّثَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – الناسَ بما شاهد، طفق المشركون يتناقلون الخبر باستنكار، حتى تحداه بعضهم أن يصف لهم بيت المقدس، قال النبي – صلى الله عليه وسلم: (لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ، قُمْتُ فِي الْحِجْرِ، فَجَلاَ اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ.) [4].

نستفيد مما مر:

أولاً: لا يصح إنكار مثل هذه المعجزة بحجة أن العقل لا يقبلها؛ لأن العقل لا يستطيع أن يحكم إلا على ما تُمِدُّهُ به الحواسُّ، والحواس لا تستمد معلوماتها من وراء عالم الغيب، لذا كان العقل غير صالحٍ للحكم على المعجزات؛ لأنها من عالم الغيب، ولا وسيلة لعلم ما وراء الغيب إلا الخبر عن طريق نبي مصدق من الله بالمعجزات؛ لذا يقال لتلك الطائفة من المستشرقين من أمثال: غوستاف لوبون، وأوجست كونت، وهيوم، وجولد زيهر، وغيرِهِم ممن أنكروا المعجزات (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [5] 

ثم كيف يصح إنكار ما تواترت به الأخبار كالإسراء والمعراج وانشقاق القمر [6] ونبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام [7] مما يحيل العقل التواطؤ على الكذب فيه.

ثانيا: معجزة الإسراء والمعراج جاءت لحكمٍ منها:

    ما نصت عليه الآية (لنريه من آياتنا) [8].

    تكريمُ النبي – صلى الله عليه وسلم – ومواساتُه مما ناله من أحزانٍ على وفاة زوجته خديجة، وعمِّهِ أبي طالب، وما ناله من أذى قومه، وأذى أهل الطائف أخيراً حتى بلغ منه الحزن كُلَّ مَبْلَغٍ، وشعر بالهوان يَفْرِي قلبه فَرْيَاً، وبدا له الموقف أشدَّ ما يكون قسوةً، وأحوجَ ما يكون إلى المدد الإلهي، فراح يبتهل إلى الله راجياً منه الغوث والنجدة، فجاءت تلك الرحلة كالبلسم تعالج جراحه. 

ثالثا: إن عروج النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى السماء من بيت المقدس وليس من مكة، لَدِلالةٌ باهرةٌ على مدى ما لهذا البيت من مكانة وقدسية عند الله؛ مما يحتم على المسلمين أن يحافظوا على هذه البقعة من الأرض، وتهيب بهم أن يعيدوها إلى أصحابها المؤمنين.

رابعا: في اختيار النّبيِّ – صلى الله عليه وسلم – اللبنَ على الخمر الذي قدمه له جبريل دلالةٌ رمزية على أن الإسلام هو دين الفطرة، الذي ينسجم في عقيدته وأحكامه كلها مع ما تقتضيه نوازع الفطرة الإنسانية الأصيلة، ولعل هذا سِرُّ سَعَةِ انتشاره وسُرعةِ تَقَبُّلِ الناس له. 

خامسا: كانت رحلة الإسراء والمعراج بكلٍّ من الروح والجسد معاً، نص على ذلك النووي وابن حجر رحمهما الله؛[9] إذ لو كانت رؤيا منامية لما استدعى الأمر من المشركين أيَّ تعجُّبٍ أو استنكار؛ لأنه يجوز أن يرى مثل هذه الرؤيا المسلم والكافر. 

سادسا: في الأسواق كتاب اسمه (معراج ابن عباس) ملفّق من مجموعة أحاديث موضوعة لا تجوز روايتها، ونسبة الكتاب لابن عباس مفتراة، وهو منها بريء؛ لأنه لم يؤلف كتاباً بهذا الاسم ولا غيره؛ لأن حركة التأليف لم تظهر إلا في أواخر عهد الأمويين.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

_______________________________________

[1] الطبقات الكبرى لابن سعد ج1ص181.

[2] المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، ج2ص429.

[3] صحيح البخاري 3674، صحيح مسلم 259-330-162.

[4] صحيح البخاري،4710، صحيح مسلم، 276 – 170.

[5] آل عمران الآية 66.

[6] أخرجه البخاري، 4864-4583-1843، ومسلم، 7173- 43-2800. 

[7] صحيح البخاري،192، 197، 3379 ،3382، صحيح مسلم، 6005، 2279.

[8] سورة الإسراء، الآية 1.

[9] النووي على صحيح مسلم: 2/ 390، فتح الباري على صحيح البخاري: 7/ 136، 137.