المقالة الثانية والعشرون من سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: عرض الرسول نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

مرت على النبي إحدى عشرة سنة وهو يدعو إلى الله ليلاً ونهاراً مستغلاً موسم الحج حين تفد القبائل إلى مكة فيدعوهم إلى الله، وقريش لا تألوا جَهْداً في الصد عن دين الله، والتربص به لقتله، فكانت القبائل ترد دعوته، متأثرةً بموقف قريشٍ، لكنَّ صدودهم عنه لم يكن ليضعف من عزيمته؛ لإيقانه بأن الباطل زاهقٌ، وأن الغلبة للحق وإن طال الزمن. 

دعا بني عامر إلَى اللهِ فَقَالَ زعيمهم بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ: أَرَأَيْت إنْ نَحْنُ تَابَعْنَاك عَلَى أَمْرِك، ثُمّ أَظْهَرَك اللهُ عَلَى مَنْ خَالَفَك، أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِك؟ قَالَ: الْأَمْرُ إلَى اللهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاء، فَقَالَ لَهُ: …لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِك، [1] ودعا بني شيبان، فقال زعيمهم المثنى بن حارثة «فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ نَنْصُرَكَ وَنَمْنَعَكَ مِمَّا يَلِي الْعَرَبَ فَعَلْنَا، واعْتَذَرَ عما يكون من قبل كسرى، فقال النبي: (إِنَّهُ لَا يَقُومُ بِدِينِ اللهِ إِلَّا مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ). [2]

وفي هذا دلالة قوية على صدق النبي؛ إذ لو كان ممن يطلب مُلْكاً أو جاهاً، أو ممن يتاجر بالمبادئ؛ لَصَنَعَ كما يصنع المَكَرَةُ من السياسيين، من استمالة القلوب إليهم بالأحاديث الكاذبة، والوعود الخادعة، والأماني الفارغة، حتى إذا تم لهم ما أرادوا رجعوا في وعودهم، وتنكروا لأتباعهم، وسفّهوا عقولهم، ونكلوا بهم، وهذا فرقُ ما بين النبوة وغيرِها، وما بين الداعي إلى الحق وطالب الدنيا، فلو لم يكن محمد نبياً لكانت هذه العُروض مغريةً؛ سيما من قبيلة كبيرة وقوية، لم تسب امرأة منهم قط، كبني عامر. وما كان بنو شيبان أقل شأناً منهم، وقد وعدوه أن يحموه من كل قبائل العرب، أما فارس فلا قِبَلَ لهم بها، فلم يقبل؛ لأنه كان مُبَلِّغاً عن الله، ومن شرع الله ألا يقبل ممن لا يحوط الدين من كل جوانبه، وألا يجعل الإمارة فيمن يطلبها أو يحرص عليها؛ لأنها مسؤولية، ومعنى أن يطلبها أنه لا يقدر المسؤولية، بل سيرتكب الموبقات من أجل الوصول إليها، ومن أجل الحفاظ عليها، سيكذب، وينافق، ويسجن، ويقتل، ويوالي الأعداء، ويقدم تنازلاتٍ تُفَرِّطُ بالدين وكرامة الأمة.

فعليه العمل بأحكام الشريعة والباقي على الله؛ لذلك جاءت المنح الإلهية فوراً، حيث لقي رهطاً من الخزرج عند جمرة العقبة، فدعاهم إلى الإسلام (فنَظَرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: وقالوا تَعْلَمُون وَاَللَّهِ إنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي تَوَعَّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ، فَلَا يسْبِقُنَّكُمْ إلَيْهِ فأجابوه …) [3] ولم يشترطوا شيئاً.

ورجعوا إلى قومهم منذرين؛ مما مَهَّدَ للهجرة إلى المدينة، وتأسيس الدولة الإسلامية، وتغيير خريطة العالم. ولما كان العام الذي يليه، لَقُوهُ بالعقبة الأولى، وفيهم كبار زعماء الأوس والخزرج، فقال لهم تعالوا بايعوني: على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلِكم، ولا تعصُوني في معروف. [4] فبنود البيعة تنص صراحة على أهم معالم المجتمع الإسلامي، وعلى رأسها أن الحاكمية الله؛ لذا كان من أعجب العجب، ما ينادي به البعض من فصلِ الدين عن الدولة، وحصرِ الدين بطقوسٍ عباديةٍ داخلَ المسجد، لا علاقة له بالسياسة، والحكم، والمعاهدات الدولية، والحرب، والسلم، وقيادة المجتمع.

 وحتى لا يكون هناك مجال لطعن طاعن، قضى الله بحكمته أن يكون أنصارُ النبي الأُوَائلُ من غير قومه، حتى لا يَتَقَوَّلَ متقولٌ بأن دعوته كانت في حقيقتها دعوةً قوميةً حاكتها رغباتُ قومه وظروفُ بيئته.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

_________________________________

[1] سيرة ابن هشام: 1/ 425.

[2] السيرة لابن كثير: 168/2.

[3] عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير: 181/1.

[4] رواه البخاري: 7213.