المبحث الثاني من الفرق بين «فوق» و«من فوق» في اللفظ القرآني، بحث تفصيلي للشيخ علي هاني

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المبحث الثاني: الفرق بين(من تحت)، (تحت)
كما تقدم في المبحث السابق فـ(من) تستعمل إن أريد الجهة أي جهة ابتداء شيء، للدلالة على القرب والإحاطة وغالبا ما تسبق بفعل تكون ابتداء له أو ما يقوم مقام الفعل فهي ثلاثة معان متلازمة وقد يوجد الأول والثالث فقط دون الثاني.
1. المعنى الأول: الابتداء ببيان مبدأ جهة الشيء أي الشيء مبتدئ من كذا.
2. المعنى الثاني: القرب الشديد بلا فاصل و، وهو مأخوذ من الابتداء منهم بلا فاصل لأنها لابتداء الغاية في أول أمكنة التحتية.
3. المعنى الثالث: فيها التأكيد.
وأما حذف (من) فيكون إن أريد عمق التحت، أو كون الشيء تحت شيء وليس ابتداء لشيء نحو {تحت الشجرة}.
فتدل على معنيين:
المعنى لأول: التركز فيه على التحتية التامة البعيدة أي عمق التحت أو أن شيئا تحت شيء ولو لم يكن بعيدا.
المعنى الثاني: تستعمل حيث لا يكون النظر إلى أن شيئا ناشئ أو مبتدئ من شيء آخر، وإنما شيء تحت شيء.
تطبيق هذا على الآيات القرآنية:
اولا: (تحت) بدون (من):
(18/ 82) (20/6) (41/29) (48/18) (66/10).
أولا: تحت بدون (من):
الآية الأولى:
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (18/ 82)}
والكنز: المال المدخور، عبر بـ(تحت) دون (من تحت) لأن التركز فيه على أن شيئا تحت شيء على التحتية وأن الكنز كائن تحت الجدار؛ لأن عادة الكنز أن يحفر له ويدفن ويتوثق من حفظه بدليل أنه لم يكتف بالحفر حتى بنى فوقه جدارا، والمعنى (تحت) أساسه الذي بني عليه في باطن الأرض، وذلك أحفظ له، وليس النظر هنا إلى ابتداء شيء من شيء، وإنما شيء تحت شيء.

*************

الآية الثانية:
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} (20/6).
ذكر تحت لأنه أراد عموم ما تحت الثرى وجميعه فما تحت الثرى كله له سبحانه، وليس النظر هنا إلى ابتداء شيء من شيء، وإنما شيء تحت شيء، و{الثرى} التراب الندي[1] .
فما وارى الثرى من كل شيء له سبحانه: ملكا وخَلقا فيشمل ما هو في باطن الأرض كله وهو تخوم الأرض وطبقاتها إلى نهايتها فتشمل الكائنات والمعادن وفلزات وغير فلزات وجواهر، وخص – سبحانه – ما تحت الثرى بالذكر، مع أنه داخل في قوله: {وَمَا فِي الأرض} لزيادة التقرير، ولتأكيد شمول ملكيته – سبحانه – لكل شيء فالكائنات التي تحت الثرى اكثر بكثير مما هو فوق الأرض.

*************

الآية الثالثة:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} (41/29).
المراد أنهم تمنوا لشدة عداوتهم لهما والحنق والتحرق على الانتقام منهما وبغضهم إياهما أن يدوسوهما بغاية القوة ويذلوهما غاية الإذلال ليبالغوا في جعلهما في أقصى غايات السفول والتحتية، وهذا يناسبه حذف (من) ويؤيده {ليكونا من الأسفلين}أي مكانا أو ذلا
، وليس النظر هنا إلى ابتداء شيء من شيء، وإنما شيء تحت شيء في غاية السفول.
قال ابن عاشور: والأسفلون: الذين هم أشد حَقارة من حقارة هؤلاء الذين كفروا، أي ليكونوا أحقر منا جزاء لهم، فالسفالة مستعارة للإِهانة والحقارة.
قال أبو السعود: {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} أيْ ندوسُهُما انتقاماً منهُمَا وقيلَ: نجعلْهُما في الدركِ الأسفلِ، {لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} أي ذلاً ومهانةً أو مكاناً.
قال البقاعي: {نجعلهما تحت أقدامنا} في النار إذلالاً لهما كما جعلانا تحت أمرهما {ليكونا من الأسفلين} أي من أهل الدرك الأسفل وممن هو دوننا كما جعلانا كذلك في الدنيا في حقيقة الحال بإتباعنا لهما فيما أراد بنا.

*************

الآية الرابعة:
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}(48/18).
لأن المراد أن الشجرة فوقهم وهم أسفلها وهذا يناسبه (تحت الشجرة) وليس (من تحت) لأن (من تحت) فيها معنى ابتداء شيء من شيء: يقال جئتك من تحت الشجرة وليس جلست من تحت الشجرة.
قال البقاعي: وزاد الأمر بياناً وقيده تفضيلاً لأهل البيعة بقوله: {تحت الشجرة}، واللام للعهد الذهني، وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً به في الحديبية، ولأجل هذا الرضى سميت بيعة الرضوان.

*************

الآية الخامسة: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} (66/10).
عبر سبحانه هنا بأقوى التعبيرات الدالة على أن أحدا لا يغني عن أحد فعبر أولا بأنهما تحتهما وهذه من الكنايات القوية في قوة الصحبة لَيْلًا وَنَهَارًا يُؤَاكِلَانِهِمَا وَيُضَاجِعَانِهِمَا وَيُعَاشِرَانِهِمَا أَشَدَّ الْعِشْرَةِ وهي عشرة الزوجية، ولم يقل: تحتهما، بل أظهرهما بوصف العبودية المضافة إليه سبحانه وتعالى(تحت عبدين من عبادنا) ثم زاد الوصف بالصلاح لأن ذلك أفخم لأن آثر الناس عند الملك كما تقدم عبيده، فيكون أشد تأثيراً للموعوظ وأعظم،فبالرغم أنهما عبدان صالحان في غاية الصلاح والقرب من الله تعالى ومع ذلك لم يغنيا عنهما من الله شيئا.
فالتعبير بالتحت بدون (من) هو المناسب لأن المراد أنهما تحتهما في المضاجعة والزوجية وهذا أقوى في بيان التمكن والقرب، ولأنه ليس المراد ابتداء شيء من شيء حتى يؤتى بـ(من) فهذه الآية نحو (تحت الشجرة).
قال ابن كثير: تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} أَيْ: نَبِيَّيْنِ رَسُولَيْنِ عِنْدَهُمَا فِي صُحْبَتِهَالَيْلًا وَنَهَارًا يُؤَاكِلَانِهِمَا وَيُضَاجِعَانِهِمَا وَيُعَاشِرَانِهِمَا أَشَدَّ الْعِشْرَةِ وَالِاخْتِلَاطِ.
قال المعجم الاشتقاقي ومعجم الهيئة المصرية: كناية عن الزوجية.
وقال ابن عاشور: والتحتية هنا مجاز في معنى الصيانة والعصمة ومنه قول أنس بن مالك في الحديث المروي في « الموطأ » وفي « صحيح البخاري » عن أم حرام بنت ملحان: « وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ».وقال ابن عاشور: عند قوله تعالى حاكيا عن فرعون: {وهذه الأنهار تجري من تحتي}: كِنَايَةً عَنِ التَّسْخِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ [التَّحْرِيم: 10] أَيْ كَانَتَا فِي عِصْمَتِهِمَا. وَيَقُولُ النَّاسُ: دَخَلَتِ الْبَلْدَةُ الْفُلَانِيَّةُ تَحْتَ الْمَلِكِ فُلَانٍ

*************

ثانيا: (تحت) مع (منْ): (من تحت):
وردت في خمسة مواضع: {5/66) (6/65) (19/24) (29/55) (39/16) غير
{من تحتها الأنهار} التي ستأتي في مبحث مستقل.
الآية الأولى:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ)) {5/66).
تقدم الكلام عليها في بحث (فوق، من فوق).

*************

الآية الثانية:
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (6/65).
تقدم الكلام عليها في بحث (فوق، من فوق).

*************

الآية الثالثة:
{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (19/24)}.
لأن المراد أن جهة النداء وابتداء النداء كان من مكان أسفل منها من تحتها، ثم هو قريب منها سواء قلنا المنادي جبريل أم عيسى عليهما الصلاة والسلام.
قال ابن عطية: «مِن تحتها »: بكسر الميم على أنها لابتداء الغاية.
قال السمين الحلبي: ومعنى كونِه {مِن تَحْتِهَآ} أنه في مكانٍ أسفلَ منها، أي: جاء النداء مِنْ هذه الجهةِ.
قال الآلوسي: ومعنى {من تحتها} من مكان أسفل منها وكان واقفاً تحت الأكمة التي صعدتها مسرعة كما سمعت آنفاً “. أي إذا قلنا المنادي جبريل عليه السلام.

*************

الآية الرابعة:
{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(29/55).
تقدم الكلام عليها في بحث (فوق، من فوق).

*************

الآية الخامسة:
{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}(39/16).
تقدم الكلام عليها في بحث (فوق، من فوق).

*************

ثالثا: تجري من تحتها الأنهار، تجري من تحتهم الأنهار:
{تجري من تحتها الأنهار}: في كل القرآن (2/25) (2 /266) (3 / 15) (3/ 136) (3/ 195) (3 /198) (4 /13) (4 / 57) (4 /122) (5/12) (5 / 85) (5 /119) (9 /72) (9 /89) (13 /35) (14 /23) (16 /31) (19 / 24) (20/76) (22/14) (22 /23) (25 /10)، (29 / 58)، (39 /20)، (47/ 12) (48 /5) (48 /17) (57 / 12) (58/ 22) (61/12) (64 / 9) (65 / 11) (66 /8) (85 / 11) (98/8).
*************
من تحتي: (43/51)
*************
{تجري من تحتهم}: (6/ 6) (7 / 43) (10/9) (18/31)، (39/ 16).
أولا: معنى الجري:
الجري: الحركة والمر السريع المسترسل المتصل وهو إسراع حركة الشيء ودوامها، حركة منظمة دقيقة في طول مكان.
قال الحرالي:” من الجري وهو إسراع حركة الشيء ودوامها “.
قال الراغب: الجري:” المر السريع وأصله كمر الماء وما يجري بجريه”.
قال التحقيق: الحركة المنظمة الدقيقة في طول مكان ويعبر عنه بالانسياح.
قال النورسي في إشارات الإعجاز[2] : أحسن الرياض ما فيها ماء، ثم أحسنها ما يسيل ماؤها. ثم أحسنها ما يجري جريا ثم ما استمر جريه فدل على كل هذا بلفظ (تجري) الذي فيه تصوير ذلك.
ثانيا: معنى تحتها هل تحت أشجار الجنة وثمارها وغروسها، أم تحت ما ذكر وتحت غرفها ومبانيها ومساكنها أيضا:
في معنى جري الأنهار من تحت الجنات قولان متقاربان يجتمعان ولا يتعارضان:
القول الأول:
أن أنهار الجنة جارية تحت أشجار الجنة وثمارها وغروسها؛لأن المراد بذكر الجنة أشجارها وثمارها وغروسها، كما ترى الأنهار الجارية تحت الأشجار النابتة على شواطىء الأنهار، وليس المراد أن الأنهار تجري تحت الأرض، والمراد جريانُها بغيرِ أخدودٍ، فأنهار الماء واللبن والخمر والعسل تجري زيادة في بهجتها ودوام زهرتها ونضرتها فهي لا تزال يانعة غضة.
اختار هذا: الطبري الزمخشري والراغب، البيضاوي، النيسابوري، الطوسي، الماوردي والسمعاني، ابن الجوزي، ابن أبي زمنين، وأبو السعود وغيرهم.
قال الزمخشري: “فإن قلت: كيف صورة جري الأنهار من تحتها؟ قلت: كما ترى الأشجار النابتة على شواطىء الأنهار الجارية، وعن مسروق: أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجاره مظللة، والأنهار في خلالها مطردة.ولولا أن الماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى، وأن الجنان والرياض وإن كانت آنق شيء وأحسنه لا تروق النواظر ولا تبهج الأنفس ولا تجلب الأريحية والنشاط حتى يجري فيها الماء، وإلا كان الأنس الأعظم فائتاً، والسرور الأوفر مفقوداً، وكانت كتماثيل لا أرواح فيها، وصور لا حياة لها، لما جاء الله تعالى بذكر الجنات مشفوعاً بذكر الأنهار الجارية من تحتها مسوقين على قرن واحد كالشيئين لا بد لأحدهما من صاحبه، ولما قدّمه على سائر نعوتها.
قال الراغب في تفسيره: إن قيل: لم قال: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) وقد علم أن الماء في البساتين إذا كان جارياً على وجه الأرض أحسن منها إذا كان جارياً تحتها؟ قيل: عنى أنهاراً جارية تحت الأشجار، لا تحت الأرض، وقد روي عن مسروق ما يدل على ذلك، وهو أن كل أنهار الجنة تجري في غير أخاديد، قال ابن عاشور -: ومعنى {من تحتها} من أسفلها والضمير عائد إلى الجنات باعتبار مجموعها المشتمل على الأشجار والأرض النابتة فيها ويجوز عود الضمير إلى الجنات باعتبار الأشجار لأنها أهم ما في الجنات، وهذا القيد لمجرد الكشف فإن الأنهار لا تكون إلا كذلك ويفيد هذا القيد تصوير حال الأنهار لزيادة تحسين وصف الجنات كقول كعب بن زهير:
شُجَّت بذِي شبَمٍ من ماء مَحنية *** صافٍ بأبطحَ أضحى وهو مشمولُ والتحت اسم لجهة المكان الأسفل وهو ضد الأعلى، ولكل مكان علوٌّ وسفلٌ ولا يقتضي ذلك ارتفاعَ ما أضيف إليه التحت على التحت بل غاية مدلوله أنه بجهة سفله
القول الثاني:
كالقول الأول قالوا تحت أشجار الجنة وثمارها وغروسها إلا أنهم زادوا تجري تحت غرفها ومبانيها ومساكنها وغيره.
اختار هذا: ابن كثير، ابن عطية، السمرقندي، الثعلبي، مكي، الواحدي، البغوي الطبرسي، ابن جزي، الخازن، والطبراني، وغيرهم.
قال ابن كثير: أَيْ تَتَخَرَّقُ فِي أَكْنَافِهَا وَأَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَتَحْتَ أَشْجَارِهَا وَقُصُورِهَا

ثالثا: معنى (من) في (من تحتها الأنهار) من حيث النحو:
للعلماء أربعة أقوال في معنى (من) في {من تحتها}:
القول الأول:
قالوا (من) ابتدائية أي لابتداء الغاية.
اختاره: أبو حيان والسمين الحلبي وكذا ابن عاشور في بعض المواضع وهو قول المحققين.
قال أبو حيان: ومن قال: إن من زائدة والتقدير تجري تحتها، أو بمعنى في، أي في تحتها، فغير جار على مألوف المحققين من أهل العربية، بل هي متعلقة بتجري، وهي لابتداء الغاية.
قال السمين الحلبي: و{مِن تَحْتِهَا} متعلقٌ بتجري، و” تحت ” مكانٌ لا يَتَصَرَّفُ، وهو نقيضُ ” فوق “، إذا أُضيفا أُعْرِبَا، وإذا قُطِعَا بُنِيَا على الضم.و ” مِنْ ” لابتداءِ الغايةِ وقيل: زائدةٌ، وقيل: بمعنى في، وهما ضعيفان.
القول الثاني:
قالوا (من) زائدة.
اختاره: جماعة منهم ابن مالك واختاره ابن عاشور في التوبة وذكره احتمالا الإمام الرازي
.قال الصبان: وفي التصريح [3] عن الناظم أن من الداخلة على قبل وبعد وأخواتهما زائدة
القول الثالث:
قالوا (من) بمعنى (في).
اختاره جماعة منهم الرضي.
” قال الرضي ومن الداخلة على الظروف غير المتصرفة أكثرها بمعنى في نحو جئت من قبلك ومن بعدك {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، وأما جئت من عندك وهب لي من لدنك فلابتداء الغاية. ا. هـ.
القول الرابع:
قالوا (من) للتبعيض اختاره البقاعي والرازي في بعض المواضع.
قال البقاعي: ولما كان تفرق المياه في الأراضي أبهج، بَعَّضَ فقال: {من تحتها الأنهار} ” وسيأتي تفصيل هذا القول

الراجح:
هو القول الأول، وهو أنها لابتداء الغاية؛ فهي لبيان مبدأ شيء من شيء، فالشيء مبتدئ من كذا، فالأنهار وتدل أيضا على القرب الشديد، لأنها لابتداء الغاية في أول أمكنة التحتية فتحصل أنها تفيد أمرين:
الأمر الأول:
أن مكان وابتداء جري الأنهار من منطقة التحت التي تفيد تخلله فيها، فالأنهار تَتَخَرَّقُ فِي أَكْنَافِهَا وَأَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَتَحْتَ أَشْجَارِهَا منتشراً بين أشجارها.
الأمر الثاني:
قرب النهر الجاري، وهذا من فوائد ه سهولة الانتفاع والتلذذ بالشرب والنظر والمشاهدة بحيث يروقهم النظر إليها مع خضرة الجنان مع سماع صوت خرير الماء.
وكان هذا القول هو الأرجح وهو أنها لابتداء الغاية؛ لأنه المعنى الأصلي لـ(من) عند محققي النحاة[4] ولأن المعنى أظهر عليه،قال أبو حيان عند تفسير {تجري من تحتها الأنهار}:” ومن قال: إن (من) زائدة والتقدير تجري تحتها، أو بمعنى في، أي في تحتها، فغير جار على مألوف المحققين من أهل العربية، بل هي متعلقة بتجري، وهي لابتداء الغاية”.
قال السمين الحلبي: ” مِنْ ” لابتداءِ الغايةِ وقيل: زائدةٌ، وقيل: بمعنى في، وهما ضعيفان.

*************

رابعا: تفصيل القول في معنى (من تحتها)ودلالتها عند المفسرين مع تطبيقها على المعاني السابقة لـ(من):
القول الأول:
وهو الأرجح عندي أن (من) لابتداء الغاية تفيد أمرين كما تقدم:
الأمر الأول:
أن مكان وابتداء جري الأنهار من منطقة التحت التي تفيد تخلله فيها، فالأنهار تَتَخَرَّقُ فِي أَكْنَافِهَا وَأَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَتَحْتَ أَشْجَارِهَا منتشراً بين أشجارها.
الأمر الثاني:
قرب النهر الجاري، وهذا من فوائد ه سهولة الانتفاع والتلذذ بالشرب والنظر والمشاهدة بحيث يروقهم النظر إليها مع خضرة الجنان مع سماع صوت خرير الماء.
اختار هذا القول: البقاعي في عدة مواضع والنورسي وهو ظاهر كلام ابن كثير والصابوني.
قال البقاعي: ودل على قرب الجاري وتخلله الأراضي بالجار فقال: {من تحتها} أي تحت أشجارها وغرفها وكل متنزه فيها {الأنهار} فهي لا تزال غضة زهراء.
وقال البقاعي في موضع آخر: {جنّات} أي بساتين ذات أشجار عظيمة وأغصان ظليلة تستر داخلها، ورياض مديدة منوعة الأزاهير 23 عطرة النشر تبهج رائيها، وأشار إلى دوام ريها بقوله: {تجري} ولما كان عموم الماء لجميع الأرض غير 24 ممدوح [5] ، بين أنه في خلالها على أحسن 25 الأحوال فقال: {من تحتها} وبين عظمه بقوله: {الأنهار}
وقال البقاعي في سورة البروج: {تجري} وقـَرَّبَ منالها بالجار فقال: {من تحتها} أي 5 تحت غرفها وأسرتها وجميع أماكنها {الأنهار} يتلذذون ببردها في نظير ذلك الحر الذي صبروا عليه في الدنيا ويروقهم النظر إليها مع خضرة الجنان والوجوه الحسان الجالبة للسرور الجالية- 6 للأحزان.وقال البقاعي: وبين قرب الماء من وجهها بقوله: {من تحتها الأنهار} أي فهي دائمة النمو 8 والبهجة والنضارة والثمرة لأن أصول أشجارها ربى وهي بحيث متى أثرت بقعة مناه أدنى أثارة جرى منها نهر.قال البقاعي: ولما كان الماء لا يحسن إلا بقربه وانكشافه عن بعض الأرض قال: {من تحتها الأنهار} أي من 30 شدة الريّ البقاعي -وأفهم القرب بإثبات الجارّ فقال: {من تحتها الأنهار}
قال النورسي في إشارات الإعجاز: تحت تَحْت مقابل لفوق، و«تحت»: فاعلم! كما مر ان أوّل حاجات الانسان الضرورية – لأنه جسم – المكان والمسكن؛ وان أحسن المكان هو المشتمل على النباتات والأشجار، وان ألْطفَه هو الذي يتسلل بين خضراواته الماء، وان اكمله هو الذي تجري بين أشجاره وتحت قصوره الأنهار بكثرة. فلهذا قال (تجري من تحتها الأنهار) ـ ــ ـ ـ واما (من تحتها) فاعلم! ان أحسن الماء الجاري في الخضراوات ان ينبع صافيا من تلك الروضة [6] ، ويمر مُتَخَرْخِراً تحت قصورها، ويسيل منتشراً بين أشجارها فاشار بـ (من تحتها) الى هذه الثلاثة.. “اهـ
قال ابن كثير: أَيْ تَتَخَرَّقُ فِي أَكْنَافِهَا وَأَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَتَحْتَ أَشْجَارِهَا وَقُصُورِهَا.الصابوني”: تجري من خلال جوانبها وأرجائها الأنهار وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي ولهم جنات تجري خلال أشجارها الأنهار ”
يقول علي هاني: ويدل أن (من) تفيد أيضا القرب مقابلة القرآن {تجري من تحتها الأنهار} بقوله تعالى {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل} الدالة على القرب والإحاطة في عذاب الكفار في سورة الزمر:قال تعالى {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ
قال ابن عطية: وقوله تعالى: {من تحتها} أي من تحت الغرف، وعادلت {غرف من فوقها غرف} ما تقدم من الظلل فوقهم وتحتهم.
قال سيد قطب: ومشهد الغرف المبنية، من فوقها غرف، تجري الأنهار من تحتها.. هذا المشهد يتقابل مع مشهد ظلل النار هناك من فوقهم ومن تحتهم.هذا التقابل الذي ينسقه التعبير القرآني وهو يرسم المشاهد للأنظار.
القول الثاني:
قالوا (من) لابتداء الغاية لكن قالوا (من) تفيد أن هذه الأنهار تجري من الجنة نفسها وليس من موضع آخر كما يحصل في بعض البلاد يأتيها نهر من خارجها كنهر النيل لمصر مثلا.
ذكره الإمام الرازي واختاره الشعراوي والبقاعي في بعض المواضع.
القول الثالث:
اختاره البقاعي في بعض المواضع.
قال: (من) تفيد أن أرضها في غاية الرِّيّ، فكل موضع منها صالح لأن يُجري منه المؤمنُ نهرا كقوله تعالى {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)} البقاعي {تجري من تحتها الأنهار} أي من تحت غرفها وأسرتها وأرضها؛ فلا يراد موضع منها لأن يجري فيه نهر إلا جرى.
قال البقاعي: أي إن أرضها في غاية الريّ، كل موضع منها صالح لأن تجري منه نهر.وقال البقاعي في موضع آخر: {من تحتها الأنهار} أي المياه الواسعة، أينما أردت من أرضها جرى لك نهر في مقابلة ما يجري من فوق رؤوس أهل النار.
وقال البقاعي: {تجري من تحتها الأنهار} أي تكون أرضها عيوناً نابعة، أي موضع أريد منه إجراء نهر جرى، فهي لا تزال رياً تغني صاحبها عن كل حاجة ولا تحوجه في استثمارها إلى سقي.
و قال البقاعي: ثم وصفها بقوله: {تجري من تحتها الأنهار} أي أن ماءها غير مجلوب، بل كل مكان منها متهيئ لأن ينبع منه ماء يجري لتثبت بهجتها وتدوم زهرتها ونضرتها.
يقول علي هاني: لعل هذا القول يجعل (من) لابتداء الغاية مع التأكيد.
القول الرابع:
قالوا (من) تفيد التبعيض فهي تفيد أن الأنهار لم تعم جميع الجنة بل في بعض أجزائها، فالأنهار متفرقة في نواح من الجنات، قالوا وهذا هو الأنفع الأجمل لأن كثرة الأنهار تغرق.
اختاره البقاعي والرازي في مواضع.
قال البقاعي: ” ولما كان تفرق المياه في الأراضي أبهج، بعض فقال: {من تحتها الأنهار}”.
وقال البقاعي: “{جنات تجري} وبين أن الماء غير عام لجميع أرضها بإدخال الجار فقال: {من تحتها الأنهار.
وقال البقاعي: ولما كانت العلالي لا تروض إلا بالرياض قال: {تجري} ولما كان عموم الماء لجهة التحت بالعذاب أشبه، بعضه فقال: {من تحتها الأنهار} البقاعي ولما كانت المياه لو عمت الأرض لم يكن بها مستقر، أثبت الجار فقال 40:{من تحتها الأنهار}.
وقريب منه ما قال الفخر الرازي:” {من تحتها} إشارة إلى عدم التنغيص، وذلك لأن التنغيص في البستان، إما بسبب عدم الماء الجاري فذكر الجري الدائم، وإما بسبب الغرق والكثرة، فذكر من تحتها.
القول الخامس: الجمع بين القرب والتبعيض فـ(من) ابتدائية تبعيضية.
البقاعي: {تجري} أي جرياً دائماً لا انقطاع له.ولما كان عموم الماء مانعاً من تمام اللذة، قرب وبَعَّضَ بقوله: {من تحتها}.
القول السادس:
زائدة للتأكيد المؤذن بكمال العناية فلا يكون هذا الجري إلا أكمل نوعه.
وهو قول ابن مالك واختاره ابن عاشور في التوبة وذكره احتمالا الإمام الرازي.
قال الفخر الرازي:
“المسألة الثانية: ذكرنا مرارا أن (من) في قوله {من تحتها الأنهار} يحتمل أن يكون صلة معناه تجري تحتها الأنهار ـ ـ”.
قال ابن عاشور في سورة التوبة في قوله تعالى {تجري تحتها} بدون (من):” وقد خالفت هذه الآية عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر فيها (مِنْ) مع (تَحتِها) في غالب المصاحف وفي رواية جمهور القراء، فتكون خالية من التأكيد إذ ليس لحرف (من) معنى مع أسماء الظروف إلا التأكيد، ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، ومن فعل (أعد) المؤذن بكمال العناية فلا يكون المعد إلا أكمل نوعه، وثبتت (مِن) في مصحف مَكة، وهي قراءة ابن كثير المكي، فتكون مشتملة على زيادة مؤكدين.
خامسا: دلالة {تجري تحتها الأنهار} بدون (من) الواردة في التوبة:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} قرأ جميع القراء بحذف من إلا ابن كثير المكي قرأ بزيادة (من)
(من تحتِها}وكذلك هي في المصحف المكي وقد تقدم توجيه ذكر من.
وفي توجيه حذف (من) في هذه الآية ثلاثة أقوال:
القول الأول:
وهو المختار عندي، واختاره البقاعي، وبعض شيوخ موقع أهل التفسير.أن هذه الآية جاءت في وصف أعلى طبقة في هذه الأمة بعد الأنبياء وهم {السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان} فحذف (من) لبيان عظم وكثرة ما يؤتون من الأجر الذي يفضلون به على غيرهم فحذف (من)للتركيز على وفرة هذه الأنهار وأنها واصلة إلى عمق كبير فهو ماء وافر كثير مغدق يناسب حسن أعمالهم وسبقهم كما تقدم في الفرق بين (فوق) و(من فوق) (وتحت ومن تحت).
بخلاف (من تحتها) ففيها وصف جمال الجنة بتخلل أنهارها وقربها، فالتركيز فيها على أمرين: أن مكان وابتداء جري الأنهار من منطقة التحت التي تفيد تخلله فيها، فالأنهار تَتَخَرَّقُ فِي أَكْنَافِهَا وَأَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَتَحْتَ أَشْجَارِهَا منتشراً بين أشجارها والأمر الثاني: لتدل على قرب الأنهار، وهذا من فوائد ه سهولة الانتفاع والتلذذ بالشرب والنظر والمشاهدة بحيث يروقهم النظر إليها مع خضرة الجنان مع سماع صوت خرير الماء
، ولكل مقام مقال فعند ذكر كثرة أجرهم وعظمة أجرهم حذف (من) للدلالة على الكثرة والوفرة والعموم، وفي مقام ذكر جمال الأنهار وجمال الجنات وسهولة تناول الأنهار ذكر (من تحتها)؛ ليدل على قرب النهر الجاري الذي من فوائد ه سهولة الانتفاع والتلذذ بالشرب والنظر والمشاهدة ويروقهم النظر إليها مع خضرة الجنان مع سماع صوت خرير الماء.
قال البقاعي في سورة التوبة عند هذه الآية: {جنات تجري}: ونبه على عموم ريّها وكثرة مائها بنزع الجار على قراءة الجماعة فقال: {تحتها الأنهار} أي هي كثيرة المياه.فكل موضع أردته نبع منه ماء فجرى منه نهر ولما كان المقصود من الماء إنما هو السهولة في إنباطه بقربه ويسر جريه وانبساطه أثبته ابن كثير[من تحتها] دلالة على ذلك كسائر المواضع، ولعل تخصيص هذا الموضع بالخلاف لأنه يخص هذه الأمة، فلعلها تخص بجنة هي أعظم الجنان رياً وحسناً وزيا “.
قال أبو أحمد وهو من المشاركين لموقع أهل التفسير:” المتدبر في سياق الموضعين يجد الجواب ففي سورة التوبة “تجري تحتها الانهار” بدون “من” وهي قراءة العامة، وهي الوحيدة في كتاب الله, و”تجري تحتها” أعم من” تجري من تحتها”, فحرف (من) يأتي هنا للتخصيص والقرب, ويناسب مجيء الآية بغير من ما ذكر من تعميم لذكر لمؤمنين ,السابقين الاولين من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان” فالآية جمعت كل المؤمنين بحق وعمتهم جميعا, من أجل ذلك عمم الله الجزاء والنعيم “.
القول الثاني:
اختاره الخطيب الإسكافي في درة التنزيل والسامرائي والكرماني والشعراوي.
على النقيض من القول الأول، فهم جعلوا جميع ما في القرآن {من تحتها}أبلغ في بيان النعيم من {تجري تحتها} في التوبة، قالوا: لأن سورة التوبة ذكرت المؤمنين وليس فيهم الأنبياء، بخلاف بقية المواضع فهي تشمل الأنبياء ولا شك أن الثواب الذي يكون فيه الأنبياء أعظم، وبيان وجه المبالغة في (من تحتها) أن (من) لابتداء الغاية، تفيد أن منابع الأنهار من تحت المنازل، وأن الجنات مبنية على أوائل الأنهار، ومبادئُ الأنهارِ أشرفُ، وأوائلها في العادة أنظف مما بعدها، والجنات التي مبادئ الأنهار من تحت أشجارها أشرف من غيرها.
قال في درة التنزيل: و(من) لابتداء الغاية، والأنهار مباديها أشرف، والجنات التي مبادئ الأنهار من تحت أشجارها أشرف من غيرها، فكل موضع ذكر فيه (من تحتها) إنما هو عام لقوم فيهم الأنبياء، والموضع الذي لم يذكر فيه (من) إنما هو لقوم مخصوصين، ليس فيهم الأنبياء عليهم السلام ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة براءة، {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا}، فجعل مبادئ الأنهار تحت جنات أخبر الله أنها للصادقين والمؤمنين والذين عملوا الصالحات، وفيهم الأنبياء عليهم السلام، بل هم أولهم، والمعتاد أنها أشرف الأنهار، والآية التي في سورة المجادلة فيها الأنبياء عليهم السلام والآية التي في سورة براءة قد خرج الأنبياء عنها، لأن اللفظ لم يشتمل عليهم، فلم يخبر عن جناتهم بأن أشرف الأنهار على مجرى العادة في الدنيا تحت اشجارها كما أخبر به عن الجنات التي جعلها الله لجماعة خيارهم الأنبياء عليهم السلام، إذ لا موضع في القرآن ذكرت فيه الجنات وجري الأنهار تحتها إلا ودخلتها (من) سوى الموضع الذي لم ينطو ذكر الموعودين فيه على الأنبياء عليهم السلام، فهذا الكلام في من تحتها، اعتبروا بما ذكرت ما جميع القرآن.
قال الكرماني في غرائب التفسير وعجائب التأويل: سؤال: لِمَ قال في هذه السورة (تَحْتَهَا) من غير (مِنْ)، وفي سائر القرآن: (مِنْ تَحْتِهَا) بإثبات (مِنْ)؟الجواب: لأن (مِنْ) في قوله (مِنْ تَحْتِهَا) أفاد عند عامة المفسرين فصارت الجنات إذا ذكر معها (مِنْ) أبلغ في الوصف من المطلقة المهملة، وعَامة ما جاء في القرآن قد تقدمها ذكر الأنبياء – عليهم السلام – إما صريحاً، وإما كناية، أو ما تقدمه وصف يصلح للأنبياء، أو كان ذكرها ضرباً للمثل فذكرت الجنات لمكانهم – صلوات الله عليهم – على أحسن وصف وأبلغ وصف، وما في هذه السورة مقطوع به أنه خلاف ما تقدم من صريح ذكر الأنبياء وكنايتهم، ولم يكن وصفاً يصلح لهم، لأنها نزلت في المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وهو قوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ)، فلم يبالغ في ذكر الجنات تلك المبالغة، – والله أعلم.

قال السامرائي: لأن بداية الجريان من تحتها، العيون تنبع من تحتها فيصير مشهد الجري مع مشهد بدايته من تحتها (تحتها) ليس بالضرورة أن يكون المنبع تحتها لكن (من تحتها) أي بداية الجريان من تحتها يتمتع بمشهد الجري وبداية الجري.
أما لماذا قال في آية واحدة فقط (تجري تحتها)؟ كل آية فيها (تجري من تحتها الأنهار) معهم الأنبياء، المؤمنين والمؤمنات معهم أنبياء. أما في آية سورة التوبة فليس معهم أنبياء {َالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} ليس معهم نبيّ. كل الآيات الأخرى على الإطلاق معهم الأنبياء وهذه ليس معهم الأنبياء. تجري من تحتها أي منبع الأنهار من تحتها.
قال الشعراوي: على أن هناك آيات أخرى تقول: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ما الفرق بين الاثنين..تجري تحتها الأنهار..أي أن نبع الماء من مكان بعيد وهو يمر من تحتها..أما قوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} فكأن الأنهار تنبع تحتها..حتى لا يخاف إنسان من أن الماء الذي يأتي من بعيد يقطع عنه أو يجف..وهذه زيادة لاطمئنان المؤمنين أن نعيم الجنة باق وخالد..
القول الثالث: أن ذكر (من) يفيد التأكيد وحذف (من) لا يفيده.
قال ابن عاشور: وقد خالفت هذه الآية ـ يعني آية سورة التوبة (تجري تحتها} ـ عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر فيها (مِنْ) مع (تَحتِها) في غالب المصاحف وفي رواية جمهور القراء؟ ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، ومن فعل (أعد) المؤذن بكمال العناية فلا يكون المعد إلا أكمل نوعه.
وثبتت (مِن) في مصحف مَكة، وهي قراءة ابن كثير المكي، فتكون مشتملة على زيادة مؤكدين.
مناقشة القول الثاني والثالث:
يقول علي هاني: قد تقدم في تحقيق معنى(من تحتها) القول المختار في بيان ذكر (من)، ويرد على كلام هؤلاء الأعلامِ الكرامِ الذين اختاروا القولَ الثانيَ ـ الآية ُ التي ورد فيها قولُ فرعون: {وهذه الأنهار تجري من تحتي} هل معناه أن النيل ينبع من تحته؟ لا شك ان الجواب: لا، لأنه ينبع من غير مصر فقولهم لا يستقيم، هذا أولا.
ثم ثانيا: لا شك أن السياقين ليس بينهما تقابل بل لكل مقام مقال كما تقدم فلما أراد بيان الوفرة في الجزاء وهذا يناسب حال السابقين حذف (من)، ولما أراد بيان جمال الجنات ذكر (من).
ثم ثالثا: ذِكْرُ دخول ِ الأنبياء وعدمِ دخولهم بعيد من السياقات؛ لأن الكلام في معظم السياقات على المؤمنين وجزاء المؤمنين الذين منهم السابقون وأصحاب اليمين، وكلهم ذكر في جزائهم جريان الأنهار من تحت جناتهم.
وأما القول الثالث القائل بالزيادة فيرد من جهة النحو والمعنى، أما النحو فـ(من) لا تزاد عند الجمهور إلا إذا سبقت بنفي أو استفهام وهو غير موجود هنا، وأما من حيث المعنى فحمل الحرف على معنى غير الزيادة التي تفيد التأكيد أولى إن أمكن وهو هنا متأت كما بين من قبل.
فلذلك أرجح القول الأول والله أعلم بمراده.

خامسا: بيان معنى التحتية {تجري من تحتهم}:
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا} آخَرِينَ} (6/6)
جعلنا الأنهار تجرى من تحت مساكنهم وأمكنتهم التي يبنونها على ضفافها وتحت غرفهم وقصورهم ومن بين أيديهم، فيتمتعون بالنظر إلى جمالها، وبسائر ضروب الانتفاع من أموالها، فإن الماءَ الجاري يعلوه القائم والقاعد، والمراد أنهم عاشوا في الخصب بين الأنهار والثمار والبساتين والقصور والمنتزهات فالأنهار يلازمها البساتين والرياض، فقد غزرت نباتهم وأخضرت سهولهم فكثرت زروعهم وثمارهم، فاتسعت أحوالهم وكثرت أموالهم فتيسرت آمالهم، و(من تحتهم) متعلق بـ(تجري)، وفيه من الدلالة على كونها مسخّرةً لهم مستمرةً على الجريان على الوجه المذكور ما ليس في أن يقالَ: وأجرينا الأنهارَ من تحتهم.

*******************

{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} (7/43).
{(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (10/9).
{أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} (18/ 31).
جريان الأنهار من تحتهم يشمل أمرين:
1. من تحت قصورهم ومنازلهم وتحت غرفهم و، فيرونها وهم في قصورهم وغرفاتهم ومنازلهم تتدفق في جناتها وبساتينها يرونها من علو؛ زيادة في لذتهم وسرورهم فيزدادون حبورا لا تشوبه شائبة كدر؛لأن أفضل المنازل ما يجرى فيه الماء.
2. و من بين أيديهم وأسرّتهم فهم يكونون جالسين على سررهم في البساتين على ضفاف الأنهار، والأنهار تجري من بين أيديهم، أي من دونهم وبين أيديهم كقوله تعالى {قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا} وكما قال حكاية عن فرعون {وهذه الأنهار تجري من تحتي}، ومعلوم أنه لم يجعل السريّ تحتها وهي عليه قاعدة، إذ كان السريّ هو الجدول، وإنما عني به جعل دونها: بين يديها فإن ما التصق بالأرض مطلق عليه أنه تحت ما كان منتصبا أو مرتفعا عليه، وليس التحت الذي هو
بالمما سة بل يكون إلى الناحية والجانب وبين اليدين، وكذلك يقال في {الأنهار تجري من تحتي}.
ووجه إيثار إضافة (تحت) إلى ضميرهم دون ضمير الجنات لبيان زيادة سرورهم وتنعمهم لتتقرر بشارة المؤمنين أتَمّ تقرر، ولأنها صورة أخرى غير صورة جري الأنهار من تحت أشجار وبساتين الجنة، وجريان الأنهار مع جماله يشي بالري وبهجة المنظر واعتدال النسيم والخضرة والجمال.
سادسا: معنى غرف تجري من تحتها الأنهار:
وردت في موضعين:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)}(29/58).
1. الغُرَف: جمع غُرفة، وهو البيت المعتلَي على غيره المرتكز على بيت آخر غير مباشرة للأرض بل فوق المباشرة، فهي الطبقات العليا من المنازل أي لننزلنهم بيوتا عالية من الجنة أي علالي جليلة، مرتفعة عن الأرض مبنية بعضها فوق بعض عالية مرتفعة[7] مشرفة واسعات يصعد إليها بدرج ونحوه وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى منازل الدنيا وهو أعزّ منزلاً من البيت الأرضي. وهي مزخرفة في بهاء وصفاء وحسن وفي الجنة التي يكون ترابها زعفران وطينها مسك أن تكون غرفها لؤلؤاً وزبرجداًوذهبا وفضة [8] ، وقد فسرت هنا على ما روي عن ابن عباس ببيوت من زبرجد ودر وياقوت.فلا تسمع فيها ضجيج. وإنما تسمع صوت المياه المترقرقة في أنهار الجنة الأربعة.
معنى تجري من تحتها الأنهار:
1. لان الغرف تعلو على الأنهار أي من تحت غرفها و، فيرونها وهم في غرفاتهم تتدفق في جناتها وبساتينها يرونها من علو؛ زيادة في لذتهم وسرورهم فيزدادون حبورا لا تشوبه شائبة كدر؛لأن أفضل المنازل ما يجرى فيه الماء، كقوله تعالى {قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا} وكما قال حكاية عن فرعون {وهذه الأنهار تجري من تحتي}،
2. لأنّ منظر الورود والماء والأنهار والبساتين من فوق الغرف يبعث على اللذة والبهجة بشكل أكثر.
قال البقاعي: ولما كانت العلالي لا تروض إلا بالرياض قال: {تجري ـ ـمن تحتها الأنهار} ومن المعلوم أنه لا يكون في موضع أنهار، إلا كان به بساتين كبار، وزروع ورياض وأزهار – فيشرفون عليها من تلك العلالي
قال الطوسي: (تجري من تحتها الانهار) * لان الغرف تعلو عليها.وقيل: تجري من تحت أشجارها المياه.وقيل: انهار الجنة في أخاديد تحت الارض.
القول الثاني: وهذا المعنى ذكره العلماء في سورة الزمر
تجري من تحت أسسها الأنهار، أي تخترق أسسها وتمر فيها وفي ساحاتها، وذلك من أحسن ما يرى في الديار كديار دمشق وقصر الحمراء بالأندلس وديار أهل الترف في مدينة فاس فيكون إطلاق تحت حقيقة.

قال الفخر الرازي: بين ما يكون للمؤمنين وقت الرجوع إليه كما بين من قبل ما يكون للكافرين بقوله: {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} فبين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما أن للكافرين النيران، وبين أن فيها غرفا تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما بين أن تحت الكافرين النار، وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله تعالى: {نعم أجر العاملين} في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله: {ذوقوا ما كنتم تعملون}.

********************

{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)}(39/20).
اللفظ يحتمل معنيين يجتمعان ولايتعارضان:
المعنى الأول:
لان الغرف تعلو على الأنهار أي من تحت غرفها و، فيرونها وهم في غرفاتهم تتدفق في جناتها وبساتينها يرونها من علو؛ زيادة في لذتهم وسرورهم فيزدادون حبورا لا تشوبه شائبة كدر؛لأن أفضل المنازل ما يجرى فيه الماء، كقوله تعالى {قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا} وكما قال حكاية عن فرعون {وهذه الأنهار تجري من تحتي}، قال ابن عاشور: وجريُ الأنهار من تحتها من كمال حسن منظرها للمُطلّ منها.ومعنى {منْ تَحْتِها} أن الأنهار تمرّ على ما يجاور تحتها، كما تقدم في قوله تعالى: {جنات تجري من تحتها الأنهار} في [آل عمران: 15]، فأطلق اسم تحت على مُجاورة.

المعنى الثاني: أنها تجري من تحت الغرف مباشرة.
قال أبو حيان: والضمير في {من تحتها} عائد على الجمعين، أي من تحت الغرف السفلى والغرف العليا، لا تفاوت بين أعلاها وأسفلها
قال التحرير: ويجوز أن يكون المعنى: تجري من تحت أسسها الأنهار، أي تخترق أسسها وتمر فيها وفي ساحاتها، وذلك من أحسن ما يرى في الديار كديار دمشق وقصر الحمراء بالأندلس وديار أهل الترف في مدينة فاس فيكون إطلاق تحت حقيقة.
والمعنى: أن كل غرفة منها يجري تحتها نهر فهو من مقابلة الجمع ليُقسّم على الآحاد، وذلك بأن يصعد الماء إلى كل غرفة فيجري تحتها.
قال البقاعي: ولما كانت المنازل لا تطيب إلا بالماء، وكان الجاري أشرف وأحسن قال: {تجري من تحتها} أي الغرف من الطبقة السفلى والطبقة العليا من غير تفاوت بين العلو والسفل، لأن القدرة صالحة لأكثر من ذلك {الأنهار} قال الكشاف: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} كما تجري تحت المنازل، من غير تفاوت بين العلوّ والسفل قال البيضاوي: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي من تحت تلك الغرف
قال أبو السعود: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} من تحت تلك الغرفِ {الانهار} من غيرِ تفاوتٍ بين العُلوِّ والسُّفلِ.
قال سيد طنطاوي: وهذه الغرف جميعها {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ليكون ذلك أدعى إلى زيادة سرورهم.

قال الجلال: {لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي من تحت الغرف الفوقانية والتحتانية
قال الشوكاني: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي: من تحت تلك الغرف، وفي ذلك كمال لبهجتها، وزيادة لرونقها،
قال ابن كثير: أي: تسلك الأنهار بين خلال ذلك، كما يشاءوا (9) وأين أرادوا، قال هميان الزاد:
{تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} أي تحت الغرف السفلية والفوقية {الأَنْهَارُ} كما تجري تحت المنازل وذلك تحضيض على التقوى ومقابلة لظلل أهل النار {قال النسفي: {مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي من تحت منازلها
قال حقي:
{تجرى من تحتها} اى من تحت تلك الغرف المنخفضة والمرتفعة {الانهار} الاربعة من غير تفاوت بين العلو والسفل
قال الزحيلي: والجنة تجري فيها من تحت تلك الغرف أنهار عذبة الماء، وفي ذلك كمال بهجتها وزيادة رونقها
قال السراج المنير: لما كانت المنازل لا تطيب إلا بالماء وكان الجاري أحسن أشرف قال تعالى {تجري من تحتها} أي: من تلك الغرف الفوقانية والتحتانية {الأنهار} أي: المختلفة كما قال تعالى: {فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} (محمد: 15)
قال أبو حيان: والضمير في {من تحتها} عائد على الجمعين، أي من تحت الغرف السفلى والغرف العليا، لا تفاوت بين أعلاها وأسفلها وانتصب
جامع لطائف التفسير: (1) وما المانع من أن تجري أنهار الجنة من تحت مساكنها وغرفها وقد قال الله تعالى ” لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار ” [الزمر: 20] بل وتجرى من تحت أهل الجنة أنفسهم لقوله تعالى (تجرى من تحتهم الأنهار) [الأعراف:43]و[يونس[9]و[الكهف 31] والنعيم في الجنة – رزقنا الله وإياكم أجمعين – لا يخضع للمتعارف عليه من قوانين في الدني وروي أن أنهار الجنة ليست في أخاديد، وإنما تجري على سطح الجنة منضبطة بالقدر حيث شاء أهلها.
قال الطبرسي: تجري من تحتها الأنهار » أي من تحت الغرف «
قال حبنكة: تجري من تحت هذه الغرف ومن تحت قصورها التي هي مبنية فوقها الجميلة الرائعة التدفق والجريان زيادة في نعيم أهل الجنة الذين كانوا قد اتقوا ربهم
القول الثالث:
قال السعدي: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} المتدفقة، المسقية للبساتين الزاهرة والأشجار الطاهرة، فتغل بأنواع الثمار اللذيذة، والفاكهة النضيجة.
.قال الطبري: يقول تعالى ذكره: تجري من تحت أشجار جناتها الأنهار.
قال القرطبي: تجرى من تحتها الانهار ” أي هي جامعة لأسباب النزهة.

قال الطوسي: لمؤمنين الغرف ” تجري من تحتها الانهار ” وتقديره تجري من تحت اشجارها الانهار، ثم بين تعالى أن الذي ذكره من ثواب المؤمن
قال الأمثل: وكشفت الآية أيضاً عن أن غرف أهل الجنّة الجميلة قد زينت بأنهار تجري من تحتها (تجري من تحتها الأنهار) نعم، هذا وعد الله (وعد الله لا يخلف الله الميعاد)(1).
لطفية:
ابن عطية: وعادلت {غرف من فوقها غرف} ما تقدم من الظلل فوقهم وتحتهم.الفخر الرازي وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل البيضاوي {تجري من تحتها الأنهار} أي من تحت تلك الغرف
فالحاصل: أن في القرآن الكريم ثلاثة تعبيرات:
التعبير الأول: تجري من تحتها الأنهار: والتركيز فيه على جري الأنهار من تحت أشجارها وغروسها وثمارها.
التعبير الثاني: من تحتهم الأنهار والتركيز فيها أنهم عندما يكونون جالسين في القصور والغرف والأسرة أو ماشين فالأنهار تجري من بين أيديهم وأمامهم.
التعبير الثالث: غرفا تجري من تحتها الأنهار وهنا تحتمل معنيين أن الانهار تجري من بينها أيديها وأمامها والاحتمال الثاني أنها تخترقها وتكون تحتها حقيقة وهذا عليه الجمهور.

*******************

سابعا: شرح آية تحتاج مزيد توضيح:
{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (43/51)
معنى (من) في (من تحتي) كما تقدم في تجري من تحتها الأنهار لكن في معنى التحتية في قوله تعالى حاكيا عن فرعون (من تحتي) قولان:
القول الأول:
تحت قصري من أسفل مني وأنا مشرف عليها.
اختاره: الخازن وابن جزي والصابوني والمنتخب ومقاتل ومكي، والسمعاني والبغوي وابن الجوزي والنسفي والجلال والشوكاني والوسيط لمجمع البحوث المصرية، الميرغني ابن سعدي.
قال الخازن: وكانت تجري تحت قصره وقيل معناه تجري بين يدي جناني وبساتيني، وقيل تجري.

القول الثاني:
من تحتي: أي من تحت قهري وملكي أي بأمري وقبضتي أضعها حيث شئت، فهي كناية عن التسخير كما يقال: دخلت البلدةُ الفلانية تحت الملك فلان للتمكن من تصاريف النيل
اختاره:الحسن أبو حيان واطفيش الطوسي الواحدي الطبرسي الآلوسي وغيرهم.

القول الثالث: قتادة الطبري مكي السمرقندي الثعلبي
بين يدي الجنان والبساتين أي تجري بين يدي في جناني وبساتيني.
الراجح عندي:
أن القول الأول مراد أصالة والقولين الآخرين التزاما لأنها كناية أريد منها الحقيقة واللازم، فالمراد تجري تحت قصري من أسفل مني وأنا مشرف عليها، وهذا يستلزم أنها تحت قهري وملكي بأمري وقبضتي أضعها حيث شئت كجناني وبساتيني، وهذا مقصود الكلام فهي كناية عن التسخير، فالأنهار التي أشار إليها هي الخلجان الكبار الخارجة من النيل، وأعظمها نهر الإسكندرية وتنيس ودمياط ونهر طولون، كانت تجري تحت قصره وممالكه بأمره وقبضته يضعها حيث شاء في أي موضع أراده ووجهها، وهو مشرف عليها.
واختار الجمع البقاعي والمراغي
قال البقاعي: وكأنه كان قد أكثر من تشقيق الخلجان إلى بساتينه وقصوره، ونحو ذلك من أموره فقال: {تجري من تحتي} أي من أي موضع أردته بما لا يقدر عليه غيري، قال المراغي: حيث قال: أي إنه جمع قومه ونادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها وجري الأنهار المنبثقة من نهر النيل تحت قصوره وتحت جنانه وضياعه.

 

[1] فكل ما تحت الثرى له سبحانه وهي أشياء لا يعلم كثرتها وعظمتها إلا الله، وقد أثبتت الأبحاث الحديثة أن ما تحت الثرى من الحيوانات فقط لو وضعت فوق الأرض لغطب الأرض امتارا كثيرة هذا غير الكنوز والمعادن وما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
[2] إشارات الإعجاز (1/199).
[3] أي التصريح على التوضيح للشيخ خالد الأزهري على أوضح المسالك لابن هشام.
[4] وجميع المعاني راجعة إلى الابتداء، فمثلا من إن دلت (من) على التبعيض نحو {تأكل الطير من رأسه} ففيها معنى الابتداء والتبعيض معا فهي تبتدئ الأكل من الرأس ولا تستوفي، وهذا الذي اختاره المحققون كالزمخشري وعبد القاهر والسكاكي وابن يعيش والكيا الهراسي وابن السراج شارح كتاب سيبويه وابن سيده وابن العربي: قالوا وفي كلِّ تبعيض معنى الابتداء أي ان أصل (من) المبعضة: ابتداء الغاية، قال السامرائي في معاني النحو:وذهب بعضهم الى كون التبعيض راجع الى ابتداء الغاية كما في المقتضب قال ابن يعيش: فإذا قلت: أخذت من الدراهم درهما، فانك ابتدأت بالدرهم ولم تنته الى آخر الدراهم فالدرهم ابتداء الأخذ الى أن لا يبقى منه شيء ففي كل تبعيض معنى الابتداء اه معاني النحو
قلت يؤيد هذا الفرق بين أخذت بعض الدراهم وأخذت من الدراهم ففي الأخير المتبادر أنك ابتدأت الأخذ منها وأن الأخذ كان لبعضها لا لكلها بخلاف أخذت بعض الدراهم لا يفهم منها لا التبعيض.
قال السكاكي في مفتاح العلوم: من لابتداء الغاية، ثم تستعمل للتبعيض وللتبيين كنحو أخذت من الدراهم وعندي عشرون منها لرجوعها على معنى الابتداء قال أبوحيان: وَقَالَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي مَاذَا مِنْ هَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ؟ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَصْلَهَا ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، وَالْبَاقِي رَاجِعٌ إلَيْهَا، وَحَكَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ فِي ” شَرْحِ الْإِيضَاحِ ” عَنْ الْمُبَرِّدِ.
وَمَعْنَاهُ فِي التَّبْعِيضِ أَنَّ ابْتِدَاءَ أَخْذِك كَانَ مِنْ الْمَالِ، وَقَطَعَ بِهِ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ، وَقَالَ: لَا تَنْفَكُّ ” مِنْ ” عَنْ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ التَّبْعِيضُ وَبَيَانُ الْجِنْسِ بِقَرِينَةٍ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَمِنْ الْمَجَازِ.وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ صَاحِبِ ” الْمُفَصَّلِ ” أَيْضًا، وَحَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي ” الْمَحْصُولِ ” عَنْ ” شَرْحِ سِيبَوَيْهِ ” لِابْنِ السَّرَّاجِ.ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ صَحِيحٌ فَإِنَّ كُلَّ تَبْعِيضٍ ابْتِدَاءُ غَايَةٍ، وَلَيْسَ كُلُّ ابْتِدَاءِ غَايَةٍ تَبْعِيضًا، وَجَرَى عَلَيْهِ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ، وَأَنْكَرَ مَجِيئَهَا لِلتَّبْعِيضِ.
قَالَ: وَإِنَّمَا وُضِعَتْ لِلِابْتِدَاءِ عَكْسُ ” إلَى “، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ التَّبْيِينَ إلَى ذَلِكَ، فَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ}: إنَّ الْمُرَادَ ابْتِدَاءُ اجْتِنَابِهِمْ الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ.وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ مَغْمُورٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَغَيْرُ مَقْصُودٍ، وَفِي بَعْضِهَا لَا يَجِيءُ إلَّا بِتَمَحُّلٍ “.يقول علي هاني: يهمنا ما نقله أبو حيان من الذين قالوا أصل من ابتداء الغاية وأما رده فموضع نقاشه غير هذا المكان.
[5] في قول البقاعي رحمه: (ولما كان عموم الماء لجميع الأرض غير ممدوح) ـ نظر لأن حذف من لا يدل على عموم الماء لجميع الأراضي بل يدل على كثرته ووفرته بدليل ما سيأتي في سورة التوبة {تجري تحتها الأنهار}.
[6] كون من تفيد أن الأنهار تجري تنبع منها سأذكره قولا مستقلا ولست أوافقه في أن من تشير إليه وإن كان ممكنا ومما يؤيد ما أقول أن النيل لا ينبع من مصر وقال فرعون {وهذه الأنهار تجري من تحتي)
[7] كثير من العملماء عبر بعلية وهي كما يقول الشهاب والقونوي قال الشهاب: الغرفة العلية وهي والمراد ما ارتفع من البناء كالقصر قال القونوي العلالي جمع علية وهي بمعنى الغرفة والمراد به ما ارتفع من البناء كالقصر قال أهل اللغة:، عُلِّيَّة قال وهي فُعُّولة وفِعِّيلة لأن معنى العُلُوِّ قائمٌ فيه قال الراغب: وباعتبار العلو قيل للمكان المشرف وللشرف العلياء والعلية تصغير عالية فصار في التعارف اسما للغرفة
[8] قال الآلوسي:عوالى من در وزبرجد وياقوت، وذهب وفضة في (بل) قولان:1) القول الأول: قالوا