إشراقات إيمانية في شهر الصيام | المقالة التاسعة والعشرون | الشيخ أنس الموسى

الصوم عبادة السرّ

          الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا.

          أيها الأحبة: ذكرنا في اللقاء الماضي أن الصيام عبادةٌ تترك بصمتها في المسلم سيراً وسلوكاً وتشارك في تكوينه ظاهراً وباطناً ومن أكبر البصمات التي تَنْتج عند الصيام هي أن الصيام يورث الصائم مراقبة الله سبحانه وفي الحديث الإلهي: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ» [1]

«إلا الصوم فإنه لي»: الصوم عبادة تحتاج لنيةٍ مكانها القلب والنية في الصيام تتأتَّى من الترك لا من الفعل؛ لأن الصيام ترك وامتناع عن المفطرات، والترك أيها الأحبة: حتى الملائكة لا تراه.

– إذن هو سرٌّ بين الصائم وبين ربه لا يعلم حقيقة هذا السرّ إلا المطّلع على ضمير الصائم وباطنه يوم تبلى السرائر.

ومن باب التقريب: ربنا يقول في سورة النجم: ﴿فأوحى إلى عبده ما أوحى﴾ [النجم: 10] لم يذكر ربنا ما أوحاه للمصطفى فهو سر بين الرب سبحانه وبين عبده وبينه

ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا       سرٌّ أرقُّ من النسيم إذا سرى

          أيّها الأحبة: كل عبدٍ ينبغي أن يكون بينه وبين ربه علاقة خاصة (سرّ) خبءٌ لا يعلمه ولا يطلع عليه إلا الله؛ كالمناجاة بمراتبها والتململ على أعتاب الله وذرف العيون شوقاً وتحناناً للرب جل وعلى، كقول القائل: “ما بيني وبين حبيبي سرٌّ لا يعلمه إلا الله”.

          أيها الأحبة الصلاة والحج عبادات لا يستطيع العبد إخفاءها فالصلاة في المسجد والحج في المناسك أمّا الصوم فإنه يعلِّم معنى السِّرية بين العبد وبين الرب سبحانه. 

– كلما اشتد عطشك وخلوت بنفسك وأمامك الماء البارد الرِّواء ومع ذلك تؤْثِر العطش ولو شربت ما رآك أحد لكنك تستحضر أن الله يراك، وكلما كثُر استحضارك لهذه المعاني في الصيام وفي غير الصيام كنت أكثر قربًا من الله عز وجل فالامتناع عن متطلبات النفس لبُّه ولُبابه أنك حاضر مع الله. طوبى لمن ترك شهوةً عاجلة لوعد غيبٍ لم يره.

 إن كان رضاكم في سهري فسلام الله على الوسَن.

           الترك يا إخوتي ألمٌ؛ ولكن لأن هذا الترك يرضي الرب سبحانه صار محبوباً وعذباً لا عذاباً وفرحاً لا غمًّا؛ لهذا ندرك لمَ كان سيدنا يوسف عليه السلام يحبُّ المكروه؛ لأن هذا المكروه يبعده عما لا يحبه الله ﴿قال ربِّ السجنُ أحبُّ إليَّ ممَّا يدعونَنِي إليه﴾ [يوسف: 33].

          أيها الأحبة مهما تكدَّست الأعمال فإنها لا تفيد ما دامت مشوبةً بالرياء وهو الشرك الخفي الذي كان من أخوف ما يخافه المصطفى على أمته.

          الرياء: خفي جداً بل أشدُّ خفاءً من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء؛ إذن هو بحاجة ليقظة قلب لندرك أبعاد الرياء وخطره.
إذا أخرجت مالك لتعطي من أجل أن يثني عليك الناس فهذا يعني أنك خلطَّتَ العمل بحبِّ ثناء الخلق وهذا لون من ألوان الشرك ولا يخلصك من هذا إلا مراقبة الله عز وجل واستحضار معنى قول عائشة رضي الله عنها “إن الصدقة لتقع في يد الرب قبل أن تقع في يد العبيد.
إن الصدقة في السرِّ تساعد على استحضار الإخلاص ونبذ الشرك فالرياء محبطٌ للعمل.

           قال رسول الله : «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» [2].

          إنَّ شرك السرائر محظور محذور كما قال المصطفى ﷺ: «إياكم وشركَ السرائر يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته جاهدًا لما يرى من نظر الناس إليه فذلك شركُ السائر» [3] تلحظ الخلق بقلبك فتدفعك هذه الملاحظة لتحسين العمل وتجويده؛ قد تبكي قد تغمض عينيك قد تتمايل قد قد.. ينشط أمام الناس ويكسل أمام الله خالقه والمطلع عليه. 

          رأى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه رجلاً على أعتاب الله ساجداً وقد أطال السجود يتململ فقال له: “أنتَ أنتَ لو كان هذا في بيتك”.

          أيها الأحبة عبادة السر تخبرنا أن من اكتفى بنظر الله إليه لا يحتاج لنظر الخلق ومن اكتفى بسمع الله إياه لا يحتاج ليسمعه الخلق “اذهبوا إلى من عملتم من أجله فخذوا جزاءكم منه”

          وقال رسول الله في الحديث الإلهي: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه» [4].

العملُ المشتركُ لا َيقبلهُ والقلبُ المشترَكُ لا يُقبلُ عليه.

          أيها الأحبة: قد يأتي العبد بأكداس من الحسنات ومع ذلك يقول الله عز وجل للملائكة اقبلوا هذا واطرحوا هذا فتقول الملائكة: يا رب ما رأينا إلا خيراً أي الملائكة سجلوا ما رأوا.. رأوا رجلاً يقدم عملاً صالحاً يصلي يحج يركع يسجد يتصدق.. والملائكة لا غش عندها ولا محاباة يكتبون ما رأوه ومع ذلك يطرحوا هذا العمل الصالح وربما طرحوا صاحبها في النار – والعياذ بالله – كما في أوَّل ثلاثة تسعَّر بهم النار: منفقٌ وقارئٌ وشهيد.
إن الله يعلم من يريد بعمله وجه الله ومن يريد به الناس يعلم السر وأخفى من السر.
          ربنا يعلم الذين يمكرون السيئات ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ [فاطر 10]
          ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران 188]

 أخي الحبيب أنت من تعبد ولمن تعمل؟ هل نسيت أنك تتعامل مع من لا تخفى عليه خافية ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ [الحاقة 18] هل نسيت أنك تتعامل مع من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟!

          يروي سعد عن معاذ عن رسول الله : «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي» [5]

* يقول الزبير بن العوام: “ليكن لأحدكم خبءً من عمل صالح” لا يطلع عليه ملَكٌ فيكتبه ولا شيطان فيفسده بل يعلمه الله الذي لا يضيع مثقال ذرة وكفى بالله حسيباً.

* قال بشر بن الحارث: “لا تعمل لتذكر اكتم الحسنة كما تكتم السيئة”. 

* يقول محمد بن واسع: “لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بَلَّ ما تحت دموعه ولا تشعر به”. 

* يقول الحسن البصري: “لقد أدركت أقواماً ما كان أحدهم يقدر على أن يُسِرَّ عمله فيعلنه قد علموا أنَّ أبعدً العملين من الشيطان عمل السر”.

* قال وهب بن منبه: “يا بني من أسرّ عملاً صالحاً لم يطلع عليه أحد إلا الله فقد اطلع عليه من هو حسبه واستودَعَهُ حفيظاً لا يُضيع أجره فلا تخافنَّ على عمل”.

          أيها الأحبة كلما زاد المسلم في إسرار الأعمال كلما زاد ثباتُهُ وعلا شانه كالوتد المنصوب يثبتُ ظاهرهُ بقدْرِ خفاء أسفله في الأرض فيُقْتَلَعُ الوتدُ العظيم ويُعجز عن قلع الصغير، والسر فيما خَفِي. 

 ليس الشرط من عبادة السر إخفاؤها عن الناس دائماً، وإن كان هذا يساعد على استحضار الإخلاص فلا بأس، ولكن كلَّما علا مقام العبد وسَمَت علاقته بربه معرفة وحضوراً ومراقبة وخشية كلما كان أقدر على أداء عبادات السرِّ في العلانية، رحم الله من قال: “خَلوةُ العارف في جَلْوتِه”.

          وأخيراً أيها الأحبة: عبادة السر زورق من ركبه نجا، وعبادة من اعتادها طهُر قلبه وصقِل من أدران الرياء وتهذَّبت نفسه.
وما أجمل أن يكون بين المؤمن وبين ربه لحظاتٌ خاصة من ذكرٍ ودعاءٍ ورجاءٍ وتبتلٍ ومناجاةٍ وضراعةٍ وتذللٍ وتململٍ وإغاثةُ ملهوفٍ وإطعامُ جائعٍ ومسحٌ على رأس يتيم وجبرُ خاطرٍ وغير ذلك من أنواع القربات.
ومهما شرَّقت أو غرَّبت فلن تر من الله القبول إلا إذا كان عملك قائماً على الإخلاص.

فاللهم تقبل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا ووفقنا ليكون لنا خبءٌ من عمل صالح نلقاك به وأنت راضٍ عنا اللهم ارزقنا الإخلاص، اللهم وفقنا لمحابِّك وألهمنا مراشِد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] صحيح البخاري: باب ما يذكر في المسك (7/ 164) ح (5927).

[2] صحيح البخاري: باب الصدقة باليمين (2/ 111) ح (1423).

[3] السنن الكبرى للبيهقي (2/ 291)، وصحيح ابن خزيمة (2/ 67)، وابن أبي شيبة (2/ 227)، وعبد الرزاق (2/ 227).

[4] صحيح مسلم: باب من أشرك في عمله غير الله (4/ 2289) ح (2985).

[5] صحيح مسلم: باب الزهد والرقائق (4/ 2277) ح (2965).