إحياءُ ذكرى المولد النبوي تعظيم يوم من أيام الله بقلم الشيخ الدكتور محمد أبو بكر باذيب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي صلى على نبيه في القدم، وشرف خلقه بالصلاة على حبيبه الأكرم، والصلاة والسلام على سيدنا مرفوع القدر، طيب الذكر، المصطفى المختار، صفوة الأبرار، محمد بن عبدالله، رسول الله، خلاصة النوع الإنساني، المرتقي في الأوج العرفاني.

اللهم صل صلاة كاملة وسلم سلاماً تاماً على حبيبك ونبيك محمد الذي ملأت عينه من جمالك، وقلبه من جلالك، ولسانه من لذيذ خطابك، فأصبح فرحاً مسروراً مؤيداً منصوراً، صلاة تزيدنا بها قرباً، وتملأ قلوبنا حباً، وعلى آله وصحبه في كل حين أبداً.

 

أما بعد؛

فما أعظم أن يعيش المرء أجواء إيمانية، في رحابِ شهر كريم، يهلُّ بقدومِه موسمُ الفرح بالحبيب صلى الله عليه وسلم، وتعقد فيه وفي غيره من المواسم المباركة مجالس المديح والوعظ والإنشاد والإرشاد. عملاً بقول المولى تعالى: (وذكرهم بأيام الله.)

مخطئٌ من يظنُّ أن ربيع الأول هو الموسمُ الأوحَدُ لإعلان الفرَح بالنبي صلى الله عليه وسلم. ومخطئٌ من يظن أن الفرحَ مخصوص بيوم أو ساعة أو شهر، أو أقل من ذلك.

إن ارتباط المسلمِ الموحد بنبيِّه الخاتم، محمد صلى الله عليه وسلم ارتباطٌ لا ينفك. هناكَ ميثاق عظيمٌ بين هذا الدين، دين الإسلام، وبين أتباعه، هو ميثاق الشهادتين، كلمتي الشهادة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله). فلا يكمل إسلامٌ، ولا يتحقق إيمانٌ بسوى هاتين الكلمتين الشريفتين. ومن هنا، نعلمُ علمَ اليقين، أن كل ما يؤدي إلى الحفَاظ على قوَّة الارتباط بالشهادتين، وكل ما يؤدي إلى ازدياد الإيمان بالله وبرسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هو من صميم الدين، ومما يجب إشاعته والحث عليه. فلا نجاة لمن لم ينطق الشهادتين، كما أنه لا يحافظ على الشهادتين ويقوم بحقهما إلا من ثبت في قلبه حب الله وحب رسوله. (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله.)

 

أيها السادة ..

إذا كان شهر ربيع قد تعود فيه الناس أن يظهروا شعار المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا شعار محمود. فلماذا ينكر على رافعيه، ولماذا ينكر على معظِّميه. نحن نعلمُ أن يوم المولد قد حصل في تعيينه خلاف بين أهل السير، وهناك قول بأنه يوم الثاني عشر، وهناك أقوال أخرى. كما هو الحال في تعيين ليلة الإسراء والمعراج. إن هذا مما ينبغي أن يذاع بين الناس، حتى لا يعتقدوا فضل أيام أو ليالي بعينها مما لم يرد في فضلها دليل قويٌ يصلح للاحتجاج.

ولكن .. دعُونا من ذلك الشأن العلمي البحثي، الذي مكانه حلق العلم، ومواضع التدريس، وقاعات البحث والنقَاش .. إن أمامنا أمةٌ عظيمة، وأمامنا ملايين مملينةٌ من المسلمين الموحدين، جميعهم في حاجة إلى ما يزيد إيمانهم، والى ما يثبت ويقوي حب الله ورسوله في قلوبهم. جميعهم بلا استثناء، في حاجة إلى التذكير بالسيرة النبوية، بالصفات المحمدية، بالشمائل الأحمدية. هل نترك هذه الفرصة السانحة، في هذا الشهر الذي اعتاد الناس فيه إشاعة حفلات المولد، فرحاً بذكرى مولد نبيهم، صلى الله عليه وسلم، ونسير إلى الاختلاف المؤلم، ونرفع العقيرة بالإنكار والنكير والتحذير!!

لنتأمل آية من كتاب الله تعالى، تحثنا نحن المسلمين، على إظهار شعار التذكير بالأيام والمواسم العظيمة، التي مرت على هذه الأمة. قال تعالى في سورة إبراهيم (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور).

أخرج مسلم في (صحيحه) [3/ 147، رقم 2698] عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: أن أهل الجاهلية كانوا يصومُون يوم عاشوراء وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمونَ قبل أن يفترض رمضانُ. فلما افترض رمضانُ؛ قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عاشُوراء يومٌ من أيامِ الله، فمن شاء صامَه، ومن شاء تركه).

أخرج النسائي في (السنن الكبرى) [10/ 137، رقم 11196] عن أبي بن كعبٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قام موسى يوماً في قومِه، فذكَّرهم بأيام الله. وأيام الله نعماؤه). وأخرج ابن ماجه في )سننه( [1/ 352، رقم 1111] عن أبي بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوم الجمعة تبارك، وهو قائمٌ، فذكَّرنا بأيام الله.

فإذا كان يوم عاشوراءَ، من أيام الله .. كما وردَ، وهو يوم نجاة نبي الله موسى عليه السلام. فكذلك كان يوم هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم وشهر هجرته من أيام الله.

وإذا كان الحق تعالى قد ذكر في الكتاب العزيز قصة ميلاد المسيح عيسى عليه السلام، وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم: (وكذلك نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك). أفلا يكون ذكرنا لحدث مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثبتاً لأفئدتنا نحن المسلمين المؤمنين به، المتبعين له، المقتدين بهديه وسنته!. ولنا في هذا المعنى سندٌ من كلام السلف الصالح، فهذا الإمام أبوالقاسم الجنيد بن محمد رحمه الله، فيما روى عنه الإمام القشيري في «رسالته» [2/ 354] بسنده: أنه سئل: مَا للمريدين في مجاراة الحكايات؟ فقال: الحكاياتُ جندٌ من جنود الله تعالى، يقوّي بها قلوب المريدين. فقيل له: فهل لك في ذلك شاهد؟ فقال: نعَم، قوله عزَّ وجل: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما تثبت به فؤادك). انتهى كلامه رحمه الله.

فكيف لا تكون أحداث سيرته، صلى الله عليه وسلم، ومنها أخبار مولده، من مثبتات الإيمان، ومحركات الشوق إليه، ومثيرات الوجد والمحبة في القلوب نحوه!.

وجاء في «تثبيت دلائل النبوة» [2/ 325]: أن أمير المؤمنين عُمر، رضي الله عنه، كانَ كثيراً ما يقومُ في الصحابة خطيباً، فيذكر لهم ما كانت فيه العرب من القلة والذلة والفقر والشقاء وشدة العيشِ، واستطالة الأمم عليها، ثم إلى أيِّ شيء آلَ أمرُها اليه، برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويقول: إنما أقولُ هذا لكم لأني سمعتُ الله يقول لموسى: (وذكرهم بأيام الله). ويأمرهم بلزوم طاعة الله، فبها غلبوا الأمم وقهروا الملوك، حتى صَار ملكهُم أعزَّ من كل ملكٍ في الأرض، ودينهُم أظهرَ الأديان وأهيبَها وأجلَّها، وأنهم ما لزِمُوا ذلك لا يزالون ظاهرين قاهرين. انتهى.

وقال القاضي الكلاعي في «الاكتفاء» [1/ 586]: «فهذه مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعوثه وسراياه التي أعزَّ الله بها الدين، ودوَّخ بها الكافرين، وشدَّ أزره فيها بمن اختاره لصحبته ونصرته، من الأنصار والمهاجرين، رضى الله عنهم أجمعين. وتلكَ أيام الله التي يجب بها التذكر والتذكير، ويتأكَّد شكر الله سبحانه على ما يسَّرته منها المقادير». انتهى. فانظر إلى قول الإمام الكلاعي: إنها يجب التذكير بها .. تعلم أهمية سرد أخبار السيرة، والتذكير بمجرياتها على أسماع المسلمين.

هذا، وقد ألف أئمة الإسلام، وعلماؤه العظام، من محدثين، ومؤرخين، وفقهاء، وأدباء، وشعراء، كتباً كثيرة، ومؤلفات عديدة، نثراً ونظماً، منها ما هو في مجلدات، ومنها ما هو في وريقات، من أخبار المولد النبوي، بين مطول ومسهب، ومختصر ومهذب. فجزاهم الله عن الأمة خير الجزاء .. لعل أكبرها وأهمها في هذا الباب، كتاب «جامع الآثار في السير ومولد المختار»، للحافظ محمد بن أبي بكر، ابن ناصر الدين، الدمشقي الشافعي (ت 842هـ). مطبوع في 8 مجلدات، جمع فيه فأوعى، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة من أخبار المولد النبوي، إلا وأتى عليها شرحاً واستدلالاً. فرحمه الله، وأجزل مثوبته.

وهنا ننبه على أمور لا بد من معرفتها:

منها: وهو أهمها، تنبيه المسلمين الحاضرين في مجالس المولد، أن يحرروا نياتهم عند حضورهم، ولا يكتفوا بالحضور لمجرد العادة، أو لغرض غير صحيح.

ومنها: أن لا يكتفى بسرد أحداث المولد، وقراءة الكتب التي ألفت فيه بخصوصه، وهي كثيرة معلومة. ويغفل عن ذكر أحداث مهمة من السيرة النبوية.

ومنها: أن يخرج الحاضرون بحصيلة قيمة من التوجيهات النبوية للفرد والجماعة.

ومنها: أن نعرض عن المعارضين، ولا نحفل بإنكارهم، لا سيما مع خلو مجالسنا من المنكرات الشرعية والمنهيات، فما هناك اختلاط، ولا هناك ما يؤثم فعله.

كما ينبغي أن يعلم المعارضون، أن مقصدنا من إحياء هذه الذكرى، إنما هو التذكير بيوم من أيام الله، كان نقطة البداية للهداية التي عمت الكون، وظهور النور الذي أشرقت الدنيا ببروزه، وبسببه جاء هذا الدين، وبلغتنا الرسالة. وليس المقصود التشبه بأهل الأديان الأخرى، ولا إحياء مآثر مبتدعة، كما يزعم بعض الناس. ولا ينبغي أن نبقى أسرى الإنكار، وننسى مقصدنا من تعظيم هذه الذكرى العظيمة ..

والحمد لله أولاً وآخراً

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم